كتب واصدارات

كتب واصدارات

الرسامون هم بين الباحثين عن حجر الفلاسفة، هؤلاء الذين إقتربوا من طبيعة سر التوازن الكوني. من هنا نشأت أهميتهم في الحياة العصرية. أنا أعني الرسامين الحقيقيين، العظام.العلماء، مثل الرسامين، يجرون وراء سر الحياة، والحقيقيون، العظام منهم، يخرقون ما وراء المظاهر. وبحثهم نزيه أيضاً، وهو يعني شيئاً بسيطا جداً :إعطاء البشر الجنة الأرضية ثانية.

جان رينوار من كتابه " رينوار... أبي"

كان أبي ينتظرني جالساً على كرسيه المتحرك، لم يعد يقوى على المشي، منذ سنوات عدة، وجدته أكثر هزالاً من المرة الأخيرة التي رأيته فيها قبل أن أغادر إلى الجبهة"

مذكرات جان رينوار التي نشرتها دار المدى بترجمة عباس المفرجي، حدث فني وثقافي بالغ الأهمية والأثر، استوت فيه لغة الأدب على عرش الفن، بالغ الاقتصاد، بالغ الإفصاح، مقتدر في التعبير عن خفايا النفس البشرية، رحب في المضمون، يضم أسرار فترة زاهية من التاريخ الثقافي في فرنسا.

عندما انتهيت من قراءة الكتاب بصفحاته الـ"500"اكتشفت أن رينوار المخرج أراد أن يجلس على كرسي والده الرسام ليقدّم لنا لوحة متناقضة الألوان، ويعلمنا أسرار حرفة الفن.. فالصفحات التي كتبها أشبة بقطع فنية من معدن نفيس نادر.

يعود إلى ذكريات الطفولة"كان أبي وهو يحدثني عن طفولته، ينتثل بلا تمهيد من الوصف الحماسي للجمال المعماري للحيّ الذي عاش فيه، إلى الثناء الذي لا يقل حمية عن لعبة الدعبل".

نراه ينظر بأسى إلى شارعهم القديم وقد تغيّر: "ثمة أشجار برتقال قرب منزلنا مغطاة بالزهور، أحدّق بها واستنشق عبيرها، حين أرى شجرة برتقال تكسوها الزهور أفكر في شارعنا، والتفكير يستحضر في الحال هيئة أبي، هناك قضى أجمل السنوات الأخيرة من عمره."

ترى أين ذهبت أشجار البرتقال؟

ليست الأفكار والذكريات التي تطرحها هذه القطع الفنية حكايات كتبت لكي تُقال، لكنها أفكار ولدت لكي تكتب بأدقّ تفاصيلها وظلال ألوانها، تقدّم للقارئ وكأنها شريط سينمائي له روح وجسد.. إن رينوار الابن يرى حياة رينوار الأب بعين أشبه بعدسة الكاميرا.

في رسالة يبعثها المخرج السينمائي جان رينوار الى أحد ناشري الكتب يقول فيها:"إن ما أريد أن أقوم به هنا إنما هو محاولة لصوغ ما أملكه من تجميع لمحادثات كنت أجريتها مع والدي خلال السنوات الأخيرة من حياته، في معظم الأحيان. في الحقيقة أنني لن أنقل الحوارات الحقيقية التي لا أتذكرها، لكنني سأحاول أن أعطي فكرة عن انطباعاتي القديمة حول لقاءاتي معه، وعن الكيفية التي تمارس فيها تلك اللقاءات تأثيرها عليّ حتى اليوم. وهي كانت تشهد بيننا تلك المحادثات التي تطاول كل شيء: تجارب والدي الماضية، طفولته، عائلتنا، أصدقاؤه، ملابسات حياته وإدارتها. وكذلك تطاول كثيراً من الشكوك التي كانت تدور في خلده في ما يتعلق بالتبدلات السريعة التي تحدث في عالمنا المعاصر». كان تاريخ الرسالة آذار عام 1953، ارسلها المخرج السينمائي من هوليوود حيث كان يقيم هناك، معلناً للمرة الأولى عن رغبته في إصدار كتاب حول أبيه يروي فيه حكاية الابن مع والد مشهور، كان رينوار آنذاك في التاسعة والخمسين من عمره، وقد مضى اكثر من ثلاثين عاماً على رحيل والده الرسام الشهير أوغست رينوار، والذي كان يعد أبرز روّاد المدرسة الانطباعية، وبعد تسع سنوات ينتهي الابن من كتابة سيرة الاب عام 1961.

عندما صدر الكتاب كان جان رينوار يبلغ من العمر ثمانية وستين عاماً، بعنوان"رينوار ابي" حيث يعيد فيه المخرج الشهير لحظات حميمية وممتعة جمعته بوالده شيخ الانطباعيين، وإضافة إلى ذكريات الابن عن والده، استعان رينوار بعدد كبير من معارف والده والمقربين منه، ما إن تنتهي من الصفحة الأخيرة من الكتاب حتى تشعر كقارئ بأن أمواجاً لا تنتهي من الذكريات تأخذك الى عالم ساحر.. المذهل في"صفحات رينوار ابي"أنك وأنت تقرأ تشعر بأنّ كل صفحة من الكتاب أشبه بقطعة شعر صغيرة، تتبع مسار شاعرها.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

مبحث الوعي في الفلسفة المعاصرة

اهداء

الى ابنتي الغالية بان اليوسف على جهدها المثابر

بمساعدتي تنضيد الكتاب

المحتويات

المقدمة

الفصل الاول: مصطلح الوعي القصدي الفلسفي

الفصل الثاني: اشكالية وعي الذات فلسفيا

الفصل الثالث: الصوفية وعي الذات والطبيعة

الفصل الرابع: الوعي واللغة  في تخليق الوجود

الفصل الخامس: الوعي الادراكي والسلوك النفسي

الفصل السادس: الوعي (ديكارت، برينتانو، هوسرل)

الفصل السابع: الوعي القصدي في تداخل العقل واللغة

الفصل الثامن: تخارج اللغة والفكر في التعبير عن الاشياء

الفصل التاسع:  التحول اللغوي ونظرية المعنى

الفصل العاشر: وعي الذات في الوجودية والفينامينالوجيا

الفصل الحادي عشر: لغة الصوت خاصية التعبير عن المعنى

الفصل الثاني عشر: الانسان مقياس كل شيء.. بروتاغوراس

الفصل الثالث عشر: الوعي وفلسفة العقل

الفصل الرابع عشر: غياب الزمن في وهم الدلالة

الفصل الخامس عشر: انحراف التحول اللغوي ونظرية المعنى في الفسفة المعاصرة

الفصل السادس عشر:حدس المكان والفراغ

الفصل السابع عشر: تمثل الادراك وتعبير اللغة عن الوجود

الفصل الثامن عشر: فائض المعنى في الوعي واللغة

الفصل التاسع عشر: الادراك الصوري وتعبير اللغة

الفصل العشرون: آلان تورين الذات والحرية المسؤولة

الفصل الحادي والعشرون: الوجود ادراك لغوي

الفصل الثاني والعشرون:اللغة التوليدية الفطرة والسيرورة المكتسبة

الفصل الثالث والعشرون: ماهية العقل بدلالة بيولوجيا الجسد

الفصل الرابع والعشرون:مصداقية تعبير اللغة وقصور الفكر

الفصل الخامس والعشرون: مداخلات فلسفية تحليلية نقدية

الفصل السادس والعشرون: وعي الذات الخالص ميتافيزيقا وهمية

الفصل السابع والعشرون: الوعي القصدي في فلسفة جون سيرن

الفصل الثامن والعشرون: ميتافيزيقا الوجود بدلالة الجوهر

الفصل التاسع والعشرون: حوار الفلاسفة (ارسطو، ديكارت،اسبينوزا، بيركلي)

الفصل الثلاثون: اشكالية الادراك الانطولوجي

الفصل الواحد والثلاثون: الادراك الصوري وتعبير اللغة

الفصل الثاني والثلاثون: الجوهر والطبيعة

المقدمة

مارست النشر في الصحف العراقية والعربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتقالتي الثقافية النوعية نحو الفلسفة تحديدا كانت في عام 2004 حين اصدرت كتابي الاول سيسيولوجيا الاغتراب قراءة نقدية منهجية طبعة محدودة على نطاق مدينة الموصل ونشرالكتاب بعدها بطبعتين الاولى عام 2011، عن دار الشؤون الثقافية ببغداد والطبعة الثانية عن دار الموسوعات العربية في بيروت عام 2013، وصدر الكتاب طبعة ثالثة عن دار غيداء بالاردن وعرض مع مؤلفات اخرى لي في معرض بغداد الدولي للكتاب 2022 لاول مرة..

إنتقالاتي الثقافية هذه قادتني اخيرا نحو المنهج النقد الفلسفي في قراءة بعض تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، لم تأت الانتقالة نحو الفلسفة حصيلة دراسة اكاديمية، بل جاءت نتيجة تراكم خبرة ثقافية متنوعة مارستها كتابة ونشرت لما يزيد على  على اربعين عاما في مختلف الاجناس الادبية التي لم اجد طاقتي تستوعبها بتفرد متميز بين سيول من الزبد الذي تسيد ويتسيد مرافق المسؤولية الثقافية والفكرية والادبية بممارسات غير نزيهة تطعن السمعة الثقافية عربيا وعالميا.،

كتبت مجموعة شعرية بعنوان (توهج العشق .. احتضار الكلمات) وكتبت في متنوعات الاجناس الادبية في القصة القصيرة والنقد وفي الثقافة عموما فكانت الحصيلة صدور كتابي (جهات اربع .. مقاربة في وحدة النص) صدر عن دار دجلة في عمان بالاردن  عام 2010 وأعترف الآن بعد مضي 12 عاما  على صدوره انه كان مجموعة خواطر اردت  دمجها في نص اجناسي ادبي غير فلسفي فكانت تنويعات في الادب موزّعة بين القصة القصيرة والشعر والنقد الادبي والخاطرة.

استطيع اختصر لماذا تحوّلت حصيلة مجهوداتي في النشر والتاليف الادبي والثقافي عموما لتستقر في الفلسفة:

الاولى أصبح عندي ميلا ثقافيا شديدا نحو الفلسفة يؤمنه لي هاجسي المدفون في اعماق تجربتي الادبية والصحفية المتواضعة التي وجدتها لا تلبي ما يعتمل في دواخلي النفسية الفكرية من ميل كبير نحو الفلسفة. حيث نضجت تماما عندي في منشوراتي ومؤلفاتي الفلسفية بعد عام 2015 تحديدا.إذ كانت كتاباتي ومؤلفاتي قبلها مزيجا من الادب والفكر والنقد الثقافي تتخللها مطارحات فلسفية عابرة.

الثاني اني لم اكتب مقالا واحدا بالفلسفة متاثرا بالنمط التقليدي الاكاديمي المترجم في نسخ اجتزاءات من تاريخ الفلسفة تعنى بفيلسوف معيّن بشكل حرفي اكاديمي استعراضي يعتمد مرجعية ومصدر تاريخ الفلسفة في متراكمه الاستنساخي الثابت المعاد والمكرر، كما وردنا في قناعة خاطئة على أن تاريخ الفلسفة لا يحتمل النقد النوعي في التصحيح أو الاضافة بل إعتماد النسخ الاستعراضي التكراري المشبع بالتمجيد المجاني بلا اضافة تجديدية  ولا حتى استيعاب جامعي.

حدثني طالب جامعي انه حين اراد التحضير لنيل شهادة الماجستير في موضوع فلسفي واخذ عدة كتب تهم موضوعه واذا به يجد في اربعة كتب نفس الاستنساخات الحرفية حول موضوعه بالنص الحرفي المنقول.

وكان السائد قبل ظهور فلسفة اللغة والعقل ونظرية المعنى بداية القرن العشرين أن تاريخ الفلسفة عند اليونانيين والهنود والصينيين وفي بلاد العالم هو من القدسية التي مرتكزها الثابت مرتكز إعادات وتكرارات لسير ذاتية تخص حياة ومنجزات فلاسفة قدامى ومحدثين منسوخة اعمالهم في الترجمة الحرفية العربية اشبعت تناولا فلسفيا عند عشرات من الاكاديمين العرب العاملين على ترجمة قضايا الفلسفة الغربية في غياب منهج النقد من جهة والشعور بعدم الندّية المتكافئة مع آراء اولئك الفلاسفة بالحوار الموضوعي فلسفيا. وغالبا ما تخون الترجمة الى العربية اصالة النص الاجنبي الفلسفي المترجم وتلقى مسؤولية تهمة الخيانة على اللغة وليس على ترجمة المؤلف غير المؤهلة ولا الامينة..

بخلاف هذا المعنى والتوجه مارست الكتابة الفلسفية (نقدا) منهجيا عن يقين ثابت  لافكار كبار فلاسفة غربيين وجدت في ثنايا مقالاتهم وكتبهم الفلسفية المترجمة الى العربية ثغرات فلسفية خاطئة لا يمكن التسليم والاخذ بها وتمريرها كمسلمات دون مراجعة نقدية صارمة لعيوبها المستترة خلف اسم وفخامة و سمعة الفيلسوف الاجنبي فقط في غض النظر عن مناقشة افكاره بل الانبهار  بمنزلته في الاوساط الاعلامية كنجم فلسفي هوليودي. واترك مسالة التوفيق والنجاح في مسعاي النقدي الفلسفي في مجمل كتاباتي ومؤلفاتي للقراء والمتخصصين في الفلسفة.

من الجدير الذي اود التنويه عنه اني كنت في مسعى المنهج النقدي الفلسفي وهو مشروع عربي متواضع صائب في تقديري سبقني به غيري بنهايات مفتوحة تتقبل النقد الاضافي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن تاريخ الفلسفة الغربية قديمها وحديثها مليء بالمغالطات والاخطاء القاتلة وميتافيزيقا الافكار ومقولات فلسفية وهمية سفسطائية لا قيمة حقيقية لها تقوم على مرتكز مخادعة التفكير الفلسفي ذاته وليس مغالطة معنى اللغة في التعبير عنه كما هو الحال حين اصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولا زالت الى اليوم مزيحة عن طريقها فلسفة الابستمولوجيا ومباحث علم الاجتماع والاخلاق التي وصلت عصرها  الذي تسيّد الفلسفة قرونا طويلة على يد ديكارت ومن جاء بعده..

اذ كانت البداية الحقيقية في نظرية التحول اللغوي ومتابعة فائض المعنى اللغوي علي يد فيلسوف البنيوية دي سوسير عام 1905 ليعقبها بعد ذلك  فينجشتين وفلاسفة البنيوية وعلماء اللغة تلتها الوضعية المنطقية حلقة فينا اعقبتها تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا ليستقر مقام فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة الحديث منتصف القرن العشرين بعد تنحية ابستمولوجية فلسفة ديكارت كفلسفة اولى جانبا والتي استمرت قرونا طويلة الى فلسفات جميعها تدور حول نظرية المعنى وفلسفة اللغة كانت الغلبة الريادية فيها لفلاسفة فرنسا بلا منازع.. وبعد استلام فلاسفة وعلماء اللغة الاميركان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين والالمان والانكليز حلقة اكسفورد في فلسسفة اللغة التحليلية الوضعية بزعامة براتراند رسل ، جورج مور ، كارناب. فينجشتين، وايتهيد وغيرهم.

خلاصة كل هذا التطور في تاريخ الفلسفة كان هاجسه تاكيد حقيقة أن تاريخ الفلسفة معظمه كان افكارا وهمية ومطارحات فلسفية تجريدية سببها المباشر الاول عدم دقة فهم تعبير اللغة الدقيق في تناول قضايا فلسفية مفتعلة لا قيمة حقيقية واقعية لها، ولم يتم التنبيه الى معالجة اخطائها الفادحة الا في وقت متاخر مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي في نظرية المعنى.

ولي عدة مقالات منشورة وموزعة في ثنايا مؤلفاتي ومواقع عربية الكترونية رأيا توضيحيا في معنى التحول اللغوي وفلسفة اللغة والى ماذا اوصلت تاريخ الفلسفة في نهايات سائبة ربما يتاح لي عرض بعضها لاحقا بهذا الكتاب.

فلسفة العقل واللغة لدى الفرنسيين والاميريكان جعلت منذ نهايات القرن العشرين  فلسفة اللغة هي النسق البنيوي الكلي الذي يوازي الواقع الحياتي ولا يقاطع مسيرة الحياة وخير من توّج هذا الانحراف الاهوج كلا من جاك دريدا ليقتفي اثره بول ريكور وعدد من فلاسفة الانجليز بزعامة بيرتراند راسل في التحليلية. مثل رورتي، وايتهيد ، جورج مور، كارناب، فينجشتين قبل انشقاقه عنهم، وسيلارز ، وسيريل، واخرين. وكذلك كلا من فوكو والتوسير وشتراوس وعديدين غيرهم.

أقولها بأمانة وصراحة أني في كل كتاباتي المنشورة ومؤلفاتي لم اكن سوى طالب معرفة فلسفية لا زلت امارس رغبتي هذه من منطلق استزادة الاطلاع على مباحث فلسفية اجنبية غربية تحديدا، ولم أبلغ مستوى التبحركما يمازحني به بعض المثقفين من الاصدقاء وبعضهم ينعتني بلقب الفيلسوف والمفكر. في أغوار التراث الفلسفي الذي لا يسعني استيعاب النزر اليسير منه بما يحتويه من متراكم خبراتي فلسفي تاريخي لا يمتلك رغم ضخامته تزكية الصواب المليء بالحشو الزائد. من جهة اخرى اهتمامي المتأخر بقضايا الفلسفة اي منذ عام 2011 في صدور اول كتاب لي بالفلسفة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد حول فلسفة الاغتراب كنت وقتها صرفت اكثر من 25 عاما في كتابة الشعر والنقد الادبي وخواطر متنوعة.

كما ان الغبن الزمني لازمني حيث اتجهت نحو الفلسفة عام  2004 ما جعلني متاخرا كباحث فلسفي وسط امواج متلاطمة من تمجيد اعلامي كاذب وشراء شهادات وغيرها من الاعيب خبيثة جعلت من الفارغين فلسفيا هم رواد الفلسفة العربية المعاصرة ولحد الآن بما حملوه من امجاد اعلامية زائفة وليست فلسفية حقيقية هيمنت على وظائف التدريس الجامعي وحصد اساتذتها وبعض الهامشيين الطارئين على الفلسفة التلميعات ونيل التكريمات وترقية الشهادات المزيفة التي يفاخرون بها حتى تبعهم في هذه المهزلة الكارثة الكثيرين من السياسيين وخاصة العراقيين في شراء وتزوير شهادات في مختلف الاختصاصات في العلوم الانسانية وحتى في بعض قضايا العلوم الطبيعية... استطيع القول باختصار:

* أن انتقالاتي في الكتابة الفلسفية التي لا تتمحور في غالبية مؤلفاتي في منحى فلسفي واحد تعطي إنطباعا لا أنكره على نفسي وبعض الاساتذة الباحثين في المجال الفلسفي اني استطعت تجاوز حاجز الكتابة التخصصية في موضوع فلسفي معين واحد يتمركز حول اجترار معاد ممل لا يفتح آفاقا فلسفيا جديدة يمكنها التطور الى فلسفات مجددة ناضجة..

* منهجي الفلسفي الذي إعتمدته بكتاباتي تحكمه الضوابط المنهجية التالية التي لم أحد أو أتراجع عنها:

عدم التزامي المنهج الاكاديمي الجامعي الذي يعتوره إستنزاف مجهود الباحث في تغطية سطحية التناول الإستعراضي (مرجعية ثبت هوامش المصادر والمراجع ) باللغات الاجنبية في التناول الفلسفي الذي يعتمد الترجمة الحرفية بتقديس مسرف لما يقوله الفلاسفة الغربيون على أنه يمّثل حقائق الامور. الفلسفة أكاديميا في التدريس والتلقي عند الطلبة في الجامعات العربية من أسوأ أخطائها أنها غيّبت الحس النقدي الممنهج على حساب ترسيخ إعتياد الحفظ والاستظهاراليقيني الساذج بعيدا عن الرؤية المنهجية النقدية في ممارسة نقد الفلسفة.

عمدت الابتعاد التام الكامل عن كتابة العروض الهامشية لافكار فلسفية وردتنا بهالة من المكابرة الفارغة التي أسبغناها عليها، في إهمالنا أهمية ممارسة النقد الفلسفي وبذر نواته لدى طلبة الفلسفة واساتذتها اننا لا يجب ان  نتهيب اسم الفيلسوف في اعدام حقنا المكتسب ضرورة ممارسة منهجية النقد في دراساتنا الفلسفية. واستطيع القول بكل ثقة وامانة اني لم اكتب مقالة فلسفية واحدة لم امارس فيها منهج النقد الفلسفي في مقارعة الحجة بالحجة من منطلق التكافؤ الفكري لا من منطلق مشاعرالاحساس بالدونية الفلسفية التراتيبية كما يروج له البعض ويمارسه من عتبة الادنى بالنسبة لفلاسفة غربيين. ولم أقرأ لفيلسوف غربي أجنبي لم يلازمني هاجس النقد في افكاره في بعضها رغم كل إعجابي به كفيلسوف صاحب نظرية فلسفية خاصة به فيها جوانب ليست نتيجة بهرجة وتسويق وتلميع اعلامي وصل حد التسليع..

***

علي محمد اليوسف /الموصل / حزيران 2022

يعتبر يهود العراق من أقدم الطوائف الدينية التي كانت متواجدة فيه، حيث يرجع تأريخ وجودهم إلى أكثر من 26 قرناً خَلَّت، واستطاعوا رغم مناخ العراق وتقلبات الظروف وترادف الغزوات والحروب أن يتشبثوا بترابه إلى وقتٍ متأخر. حتى أنهم شكلوا في أواسط القرن التاسع عشر نصف سكان بغداد، وتمتعوا دائماً بمكانة اجتماعية مرموقة، وأمسوا يشكلون الدالة الاجتماعية المتبغددة المترفة، ويجسدون روح وذوق بغداد الفني والجمالي.

وجدير بالذكر أن نشير هنا إلى أن اليهود تواجدوا في كل المدن العراقية وشكلّوا جزءاً منسجماً في سياق الحياة الاجتماعية لها، فكانت البصرة تضم إلى صدرها الرحب المتسامح بالفطرة أعداداً غفيرة ترد بالمرتبة الثانية بعد بغداد، والحال سيّان مع مدائن الموصل وكركوك وتكريت والعمارة والناصرية والحلة والديوانية ولا سيما الكفل، وكما أنهم شكلّوا حتى عام 1951م حوالي ربع سكان مدينة سامراء، وما زال حيَّهم وكنيسَّهم يقبع في غرب المدينة على بعد خطوات من روضة الإمامين العسكريين.

وفي أيامنا الحالية يعيش في العراق أقل من ستة أفراد، بعضهم يعيشون قرب كنيس طويق في بغداد وأغلبهم من المسنين، وبتاريخ 10/8/2008م رحلت الدكتورة فيوليت شاؤول طويق ودفنت في مقبرة الحبيبية على أطراف مدينة الثورة في بغداد، وكانت الدكتورة مديرة مستشفى الواسطي في بغداد. وبتاريخ 27 آذار 2021 توفى طبيب وجراح العظام المعروف ظافر فؤاد إلياهو الذي لقب بـطبيب الفقراء، وكان يعمل أيضاً في نفس المستشفى، وهو واحد من آخر اليهود العراقيين الذين ما زالوا يقيمون في بلادهم، ودفن في مقبرة الحبيبية أيضاً، بعد وفاته عن عمر ناهز 62 عاماً. وكان إلياهو قد رفض عروضاً للهجرة خارج العراق على مر السنين، وفضّل البقاء في بلاده.

ولقد استرعى انتباهنا أنه على الرغم من اهتمام العرب خلال الحقبة الماضية بالدراسات التي تتعلق بإسرائيل واليهودية والصهيونية العالمية، إلا أنهم لم يوجهوا اهتمامهم نحو دراسة الصحافة اليهودية ودورها في إيقاظ النشاط الصهيوني في العراق، بل أن المثير للدهشة أن معظم المثقفين العراقيين الذين عاصروا اليهود اثناء وجودهم في العراق قبل حرب 1948م لا يعلمون شيئاً عن طبيعة تلك الصحافة، بل أن بعضهم أبدى اندهاشه عندما علموا أنه كانت تصدر في العراق صحفاً لليهود وكان بعضها يدعو للصهيونية، وإزاء ذلك عقدت العزم على دراسة صحفهم ومجلاتهم ومطابعهم أملاً في أن أسهم بنصيب في خدمة بلادي، وفي أثراء المكتبة العربية بكتاب في أشد الحاجة إليه، ليلقى مزيداً من الضوء على بعض الجوانب المجهولة من تاريخنا مما قد يكون مفيداً لنا في مسيرتنا القادمة.

وقد خضعت الصحافة اليهودية أسوتاً بالصحافة العراقية عامة وكل العاملين فيها طيلة الحكم العثماني وأبان الاحتلال البريطاني للعراق والعهد الملكي لمشيئة السلطات الحاكمة المستبدة. ولم يكن هناك صحيفة واحدة تستطيع التعبير بصدق عن حوائج الناس ولو ظاهرياً، فانعدمت اهميتها في وقت حتّمت عليها التطورات السياسية ونمو الحركة الوطنية الاستقلالية واتساعها وأن تلعب دورها التأريخي في هذا المجال.

ولم تنل الصحافة اليهودية العراقية العناية الكافية في الدراسات التي تناولتها الجامعات والمراكز البحثية العراقية، بالرغم من أنها تشمل مسيرة هذا التاريخ منذُ أن بدأ اليهود العراقيون في احتراف الصحافة بكل أنواعها، فمن الضروري أن نتذكر تاريخ الصحافة اليهودية في العراق ودورها في دعم الجانب السياسي والاقتصادي والأدبي، إلا أن بعض الصحفيين استغلوها لدعم النشاط الصهيوني ومنظماته في العراق، ولم أجد من خلال متابعتي إلا كتاباً يتيماً عن تاريخ الصحافة اليهودية في العراق للدكتور عصام جمعة أحمد المعاضيدي المعاضيدي الصادر عام 2001م.

إن الغاية من هذه الدراسة هي تبيان المراحل المختلفة التي مرت بها الصحافة اليهودية في العراق ضمن واقعها السياسي والفكري والفني. وتبيان التقدم الذي احرزته إلى حد ما في أطارها وفق الفترات الزمنية مع بعض المآخذ عليها والحلول لتلك المآخذ على النطاق الفني والفكري. فالدراسة المتعلقة بالصحافة اليهودية العراقية تتحدد بمولدها منذ عام 1863م ثم تطورها وتقدمها حتى تاريخ افولها، وتدخل فيها العناصر التأريخية المحددة، والعناصر المادية الملموسة.

إن المصادر التي اعتمدتها في هذه الدراسة هي مصادر رئيسية وثانوية. وأقصد بالمصادر الرئيسية الشخصيات الصحفية القدامى من الطائفة اليهودية الذين يعتبرون ثقة في الموضوع الذي نحن بصددة. ومن ناحية أخرى، فأن المصادر الثانوية تتألف من مجموعات الكتب التأريخية والصحف اليهودية العراقية. وقد احتوى الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول، تضمن الفصل الأول أوضاع اليهود في العراق، أما الفصل الثاني فقد كُسِرَ بنشأة الصحافة اليهودية وتطورها، والفصل الثالث سلط الضوء على أعلام الصحافة العراقية من اليهود.

وقد صدر الكتاب عن دار الفرات في بابل

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الحلة 1/10/2022

 

نقل لي أحدُ الأصدقاء العراقيين المتوطنين في القاهرة سنوات طويلة، يقول: زرتُ أحدَ المؤلفين المصريين المشهورين في بيته، وفي سياقِ حديثنا عن الكتابةِ والتأليف، سألتُه عن كيفية مراجعته وتنقيحه لمؤلفاته المطبوعة عندما يريد إعادةَ نشرها، فقال لي: لا أعودُ للكتاب الذي أنشره بعد صدوره أبدًا، لأن العودةَ إليه تضطرُني لإعادة تحريره، بالشكل الذي يدعوني لتغييره جذريًّا، عند مراجعته أشعر كأني أقومُ بتأليف كتابٍ غيره، وذلك لا يشجعني على النظر في مؤلفاتي الصادرة مجددًا.

يقول الجاحظ: "ينبغي لمن كتبَ كتابًا ألّا يكتبُه إلا على أنَّ الناسَ كلَّهم له أعداء، وكلَّهم عالمٌ بالأمور، وكلَّهم متفرغٌ له، ثم لا يَرْضَى بذلك حتى يَدَعَ كتابَه غُفْلًا، فإذا سكنتِ الطبيعةُ وهَدَأتِ الحركةُ، وتَرَاجَعَتِ الأخلاطُ، وعادتِ النّفسُ وافرةً، أعاد النظرَ فيه، فيتوقّف عند فصوله تَوَقُّفَ مَنْ يكون وَزْنُ طَمَعِهِ في السلامةِ أنقصَ من وزن خوفِه من العَيْب". حين أقرأ ما كتبتُه بعد سنوات، أحيانًا أكتئب، وأبتهج أحيانًا أخرى. أكتئبُ لشعوري بوهن شيء من كلماتي، وثغراتِ شيء من أفكاري، ولشعوري بما يفكر فيه القارئُ الذكيُّ، وكيف يتأمل ويدقق ما تقوله الكلماتُ وما لا تقوله وتحجبه. أبتهجُ حين يبادرُ قراءٌ أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدينَ يمكنُ أن يحيي كلَّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظَ الضميرَ الأخلاقي، ويُكرِّس التكافلَ العائلي، والتضامنَ المجتمعي، ويخفض طاقةَ الشر التدميرية، ويبعث منابعَ الخير في الأرض، ويجعل صناعةَ السلام والعيشَ المشترَك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن.

الكتبُ كالأبناء يصعبُ على الإنسان العاطفي الانفصالُ عنهم، مهما كانوا، ومهما تقدّمَ به وبهم العمر. أحيانًا تصير الكتبُ أشدَّ صلة بذلك الكاتب الذي نذرَ عمرَه للكتابة وتفرغَ لها، وأعطاها كلَّ ما يملكُ من وقت وطاقة وجهد وصحة، وتنازل لأجلها عن مباهج الحياة ومتعها المتنوعة، وسجن نفسَه في منفى اختياري، بعيدًا عن الأقرباء والأصدقاء، وتجاهلَ ايقاعَ الحياة اليومية وتفاصيلها، وانسحبَ من الواقع بكلِّ ما يحفلُ به من أحزان وأفراح.

كثيرٌ مما ينشرُ لا تنطبقُ عليه شروطُ الكتابة الحقيقية. الكاتبُ الجاد الذي يهمُه حمايةُ صورته أمامَ نفسه أولًا وأمامَ القراء ثانيًا، لا ينفك من تهيب الكتابة مادام منهمكًا بهذه المهمة الشاقة. يقول همنغواي: "إنّ الكتابةَ تبدو سهلة، غير أنّها في الواقع أشقّ الأعمال في العالم". أحيانًا أكون محرجًا أمام القراء بما أحدثه من تنقيح وتهذيب متواصل في كتاباتي، ومحاولات تصفية متكررة لتنقية العبارات، لئلا تشوبها أكدار. ما يتعبني في الكتابة هو انتقاء الكلمات الحساسة، وبناء العبارات الصافية. حين أكتب أمارس عملية كالمهندس المعماري الذي يهمه الوجه الجمالي للبناء. المعاني حاضرة أحيانًا، ‏ما يرهقني هو استيراد الكلمات العذبة ‏مما هو مختزن في الذاكرة، وأحيانًا أعود إلى قواميس اللغة ومعاجمها عسى أن أجد الكلمات الملائمة لسياق النص. يقول الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".

‏ حاولتُ الخلاصَ من عادة استئناف النظر في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" وغيره في الطبعات الجديدة إلا أني فشلت. ما يدعوني لاستئناف قراءة ما أنشرُه وأعملُ على إعادة تحريره وغربلته وتنقيحه وإثرائه كلّ مرة، هو شعوري بأني دائمًا في حالة امتحان أمام القراء الأذكياء. القارئُ الذكي بالقدر الذي يجعلُ الكاتب حذرًا، وخائفًا إلى حدّ الذعر لدى بعض الكتاب، لهذا القارئ بالقدر نفسه منّةٌ وفضلٌ على كلِّ كاتب يريد لكتابته أن تظلَّ قيد التداول، إذ يجعله متيقظًا مسؤولًا عن كلِّ كلمة يكتبُها وفكرة يبوحُ بها. يثيرُ القارئُ الذكيُّ الكاتبَ فيضطره لإعطاء الكتابةِ كلَّ طاقته ووقته، ويستفزُ مواهبَه ومهاراتِه وخبراتِه لحظةَ يكتب. يجعلُ هذا القارئُ عقلَ الكاتب دائم الهمّ بما يعتزمُ كتابته، متى لاحت في ذهنه فكرةٌ تزامنت بمعيتها الكلماتُ المعبرة عنها، وأردفها مخزونُه اللغوي بخيارات لصيغ متناوبة متبادلة للكلمات والعبارات الأقرب لذوقه في بيان تلك الفكرة والكشف عن مضمونها للمتلقي.

ما يشعرني بالرضا وأنا أعمل على إعادة النظر في كتاباتي هو الإدراكُ بأن هذا تقليدٌ تفرضه عليّ مسؤوليتي الأخلاقية تجاه القراء، ويلزمني به ضميري الذي يدعوني لأن أتعاملَ مع كتابتي مثلما أتعاملُ مع ما يكتبُه غيري، الذي أقرأ ما يقولُ على مَهَل، أتفحصُ كلماتِه وأفتشُ عن ثغراتِ أفكاره. عندما أقرأ ما يكتبُه كاتبٌ بعيون الناقد، أبادر لنقد أفكاري وغربلتها بعيون الناقد أيضًا، ولا أترددُ بتمحيصها وتهذيبِ كلماتِها. أعرفُ جيدًا أن الكلماتِ التي تمكث طويلًا في ذاكرة الكتابة تتطلب الكثير من الغربلة والتمحيص والصقل.كلُّ كتابةٍ يتسع عمرُها بمقدار ما تستجيب لعملية التكثيف بالتمحيص والحذف والاختزال.

أحاول كتابةَ تجاربي الذاتية، مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ الإنسان بدءًا من ذاتي. هذه رحلةٌ لا تنتهي، ولن تقف عند نهايات مغلقة.كلُّ يوم يتكشفُ لي في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله في نفسي وغيري، وما لا أعرفه عن العالَم من حولي.

أعرفُ أن كلَّ مَنْ يفكر يخطئ، لا يخطئ إلا مَنْ لا يفكر. لا يتحرر الإنسان من الخطأ غالبًا إلا بعد وقوعه فيه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.كلُّ مرة أريد تجديد طباعة أحد أعمالي الذي مضت على صدوره سنوات أتحمس لإعادة بنائه، حين أبدأ بالمراجعة أقع في مغامرة لم أكن أحتسبها، وكأني أكتب كتابًا جديدًا، إذ أقومُ بعمليات تحرير وتنقيح وشطب وإضافات متنوعة. أظن هذه عادة مؤذية يعاني منها كلُّ كاتب يدركُ أن عقلَ الإنسان مهما فكّر وتأمل وراجع تظلُّ النتائجُ التي ينتهي إليها اجتهاداتٍ بشريةً ناقصة وليست نهائية. طبيعةُ البشر النقص، وهو ما يدعو الإنسانَ لطلب الكمال والكدح لبلوغه. الحكيمُ يدركُ أن بلوغَ الكمال متعذر؛ وذلك ما تشي به الآيةُ القرآنية: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". يوسف، 76.

موضوعاتُ هذا الكتاب تنشدُ التدليلَ على الحاجة الأبدية للدين، بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية، وتشتركُ في بيان هذه الفكرة المحورية الواحدة بمداخل وتنويعات وبيانات متنوعة، إلا أن فصولَه يمكنُ أن تُقرأ خارجَ تسلسلها في الكتاب، بلا أن يخلَّ ذلك كثيرًا بفهم واستيعاب فصل سابق أو لاحق. وإن كنت أقترح على القارئ أن يصبر على القراءة المتوالية، لأن ترتيب الفصول ومواضعها يعكس سياقها المنطقي وليس عشوائيًّا.

في طبعته الرابعة خضعَ كتابُ "الدين والظمأ الأنطولوجي" لبناءِ شيءٍ من أفكاره، وتهذيبِ شيءٍ من عباراته، وأُعيد ترتيبُ فصوله، واغتنت فقراتُه بإضافات رأيتها ضرورية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

* مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي". يصدر قريبًا عن دار الرافدين في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.

مثّلَ الانشغال بقضايا اللّاهوت المسيحيّ، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربيّة محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضلِّلة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربيّة. وجدت نفسي، في مستهلّ مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلميّ في مجمل تفرّعات اللاهوت المسيحيّ وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القدّيس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية.

أبقى مدينًا في تلك المغامَرة المعرفية إلى الكردينال مايكل فيتزجيرالد، السكرتير الأسبق للمجلس البابوي للحوار بين الأديان في روما، الذي يَسّر لي ظروف خوض تلك التجربة. فالرجل يطبعه عمقٌ روحيٌّ وسعة نظر، فضلا عن انفتاح على المغاير الدينيّ قلَّ نظيره. جعلتني تلك التجربة أغوصُ في الأحوال المسيحيّة بشتّى تفاصيلها، وأرصد تمثّلات وعيِ الدين عند شرائح اجتماعية متنوّعة، من كهنة مكرَّسين إلى عامة الناس، مرورا بسائر أصناف الغنوصيين واللادينيين. فمنذ ذلك العهد وأنا أنام وأصحو على قرع نواقيس الكنائس، وأعيش على إيقاع مجتمع يستبطن عوائد وعقائد، غير ما ألفته في سابق عهدي. ملمحٌ آخر فارقٌ لتجربة العيش في مجتمع كاثوليكيّ غربيّ، أن أجدَ نفسي ضمن أقليّة عربية، تعيش تغريبة الهجرة بكافة تداعياتها، داخل مجتمع محكوم بسياسات متحوّلة، وما تنطوي عليه تلك الأوضاع من تعايُش وتغايُر وتثاقُف وتنافُر. وهو ما كشف لي عن وجه آخر لمعنى عيش الدين، وما يُمثِّله معنى التعدّدية الدينيّة ضمن سياق التحولات الحديثة.

لكن في غمرة هذا الانشغال بأوضاع الدين في الغرب، كانت قضايا الفكر الإسلامي، وأوضاع العالم العربي، تلاحقني في مقامي الثاني، فقد أضحت المجتمعات العربية تتمثّل لي أدنى قربا ممّا مضى، لِفيْض المعلومات ووَفْرة الأبحاث المتاحة عنها. ناهيك عمّا لازمني من حرصٍ على الإسهام في تطوير الدراسات العلميّة للأديان في البلاد العربية، سواء بما أُترجمه من أعمال عن مناهج دراسة الظواهر الدينية أو بما أكتبه عن أوضاع الدين في الغرب، وتساؤلي عمّا يمكن أن تشكّله المقارَبات الحديثة من أُطر للوعي بظاهرة الدين وبواقع التديّن بشكل عامّ.4581 الامام والكاردنال

فلا شكّ أنّ مطالب الإصلاح، والتجديد، والعقْلنة، والأنْسنة للفكر الديني، قد طُرِحت بإلحاح في البلاد العربية وعلى مؤسّساته العلميّة، منذ تنبيه العلّامة محمد الطاهر ابن عاشور في "أليس الصبح بقريب؟" (يعود الانتهاء من تأليف الكتاب إلى العام 1906) لِما يعتري مؤسّسات التعليم من علل واهتراء. وقد مرَّ على حديث الرجل قرنٌ ونيف، دون قدرة على الانعتاق من الأسر التاريخي الذي تردّت فيه مناهجها. لم تحدث نقلة في الوعي بظواهر الدين، وبتحوّلات "الكائن المتديّن"، وبسُبل الاندماج في العالم، وبالمثل لم يتهيّأْ حرصٌ على مواكبة النّسق العلميّ في الوعي بالرأسمال القداسيّ أكان النابع منه من موروثنا والماثل في مجتمعاتنا، أم الوافد علينا بفعل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وكأنّ الأمر عائد إلى وهن بنيويّ جرّاء تقادم المعارف، ومكر التاريخ، وانغلاق البارديغمات. فهناك اِستنزاف للعقل في متاهة العلوم التقليدية، دون قدرة على الخروج من هذا الدوران الثابت، أو إدراك للتبدّلات التي هزّت المعارف، بما يُفضي إلى تلبية مغايرة لحاجات الاجتماع ووعي مستجدّ.

ضمن تلك السياقات تطرّقت جملة من مباحث الكتاب، وبأوجه عدّة وبمقاربات متنوّعة، إلى موضوع حضور الإسلام في العالم، وأيّ السبل يسلك لتجنّب كلّ ما يعكّر إسهامه الإيجابيّ فيه؟ فأحيانا تعوز الوعيُ الإسلاميّ الواقعيةَ اللازمة وأخرى تعوزه الشروط المعرفية، وكلّها عقبات عويصة مدعاة لإخراج المؤمن من التاريخ. فعلى سبيل المثال، لا تسعف القدرات العلميّة المتقادمة دارس العلوم الدينية المسلم للإحاطة العميقة بالمؤسسات الدينية المسيحية وبالتحولات اللاهوتية وبالوقائع المسيحية. وبرغم الحوار بين الطرفين المسيحيّ والإسلامي، يغيب التعويل من جانب هذا الأخير على المقارَبات المعرفية والأبحاث العلميّة. وهو ما يملي إعادة نظر معمَّقة وجادة في أُطر النظر الكلاسيكية لدى الدارس المسلم لنظيره المسيحي بعيدا عن الاستعادة الجامدة للقوالب القديمة. إذ ثمة طريق شبه مهجورة في الدراسات الإسلامية، وهي طريق الأنْسَنة والعلْموة للخطاب، في الدين وحول الدين، كي لا يبقى تواصله مع العالم قاصرا ومحدودا.

أردنا كذلك التطرّق إلى واقع التواصل بين الأديان، ولا سيما بين المسيحيّة والإسلام. فممّا يُلاحَظ في واقع الأديان الراهن، أنّها لا تملك خطّة واضحة مستقلّة عن التوجّهات الإيديولوجية. فالأديان اليوم تشكو من فقدان رابطة روحية أو أساسات خُلقية جامعة بينها. وهو ما يُملي ضرورة العمل على استعادة ذلك الرصيد القِيَميّ وعدم الانجرار وراء الأيديولوجيات، التي أفرغت المؤتلف الإنساني من دلالته الحقيقية وحوّلته إلى خطاب مفتقِر للمعنى. فما من شكّ أنّ قضايا السياسة والديمقراطية والتغيير والتنمية تشغل فئات واسعة في البلدان الإسلامية، وقسمًا هامّا من مجتمعات العالم المسيحيّ، لاسيما في إفريقيا وآسيا والشطر الجنوبي من القارة الأمريكية. أردنا تناول هذا الموضوع ضمن الكتاب لإبراز ما يشكّله الدين من إسهامٍ إيجابي حين يرافق مسار تحرّر الشعوب، ومن دورٍ إشكاليّ أيضا حين يتمّ توظيفه بشكل فجّ. فلا يفوتنا أنّ ثمة تنازعات داخل الدين الواحد، منها ما هو متفجّر ومنها ما هو خامد، تُؤثّر سلبًا في الانحراف بمسارات التحولات الاجتماعية.

نشير إلى أنّ الكتاب لا يسلك مسلك المقارَنة التقليدية في الحديث عن المسيحية والإسلام، بالتطرّق إلى عقائد الدينين وتشريعاتهما، أو عرْض موقف من مسألة معيّنة وما يقابلها في الدين الآخر, كما قد يتبادر للوهلة الأولى، وإنّما يعمل على تتبّع كيف يجابه كِلا الدينين المأزق الراهن في شأن قضايا كبرى مثل التحرّر والفقر، أو كيف يتعايش مع الحداثة والتعددية والمسكونية. لذلك يأتي الكتاب، بتنوّع مباحثه، محاولة لتقصّي حضور الدين في العالم الراهن، بما يمثّله هذا الحضور من تجابه مع قضايا وأسئلة مستجدّة. فما يجمع الدينان اليوم هو الحضور في عالم يطفح بالمتغيرات المتسارعة، تفرض إكراهاتها تجاوُزَ المعالَجة المعهودة للقضايا الدينيّة والدنيويّة. صحيح لا يتعاطى الدينان بالأسلوب نفسه مع قضايا الدين والدنيا، ولكن الحيز المتصاغر للعالم المعوْلَم أضحى يلزم بالتفكير الجماعيّ، لتذليل المصاعب التي تواجه الجميع.

الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف

المؤلف: عزالدين عناية

منشورات المتوسط، ميلانو (إيطاليا) 2021

عدد الصفحات: 280

نبذة عن المؤلّف

عزالدين عناية، أستاذ تونسي إيطالي يدرّس في جامعة روما متخصّص في دراسات الحضارات والأديان. صدرت له مجموعة من الأبحاث منها: "الدين في الغرب" 2017، "الأديان الإبراهيمية" 2013، "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" 2010، "الاستهواد العربي" 2006؛ فضلا عن عدد هام من الترجمات منها: "المنمنمات الإسلامية" لماريا فيتوريا فونتانا 2015، "علم الاجتماع الديني" لإنزو باتشي 2011، "علم الأديان" لميشال مسلان 2009.

***

د. عزالدين عناية

 

ناقش الدكتور وميض جمال عمر نظمي هذا الموضوع بإسهاب في كتابه: ثورة العشرين / الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط4 2020 وهو في الأصل أطروحة تقدّم بها نظمي لنيل الدكتوراه في إنكلترا عام 1974.

أول ما يقفز لذهن القارىء المُطَلّع: ما هي الإضافة التي سيُدلي بها الباحث في هذا المجال؟ فقد أُشبعت "ثورة العشرين" بحثاً من عدد كبير من الكُتّاب كما هو معلوم؟

يُقرّ الباحث ب"خصوصية" حالته:

1- فالعيب الأساسي في أكثر الكتابات عن الثورة أنها كانت "أُحادية النظرة"، تميل لتضخيم دور هذا الفريق أو ذاك من أطراف الحركة الوطنية على حساب باقي العناصر، أو بالأحرى على حساب الحقيقة ص16، وهذا ما يأمل الباحث تجنبه.

2- وبشأن المصادر فهي غزيرة ومتوفرة بالعربية والإنكليزية، لكن ـ كما يبدو للباحث ـ إن أغلب الباحثين العرب لم يتمكّنوا من الإطلاع على المصادر الإنكليزية. في حين إن أغلب الباحثين الإنكليز لم يتيسر لهم الإطلاع على المصادر العربية ص20 .

لن نبالغ إن وصفنا د. نظمي ب"الباحث الألمعي"، فالجدّية والدقة في العرض وإستخدام المصادر، سمة بارزة في عمله. فعندما يُقر ب"قومية" الثورة، فهذا لا يعني الإطلاق أبداً (إن هذا البحث "سيزعم" بأن الثورة كانت قومية حقاً، ولكنها كانت "جنينية" وليست متطورة أو ناضجة بشكل كافٍ) ص18 .

ما هي الأدلة التي قَدّمها الباحث على مُدّعاه "قومية الثورة؟

1- كانت شعارات فصائلها كافة الإستقلال التام والحُكم العربي لكيان عراقي موَحّد مع تَطَلّع الى الوحدة العربية. 2- وحّدَت فصائل كبيرة من الشعب العراقي من طوائف وعناصر مختلفة ضد الإحتلال.

3- كانت إتحاداً بين عشائر مختلفة وتحت شعارات وأهداف جلية.

4- مارست تأثيراً لا يُستهان به في تكوين الكيان العراقي الحديث.

5- أصدرت صُحفاً قومية تُعَبّر عن فكر وطني وقومي واضح.

6- شَكّلت نوعاً من الإدارة الوطنية في المناطق المُحرّرة حيث عُهد إليها بالإدارة وسُلّم إليها أسرى جيش الإحتلال ورُفع فوقها العلم العربي.

7- تفاعلت مع الحركة القومية في الحجاز وسوريا وأحياناً مع مصر.

8- طالبت بملك عربي ورفضت كل المرشحين الأجانب من سواه، ص18 .

الإستنتاج المتوازن سمة بارزة أخرى عند نظمي (لا يجب المبالغة بالقول بأن الثورة كانت قومية محضة، كذلك فإنه من قُبيل التبسيط المفرط الإدعاء المقابل بأنها كانت مجرد إنفجار عشائري فوضوي وعشوائي، أو الزعم بأنها كانت مجرد إستجابة دينية لبعض الفتاوى) ص15 .

يؤمن نظمي ب"المنهج القومي ـ الإجتماعي" أو "القومي ـ الطبقي" في تحليل أحداث التاريخ، وهذا ما يجعل البحث مختلفاً عن كتابات من سبقوه. فالسيدان محمد مهدي البصير وعبد الرزاق الحسني، كانا في تقدير الباحث، أفضل من كتب عن ثورة العشرين ضمن إتجاه قومي عربي. (ولكنهما لم يريا في الثورة سوى العامل القومي والوطني، العامل المثالي والروحي فقط. ولم يتمكنا من أن يريا خلف هذا الشعور القومي، السياسة الإدارية "الوظيفية" والإجتماعية والمالية والضرائبية للإدارة الإنكليزية) ص 23 .

أما "النمط المعرفي" الذي ينهجه الباحث فهو "النسبية والشمولية". فليس هناك ما هو مطلق أو فوق التاريخ في المعرفة الإنسانية، وبشأن الشمولية فهي ليست نقيضاً للنسبية بل مُكملة لها ص25 .

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

الصفحة 5 من 5

في المثقف اليوم