اخترنا لكم
هاشم صالح: المثقف والانهيارات الخلاقة

المسافة الفكرية بيننا وبين أوروبا 200 سنة على الأقل
تشكل الرومنطيقية إحدى الحركات الكبرى في تاريخ الآداب الفرنسية. ولكنها، على عكس ما نظن، ليست حركة أدبية أو شعرية فقط. وإنما هي حركة فلسفية ضخمة رافقت كل الثورات السياسية الكبرى أو ما يدعى بربيع الشعوب الأوروبية. وقد ازدهرت الحركة الرومنطيقية وبلغت أوجها على أيدي كتاب كبار، ليس أقلهم شاتوبريان، أو فيكتور هيغو، أو جيرار دو نيرفال، أو ألفريد دوموسيه، أو لامارتين، أو سواهم... وعندما نقرأهم نجد الفكرة الأساسية التالية التي تهمنا نحن المثقفين العرب أيضاً: وهي أنها تربط بين اندلاع الحركة الرومنطيقية شعرياً وأدبياً واندلاع الثورة الفلسفية التنويرية الكبرى: أي ثورة الأزمنة الحديثة التي تحترم حقوق الإنسان وكرامته وتجلها وتقدسها أياً يكن. فهذه الثورة الكبرى أو القطيعة الكبرى قسمت تاريخ أوروبا إلى قسمين: ما قبلها وما بعدها. ولكن بما أن العالم القديم لا يمكن أن يموت مرة واحدة، وبما أن العالم الجديد لا يمكن أن يولد دفعة واحدة، فإن الجيل الذي عاش بينهما شهد كثيراً من التمزقات النفسية والانهيارات الداخلية والتذبذبات. إنه جيل العبور الصعب والاحتراق النفسي بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذه هي سمة العصر العربي المشتعل حالياً. مَن يستطيع أن ينكر ذلك؟ نعم، نحن جميعاً رومانطيقيون أو فجائعيون بشكل من الأشكال. نحن جميعاً منكوبون ومتمزقون في مجتمعات منكوبة ومتمزقة ومتذبذبة بين بين. ولن تستقر وتهدأ قبل وقت طويل. هذه صيرورة طويلة ومعقدة تتجاوزنا جميعاً. ومعلوم أن هذه التمزقات والانهيارات النفسية التي يشهدها المثقف العربي حالياً هي التي كان مثقفو أوروبا قد شهدوها في القرن التاسع عشر قبل الثورة الفرنسية وفيما بعدها. بل واحترقوا بحر نارها. يقول شاتوبريان معبّراً عن هذه النقطة بكل وضوح:
(لقد وجدت نفسي على مفترق قرنين، كما يجد المرء نفسه على مفترق نهرين. وقد غطست في المياه المضطربة مبتعداً بحسرة عن الشاطئ القديم حيث ولدتُ، وسابحاً نحو الشاطئ الآخر المجهول الذي سوف تصل إليه الأجيال المقبلة، والذي لن أراه بأم عيني).
وهذا تصوير من أجمل ما يكون لعملية النقلة أو القطيعة التي تمزقنا نحن الآن. نحن أيضاً لن نرى الشاطئ الآخر. لن نصل إليه مهما حاولنا. لا يزال بعيداً. سوف تصل إليه الأجيال المقبلة، فهنيئاً لها. ينبغي العلم بأن شاتوبريان وُلِد وعاش نصف عمره تقريباً في القرن الثامن عشر، أي قبل الثورة الفرنسية الكبرى، ثم عاش نصف عمره الآخر في القرن التاسع عشر، أي بعد الثورة (1768 - 1848). وبالتالي فقد شهد كلا العالمين، القديم والجديد. ولم يكن من السهل عليه أن يحدث القطيعة مع العالم القديم الذي وُلِد فيه ونشأ وترعرع في أحضانه. وهو عالم مسيحي، كاثوليكي، زراعي، ريفي في معظمه. هذا في حين أن العالم الجديد ابتدأ يصبح علمانياً، صناعياً، تكنولوجيّاً، فلسفياً مضاداً للدين المسيحي عموماً، أو قل للأصولية المسيحية لكي نكون أكثر دقة؛ فالحداثة لم تكن ضد الدين في المطلق، وإنما ضد التصور الانغلاقي التكفيري القديم للدين. الحداثة ولّدت تأويلاً جديداً منعشاً جداً للدين المسيحي. وهو الذي أنقذ أوروبا من براثن العصور الوسطى والحروب الأهلية والمجازر. نقصد بذلك التأويل المستنير المتسامح المضاد للتأويل الأصولي القديم. ولكن ذلك لم يتم دون مخاضات عسيرة وصراعات هائجة بين الحزب الكاثوليكي الراسخ والحزب العلماني الصاعد. لقد شغل هذا الصراع المحتدم الضاري القرن التاسع عشر كله، بل وحتى منتصف القرن العشرين. وهذا الصراع أو المخاض هو الذي ابتدأنا نعيشه نحن في العالم العربي حالياً. وبالتالي فالمسافة الفكرية بيننا وبين أوروبا هي 200 سنة على الأقل. ما عاشوه وعانوه قبل مائتي سنة نعيشه نحن الآن ونعانيه. لذلك قلت وأقول إن الزمن العربي الإسلامي غير الزمن الأوروبي. بينهما يوجد تفاوت تاريخي كبير. وينبغي أن نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار لكي نفهم ما يحصل حالياً. هذا لا يعني أننا سنقلدهم في كل شيء. أبداً. أبداً. فانحرافات الحداثة المادية الإلحادية وانزلاقاتها التي حصلت مؤخراً نحن في غنى عنها. ولا يمكن أن نقبل بها. وبالتالي فهذه القطيعة الكبرى التي نحلم بها لن تكون مع الدين ذاته ولا مع التراث العربي الإسلامي العظيم المفعم بالقيم الأخلاقية والروحية والإنسانية. وإنما ستكون فقط مع المفهوم الظلامي والتكفيري والإبادي للأصولية الدينية والفصائل المتطرفة.
لكن لنعد إلى الصعيد الأدبي والشعري المحض. في الواقع، فإن الحركة الرومنطيقية الفرنسية يمكن حصرها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبالتحديد بين عامي 1800 - 1869. بهذا المعنى، فإن بودلير نفسه ينتمي إلى الحركة الرومنطيقية بالمعنى النبيل للكلمة، أو قل إنه يضع رجلاً هنا ورجلاً هناك: أي رجلاً في الحداثة ورجلاً فيما قبل الحداثة. وهذا يعني أن بودلير كان آخر الرومنطيقيين وأول الحداثيين. والأمر ذاته ينطبق على جيرار دو نيرفال الذي سبقه بسنوات قليلة. لقد أغلق بودلير المرحلة الرومنطيقية في الشعر، ودشن المرحلة الحداثية، دون أن يعني ذلك أن الرومنطيقية ليست حداثة؛ فالواقع أنها تمثل الحداثة الأولى والكبرى إذا جاز التعبير، بعدئذ سوف تجيء الحداثة الثانية التي لا نزال نعيش فيها حتى الآن. ولكن الحداثة الشعرية لم تكن شعرية فقط، وإنما فكرية أيضاً. لم تكن فقط كسراً للأوزان والقوافي، وإنما كسراً لكل الأفكار والحساسيات التقليدية المصاحبة لهما. كانت تنطوي على مضمون فلسفي عميق. ولهذا السبب كرهها التراثيون في العالم الفرنسي والعالم العربي على حد سواء وشنوا عليها الحملات الشعواء. بل واعتبروها وكأنها بمثابة انتهاك للمقدسات. ذلك لأنها كانت ثورة الشكل والمضمون في آن معاً. لقد كانت ثورة الحرية والانفجار الغاضب بعد طول احتقان. لقد كانت تحريراً هائلاً للطاقات المكبوتة. لقد أدَّت الحداثة إلى تحطيم الأشكال الكلاسيكية وانهيار القديم. بهذا المعنى، فالانهيارات شيء إيجابي جداً وخلاق ضمن حركة التاريخ. ولكن رافق كل ذلك نوع من الهلع والجزع أمام العالم الجديد الذي ينفتح أمام الشاعر على مصراعيه. لنستمع إلى أحد كبار الشعراء الرومنطيقيين الفرنسيين، ألفريد دوموسيه، يتحدث عن تلك الفترة، عن تلك القطيعة المرة:
«واأسفاه! لقد انتهت أصولية الدين المسيحي الراسخة بعد الثورة الفرنسية. انتهى كل شيء كنا قد تربينا عليه طيلة قرون وقرون. ولم يعد لنا أي أمل. لم نعد ننتظر أي شيء من غياهب المجهول. وأما شمس المستقبل فلم تبزغ بعد. يا له من ظلام حالك يطبق على وجه الأرض! وعندما يطلع الفجر الجديد سوف نكون قد متنا...».
وأما جيرار دو نيرفال فيعبر عن الفكرة ذاتها، قائلاً ما معناه: «لقد أصبح الإيمان الأصولي القديم مستحيلاً في هذا العصر. ونحن الذين وُلدنا في أيام الثورات الكبرى والأعاصير، حيث انهارت جميع العقائد التراثية الراسخة يصعب علينا أن نجد إيماناً جديداً... من هنا قلقنا ورعبنا. من هنا هلعنا».
بمعنى آخر: نحن جيل القطيعة الكبرى، نحن جيل الاحتراق والعبور. نحن جيل الموت والولادة في آن معاً. ولكننا واأسفاه سوف نشهد موت العالم القديم حتى النخاع، دون أن يتاح لنا أن نكحل أعيننا بولادة العالم الجديد... هذا هو قدرنا ومصيرنا... نحن جيل التضحية وكبش الفداء. والعالم الجديد لن ينهض إلا على أنقاضنا. لا أعرف لماذا تذكرني هذه الفكرة بتلك الابيات الرائعة لخليل حاوي:
يعبرون الجسر في الصبح خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيدْ
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديدْ
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيدْ
هل تنبَّأ خليل حاوي بتلك القطيعة الكبرى التي ستفرض نفسها علينا يوماً ما، شئنا أم أبينا؟ أقصد القطيعة بين القدامة والحداثة، أو بين الأصولية وما بعد الأصولية؟ هل أرهص بها؟ ولكن كل الشعر العربي الحديث أرهص بها. لماذا هاجت عليه الهوائج؟ وهي قطيعة إجبارية محتومة إذا ما أردنا الانتقال من عصر بن لادن وكهوف تورا بورا إلى عصر الهواء الطلق والحداثة والحرية؟ على أي حال، يبدو أن الشاعر اللبناني أحس بخطورة المسألة ورعبها، وربما لهذا السبب انتحر. مجرد افتراض لا أكثر.
***
د. هاشم صالح
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 28 سبتمبر 2025 م ـ 06 ربيع الثاني 1447 هـ