حوارات عامة
أدوارد غاليانو عن عبرة العصر الحجري ويقينية الشك
الخوف عدونا الرئيس، يجب كَسرُه
[أدوارد غاليانو المولود في مونتيفديو( أوروغواي) عام 1940، وغادر عالمنا في 2015، يُعتبر واحداً من ألمع الكتاب والأدباء اليساريين في أمريكا اللاتينية، ترأسُ تحرير مجلتين لليسار المستقل في أوروغواي. يقول غاليانو عن نفسه: "لفترة طويلة كنتُ أكتب ما يمليه عليَّ ضميري، وعندما لم تطاوعني يدي، كنتُ أُجبرها على الكتابة. لكن منذ فترة غير قصيرة، صرتُ لا أَكتبُ، إلاّ ما يسرُّ يدي."]
س: "الكرة مدورة" عنوان أحد كتبك الصادرة بالألمانية، وهو إستعارة تبعث على الإرتخاء: كل شيءٍ ممكن، وقابل للتغيير بشكل سريع.. وكل الإتجاهات مفتوحة. عندما تنظر إلى العالم من ملعب كرة القدم ستلاحظ أنه /العالم/ مرعبٌ، لكنه دائري. إلى أيِّ مدى يمكن القول أنك إنسانٌ متفائل، يؤمن بخاتمة جيدة للأشياء؟
ج: أنا إنسانٌ لديه أمل. لكنني لا أؤمن بالأمل الخامل، الذي يبقى دون مساس، ولا يجري عليه أيَّ تغيير. فكل شيءٍ موجود لأنه يحمل نقيضه معه. حتى الحقيقة لا توجد إلاّ مع نقيضها. كذلك الأمل لا يوجد إلاّ مع اليأس... وكل شيءٍ يحدث في آنٍ واحد..
س: سابقاً إستطاعت طاقة الجماهير المُسيّسة أن تُحدث بعض التغيير حقاً، إذ إنخرطت كُتَل بشرية في أحزابٍ وحركات سياسية. أما اليوم فأن الفردانية تتغلغل في كل شيء، العزلة والشك يتسعان، ذلك أنه في ظل هيمنة السوق، غدا كل فرد ضد الآخر.الأحزاب تضمحل وتتراجع بأضطراد نسبة المشاركة في الإنتخابات. كيف ترى مستقبل الحركات السياسية؟
ج: يتراءى لي أنَّ العالم يمرُّ اليوم في زمن فقدان الذاكرة. لذلك يتعين علينا أنْ نقوم بشيءٍ يسترجع شيئاً جوهرياً بالنسبة لنا – أي ذاكرتنا الجمعية – التي يبدو أننا نسيناها: درس الحس المشترك، وهذا ما تفتقدونه في بلدكم – العراق - الآن كما ألاحظ وأسمع. فالحس المشترك هو مصدر حياتنا، الذي يمكنه أنْ يمنحنا الحرية. وإلاّ لماذا إستطاع أسلافنا البقاء على قيد الحياة رغم العصر الجليدي الذي مرّوا به؟فالكائن البشري لم يكن قوي البنية وسريع الحركة، لم يمتلك أنياباً كالفيل أو الماموث، أو فرواً طبيعياً. عليه كيف إستطاع هذا الكائن الضعيف أن يصمد ويقوى على البقاء؟ إنَّ ما أَنقذهم هو الحس المشترك: فقد دافعوا عن بعضهم بصورة مشتركة وتقاسموا الغذاءَ والخبرة والذكاء. فلو كانوا مثلما نحن عليه الآن لما أمكنهم البقاء على الأرض إلاّ فترة قصيرة.
س: هل يعني أنَّ الكارثةَ مُعلِّمتنا؟
ج: الخبرة تُرينا أنَّ الناسَ تستطيع الصمودَ إذا ما تكاتفت سوية. وهذا ما ينطبقُ سواء على العائلة أم على أرقى أشكال التنظيم الإجتماعي. لكن من ناحية أُخرى أننا مؤهلون للتمايز عن بعضنا البعض. وهذا هو التناقض الذي تشتغل عليه كل سلطة. وإلاّ لماذا يسود الكذّابون؟لأنهم بأكاذيبهم قادرون في كل مرة على حرف الناس عن مصالحهم المشتركة.
س: ذات مرة قُلتَ: "أنَ كل ثقافة سائدة هي ثقافة تبضيع، تريد أنْ توحي لنا بأمكانية فصل العام عن الخاص والماضي عن الحاضر..إلخ "
ج: لنأخذ بوليفيا مثلاً. القوى السياسية هناك منقسمة، وتوجد بينها ما لا يُحصى من خطوط التعارض والمصالح المتناقضة. ورغم ذلك تمكنت مختلف التجمعات، قبل فترة وجيزة، من توحيد نفسها في النضال من أجل هدف واحد.فقد سال الدم حين إغتالت الحكومة 80 شخصاً. لكن الحكومة سقطت! كان الأمر يتعلق بالدفاع الوطني عن غاز النفط. فيما مضى، أيام الحكم الإستعماري، كانت بوليفيا غنية بالفضة. ماتت أعدادٌ كبيرة من الناس عبيداً.بعدها جاء القرن العشرون، عصر الإغتراب، وجاء معه الإنتاج الهائل والعملاق للزنك. فماذا جلب إنتاج الفضة والزنك لشغيلة البلاد؟ أرامل وأيتام! لذلك دافع الناس عن الغاز. ونتيجة لتلك الهبّة تطوّرَ العزم على أنْ لا يجري السماح بأنْ يظل التأريخ يعيد المأساة بصورة لا نهائية!
س: هل كان ذلك عملاً للحفاظ على الذاكرة الجمعية؟
ج: هذا أولاً. وثانياً أنَّ الناس، ومن مختلف المشارب، إلتقت في لحظة مثلما تلتقي خمسة أصابع في يدٍ فاعلة، رغم علمهم أنم سيفترقون غداً، لأن هناك ما يميزهم عن بعض، ونظراً لأختلاف رؤاهم..
س: لكن إحترام الذات لدى عدد غير قليل من الناس، راح يتضاءل: فأصبحوا قابلين للأبتزاز بفعل عوامل إجتماعية وإقتصادية. هل خابَ أملُكَ في الناس كقوة تأريخية؟
ج: الأنسان بالنسبة لي مقولةٌ مجردة جداً! الأمر يتعلق، كما يبدو لي، أيَّ إنسان؟ متى؟ أين؟ ولماذا يتصرف بهذا الشكل دون غيره؟! أُفضّلُ التعامل مع الملموس على المجرد. فمثلاً أرى أن الرأسمالية ليست قَدَراً لا رادَّ له بالنسبة للأنسانية، يتحتمُ الإنصياع له بقنوطٍ إغريقي!كذلك الحال بالنسبة للزمن الحاضر فهو الآخر ليس مصيراً محتوماً، بل يجب إعتباره تحدياً يستلزم إنتاجَ معرفةٍ تؤمن بضرورة بناء عالم آخر. فغالبية سكان العالم اليوم ترى كوكبنا بأعتباره جحيماً بالنسبة لكواكب وعوالم أخرى. على المرء أنْ يتعامل بوعي مع الواقع، بأعتباره تحدياً، دون الخوف من الشك المشروع في إمكانية قيام مثل هذا العالم البديل. ومهما بدا مُخالفاً للرأي السائد، فأن هذا الشك ضروريٌ. لأنه يشكل حماية ضد التسطيح، تسطيح المقولات والأفكار.اليقينية الوحيدة التي أؤمن بقيمتها، هي يقينية الشك، بهذا المعنى يمكنك أنْ تقول عني أنني إمرؤٌ شكّاك! فالشك يناكدني ويلاحقني منذ الساعات الأولى لأستيقاضي. فهذا الشك أهم أداةٍ ضد روتين فكرٍ يؤمن بأنه يتخذ مساراً مستقيماً على الدوام.
س: تقصد أنَّ الشك لديك قيمة ومقولة فلسفية؟
ج: بالضبط! هذا ما أردتُ قوله، ولا أدري لماذا فاتني ذلك. شكراً لك على الأستدراك.
س: هل أنَ التأقلُمَ مع المُعطى (ولا نقول الإنتهازية) حق من حقوق الإنسان؟
ج: كلنا ضحايا الخوف. إنه سجن كبير ونحن سجناؤه. لقد صنع الحكام ماكنة خوف تُنتج "غازات" تُشِلُّ قدراتنا، كي لا يقوى الناس على الفعل والتصرف، فيظلون أسرى الخوف من الحياة. ما زلتُ أتذكّر إجتماعاً جرى قبل بضعة عقود لعمال المناجم في بوليفيا. كانت النساء أيضاً تلعب دوراً شجاعاً في المقاومة. وقفت واحدة من النسوة وقالت :"نحن نناقش طويلاً وبحماسة شديدة عمن يكون عدونا الرئيس، البرجوازية؟ الرأسمالية؟ دولة تابعة للأجنبي؟ أريدُ أنْ أقول شيئاً كي لا تُصدعوا رؤوسكم بمزيد من النقاشات، التي لا طائل منها. عدونا الرئيس هو الخوف، يجب كَسرُه..". سأحكي لك مثلاً من كرة القدم...
س: ها قد عُدنا إلى مبتدأ الحديث. مرة أخرى إقتباسٌ من غاليانو:"لن أستجدي مباراةً جيدة في كرة القدم.لن أجولَ العالم وملاعبه، قُبّعتي بيدي وأنادي.. حَسَنةٌ يُعوِّضها الرب!لعبة جميلة جزاكم الله..!"
ج: كذلك هي الحال! في نهاية السبعينات من القرن المنصرم جرت مباراة نهائية هامة لكأس بطولة بوغوتا بين فريقي "سانتا فَيْهْ" و"المليونيريون". وكان كل فريقٍ منهما منهمكاً في كره الفريق الآخر، وقد أهملا كرة القدم!عليكَ أنْ تتصور جاراً يكره جاره ولا شيء غير الكراهية! في تلك المباراة كان الملعب مرجلاً هائلاً يغلي بسائل شيطاني! وهو أمرٌ طبيعي في الملاعب! وقبل أنْ يُصفر الحكم بقليل إيذاناً بضربة جزاء لصالح "سانتا فَيهْ"، حيث كان اللاعب عمر لورنسو، هو الذي يتوجب عليه القيام بضربة الجزاء لأن الفاول جرى ضده.. تقدم عمر من الحكم وقال له أنَّ الخطأ (الفاول) ضده لم يكن مقصوداً، إنما تعثَّرَ هو بقدمه.. الحَكَم من جانبه أشار إلى الجمهور المستشيط حماسةً في الملعب، وأنه ضمن هكذا ظرفٍ لا يمكنه التراجع عن قراره!فماذا كان على اللاعب عمر لورنسو أنْ يفعل؟ هيأ الكرة كي يركلها. وفعل ذلك حقاً... ولكن ليس بأتجاه الهدف، بل بعيداً كل البعد عنه. كانت تلك اللحظة نهايةَ مسيرته الكروية! لكنه تفوق على خوفه وإنتصر عليه، رغم غضب الجمهور وأقرانه في الفريق، الذين شعروا بالعار.. ورغم معرفته ما سيحلُّ بمستقبله. من المؤكد أنه تحاور مع نفسه. لقد إتخذ قرارا مناسباً ومهماً له شخصياً. مثل هذا القرار نواجهه في الحياة دوماً.
س: كرة القدم عمل تجاري قاسٍ، ذلك أنَّ الأمر يتعلَّقُ بمبالغ ضخمة. لذلك فأن كل مباراة تستدعي أقصى درجات الحذر وإجراءات أمنية.. المشاهدون والمشجعون يكونون ضحايا للمضاربات وعمليات الخدعة عدة مرات. لكن رغم كل ذلك يظل ملايين الناس أُمناء لكرة القدم. وهكذا ينتصر النظام.
ج: نعم! لعبة كرة القدم، في العالم كله، قضية مثيرة للعواطف، لا نحتاج لمناقشتها، وهي من بين أكثر الألعاب قسوةً، وفي الوقت عينه لعبةٌ مُدرّةٌ لربح وفير جداً. وهذا ليس بسر، بل يعرفه كل متحمِّسٍ لها.لكن مهرجان اللعبة نفسه يظلُّ "مقدساً وطاهراً "! وفي الموقف من كرة القدم، يتبيّن أنَّ المثقفين، لاسيما اليساريين منهم، يحبّون الأنسانية بشكل عام، وليس الأنسان الملموس وسلوكه الفعلي والواقعي. لا يُنكر أنه في عصر ما يسمى بالعولمة الحالية، تغدو كرة القدم واحدة من فروع الصناعة المزدهرة جداً. لذلك فأن السرعة ورشاقة الحركة وجمالية الفعل تجري التضحية بها لصالح "عامل الأمن"!لكن إزاء هذه الممارسة يغدو المرء جزءأً من تناقض، لأنَّ الجمال والأبداع يظل رغم ذلك جزءاً من الصفقة. فكما أنَّ الناسَ لا تريد الموتَ من الجوع، كذلك لا يريدون الموت بسبب لعبة أو ممارسة مُملّة. فالأنضباط(ديسبلين) وما هو غير مُتوقّع يتقابلان مع بعض. لذلك يتعيَن على المرء أن يكون حذراً كي لا يختزل كرة القدم إلى شيءٍ متناقض. فعلى الرغم من أنَّ الربح يقتل الفرحة في اللعبة وتُقزَّمُ المخيلة وتُحرم الأقدامُ من المجازفة، مقابل ذلك يوجد دوماً لاعبون يخرقون قواعد أمن اللعبة! إذ ينتزعون حريتهم في ممارسة المغامرة الممنوعة لينطلقوا نحو هدف لا رجاء فيه!
س: هل حقاً أنَّ كلمة ثورة ما عادت أكثر من ذكرى؟ وهل أنَّ الأجيال القادمة ستقولها مصحوبة بالغَرابة؟
ج: يتراءى لي أنْ ثمة طاقة للتحول موجودة، دون أنْ تمرَّ بمرحلة الإنفجار. نحن نحيا ونتحرك، لكن لا يمكننا في الوقت عينه أنْ نحظى بنظرة شاملة ذات طابعٍ إستخلاصي لهذه الحركة. لذلك فأن الثورة لا يمكن تصورها فقط على أنها فعل عنفي "يحرث"الواقع، إنما أعتقد، بل أُؤمن بأنها تحوّل جوهري، يجري بهدوءٍ دون أَنْ يُلحَظْ. فدروس الوقائع الأخيرة صلدة. إنها دروسٌ متواضعة، تدعونا إلى الخطوة، دون القفزة!!
س: ماذا يمكنك أنْ تنصح فيديل كاسترو، لو إلتقيته فجأة؟
ج: لا شيء. لا يمكنني أنْ أكونَ معلماً لشخص آخر.
س: ليس تعليماً، بل إسداء نصيحة.
ج: إني أُحب، بل مغرم بكوبا منذ الثورة. إنها رمزٌ للكرامة في عالم تعوزه الكرامة. كوبا أكثر بلد في العالم يمتلك طاقة التضامن، التي هي أحوج ما نكون إليه الآن. كنتُ أقول دوماً أنَّ التضامن الأصيل ينبع من حرية الضمير، لا من شعور بالإلزام أو كبت الحرية. في ولائي لكوبا أرفض فكرة أنَّ كليانية الدولة نقيضٌ لكليانية السوق. لا أثقُ بأحزاب وحدة (أو مُوَحدة) ولا بأجهزة تُراقبُ كل شيء وكل فرد. لا يصمدُ أيَّ نظام يقوم على أنَّ الولاء يعني طاعةً عمياء لكل الناس إزاءَ نظامٍ، حتى لو كان أحسن النظم. فمثل هكذا نظام يجب أن يقبل بأن يكون مكروها ومرفوضاً بعض الشيء، من قبل بعض الناس. فما جدوى أنْ تُردِّدَ تراتيلَ الأحد عن الجنة، في الوقت، الذي تدري فيه أنَّ الأثنين سيكون جحيماً! لذلك فأنَّ كوبا ليست الجنةَ الموعودة. إنما هي مغامرة أرضيةٌ رائعة، وكل شيءٍ أرضي ليس طاهراً، بل مُلطّخاً بوحل الحياة!!
***
حاوره: يحيى علوان
.....................
حاورته عام 2014 في مدينة فوبرتال، حيث صدرت نسخة من أعماله الكاملة عن دار بيتر هامر المتخصصة بترجمة ونشر آداب أمريكا اللاتينية باللغة الألمانية. كانت مسودة الحوار قد ضاعت مني مع كثير غيرها من النصوص في فوضايَ مع ورقياتي، التي لم أُحسن يوماً ترتيبها.. وقد وجدتها مؤخراً بالصدفة في صندوق مركون في الزاوية، وأنا أبحثُ عن شيءٍ آخر!