كتب واصدارات

كتب واصدارات

(كان الإشراق في ذلك الوقت أمراً  سيئاً و"شدة الحزن" أمراً سيئاً و "المرح الزائد" أمراً سيئاً، بمعنى أنه كان ينبغي لك أن تحيا دون أن تكون شيئاً، ودون أن تفكر، فإن فكرت ينبغي أن لا يبدو تفكيرك على المستوى السطحي الظاهر، ولذلك كان الجميع يغلقون على اأفكارهم ويحفظونها في تجاويف أعماقهم).. آنا بيرنز من روايتها " مِلكمَن " منشورات دار أثر

كانت اول كاتبة من شمال ايرلندا بجائزة مان بوكر التي تعود على صاحبها بالشهرة وارتفاع المبيعات.

"مِلكمَن" او "بائع الحليب" هي الرواية الثالثة  للروائية آنا بيرنز التي ولدت عام 1962 في مدينة بلفاست بايرلندا الشمالية، قالت بعد اعلان فوزها بالجائزة عام 2018: انها " سعيدة جدا، ليس من اجل الرواية، وانما من اجل قيمة الجائزة التي ستساعدني على تسديد ديوني".

تعترف بفضل الأدب الانكليزي عليها، وتخص الشاعر ت.س. اليوت بتحية لانها تعلمت منه  إنه لا يمكن أن تصبح عالميا دون أن تكون محليا خالصا. كانت قد صرحت للغارديان اثناء وصول روايتها الى القائمة القصيرة انها لم تستطع إخفاء دهشتها عندما سمعت اسمها بين الروايات الست المرشحة لأكبر الجوائز البريطانية.

رئيس لجنة تحكيم الجائزة قال عن فوزها: "لم يقرأ أحد منّا شيئا كهذا من قبل. إن صوت آنا بيرنز المميز تماما يتحدى الشكل والتفكير التقليديين بنثر مدهش وطاغٍ. "إنها قصة عن الوحشية والاعتداء الجنسي والمقاومة مطعمة بدعابة لاذعة. إن الرواية التي تدور أحداثها في مجتمع منقسم على نفسه تستكشف الأشكال الخفية التي يمكن أن يتخذها القهر في الحياة اليومية".

تدور أحداث "مِلكمَن"، في مدينة لا تذكرها الرواية بالاسم خلال الاضطرابات الدامية في أيرلندا الشمالية، وتروي حكاية فتاة تبلغ من العمر 18 عاما تعرف بأسم "الأخت الوسطى"، تتعرض للتحرش  الجنسي من قبل شخص  يطلق عليه اسم  بائع  الحليب رغم انه لا يمارس هذه المهنة، كان في السابق  عسكريا شديد القسوة.

مثل ابن بلدها جيميس جويس، ارادت ان تقدم حياة الناس في بلدتها:" "لقد نشأت في مكان مليء بالعنف وانعدام الثقة والارتياب والشعور بالاكتئاب من قبل أشخاص يحاولون التنقل في هذا العالم والبقاء فيه بأفضل ما يمكن".

استمدت بيرنز، التي ولدت في بلفاست وتعيش الآن في شرق بريطانيا، خبراتها الخاصة التي نشأت في ما وصفته "بالمكان الذي ينتشر فيه العنف وانعدام الثقة والبارانويا". بينما يضغط رجل الحليب على التقدم الذي أحرزه على أخته الوسطى المترددة، تبدأ الشائعات بأنها تواجه علاقة غرامية معه. "لكنني لم أكن على علاقة مع رجل الحليب. لم يعجبني رجل الحليب وكان خائفاً ومربكاً بسبب سعيه وراء علاقة غرامية معي"

قالت للغارديان عن شخصية بائع الحليب:" لا اعتقد انه يمثل شخص محدد، انه مجتمع باكمله تدور حياته حول القسوة والعنف.. في الرواية لم يعمل في مهنة بائع الحليب، لم يكن هناك حليب عنده."

تعمدت الكاتبة عدم إطلاق أسماء على شخصياتها في الرواية، حتى من تقوم بالسرد فيها تشير إلى نفسها بأنها "الأخت الوسطى".

وفي حديثها بعد فوزها، قال آنا بيرنز لبي بي سي: "الكتاب لا يحقق المطلوب من خلال الأسماء فقط".

وأضافت:"أعتقد أن الأمر له علاقة بالعمل، هناك افتقار إلى الأمان في أن تكون صريحا في الكتاب وتعلن من أنت، ولكن في الحقيقة، إذا ذكرت الأسماء فقد فقدت قوتها، وفقد أيضا الجو العام".

وعن تأثير تجربتها الحقيقة على كتاباتها، قالت "لقد نشأت في بلفاست، وكان لها تأثير كبير على الكتاب، حيث كتبت عن مجتمع بأكمله تأثر بالعنف والحياة تحت ضغط شديد ".

في نفس العالم 2018 حازت رواية " "بائع الحليب" على جائزة النقاد البريطانيين وفي عام 2019 تحصد جائزة جورج أورويل لروايات الخيال السياسي".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

كتاب فلسفي صادر عن دار غيداء الاردن 2022 معروض مع ما يزيد على 15 عنوان مطبوع بالفلسفة على معرض بغداد الدولي للكتاب.

الاهداء

الى ابنتي الغالية بان اليوسف

المحتويات

المقدمة

الفصل الاول: نظرية السلوك اللفظي وتوليدية جومسكي

الفصل الثاني: الادراك الصوري الواقع وتعبير اللغة

الفصل الثالث: العقل واللغة في تخليق الوجود

الفصل الرابع: العقل في الفلسفة المعاصرة

الفصل الخامس: الفكر واللغة في تعبيرهما عن الوجود

الفصل السادس: المثالية النقدية الاميريكية.. الطبيعة والعقل والاخلاق

الفصل السابع: طبيعة العقل الجدلي وهم هيجلي

الفصل الثامن: غياب ادراك الزمن في وهم الدلالة

الفصل التاسع: ادراك الوجود بدلالة الجوهر

الفصل العاشر: المعرفة الفلسفية والتقاطع البرجماتي

الفصل الحادي عشر: الوعي القصدي في الفلسفة المعاصرة

الفصل الثاني عشر: صوت اللغة خاصية التعبير عن المعنى

الفصل الثالث عشر: انطولوجيا الادراك وحقيقة الكينونة

الفصل الرابع عشر: بروتاغوراس اسقاط السفسطائية على الفلسفة البرجماتية والحداثة

الفصل الخامس عشر: الان تورين.. الذات ومسؤولية الحرية

الفصل السادس عشر: الطبيعة والجوهر

الفصل السابع عشر: اشكاليات فلسفية

الفصل الثامن عشر: ماهية العقل التجريدية في بيولوجيا الجسم

الفصل التاسع عشر: هيدجر وتشتيت الكينونة

الفصل العشرون:  الطبيعة والفلسفة النقدية الامريكية

الفصل الواحد والعشرون: فائض المعنى في الوعي واللغة

الفصل الثاني والعشرون:  المادة والنفس وازلية الجوهر

الفصل الثالث والعشرون: تخارج العقل المعرفي والجدلي في المادة والتاريخ

الفصل الرابع والعشرون: الوعي القصدي سلوك ادراكي لغوي

الفصل الخامس والعشرون: مصداقية تعبير اللغة وقصور الفكر

الفصل السادس والعشرون: وعي الذات الخالص

الفصل السابع والعشرون: مغالطات  حوارية في الفلسفة المثالية

الفصل الثامن والعشرون: الوجود ادراك لغوي

المقدمة:

يبدو لدى غالبية الفلاسفة الغربيين والعرب مثل هذه العنونة غريبة على الفلسفة الغربية المعاصرة مفتعلة على احسن الفروض، فالفلسفة تجريد إفصاحي لغوي نوعي إجناسي يختلف عن التجربة العلمية والعملية والادبية والفنية وتطبيق الايديولوجيا في الوصاية على تاريخ الانسان والحياة.

الفلسفة ليست نوعا ثقافيا ادبيا تجنيسيا يتقبل (ثيمة) الالتزام علما ان الفيلسوف الفرنسي الشهيرسارتر طرح مثل هذا التساؤل في كتابه ما الادب؟ اذ أوصل صدى ما طرحه سارتر في نهاية الستينيات من القرن العشرين إبان إزدهار الفلسفة الوجودية الفرنسية ان بادر الكاتب الروائي الكبير سهيل ادريس صاحب مجلة الاداب اللبنانية بداية السبعينيات دعوة عميد الادب العربي طه حسين تلبيته رغبة اتحاد ادباء لبنان القائه محاضرة حوارية نقاشية امام بعض  الحضور من ادباء ومثقفي لبنان يناقشون فيها معه مسالة الالتزام بالادب من وجهة نظر فلسفة سارتر. في محاولة رفض الادباء والفنانين والشعراء تحديدا اتخاذهم موقف المعاداة الزام الاجناس الادبية والفنون من غير الفلسفة تبني ثيمة الالتزام بالانسان والحياة علما ان مناقشة الالتزام بالفلسفة ليس واردا اطلاقا والى يومنا هذا. خاصة بعد هيمنة فلسفة اللغة المشهد الفلسفي عالميا.

تجريد الفلسفة اللغوي وإن كانت تلتقي معه بلغة التعبير التجريدي الاجناس الادبية  من شعر وقص ورواية ونقد الا ان ذلك يبقي على انفصال تجريد تعبير لغة الفلسفة لا يلتقي تجريد لغة الاجناس الادبية في ثيمة الالتزام بمعناه الانساني السيسيولوجي قائما حضوريا عبر احقاب تاريخية من عصور الفلسفة. المفارقة كانت في محاولة بعض الفلاسفة ربط الفلسفة بالعلوم الطبيعية تارة والرياضيات والفيزياء تحديدا ولم يفكروا ربط الفلسفة بالادب عبر ثيمة الالتزام او ثيمة الجمال في الفن كموضوع فلسفي وليس اندغاما تكوينيا بالسرد الفلسفي..

لذا تكون تهمة الفلسفة انها ترف الطبقات النخبوية المتعالي بضمنهم بعض المثقفين والفنانين الذين نعيش تطرفهم اللغوي وتعبيرهم التجريدي بالادب والفن بما يلغي حضور الفهم والاستيعاب الجماهيري لما يعبّرون عنه في محاولتهم الالتقاء مع ماتقوله الفلسفة من ابهام تجريدي لغوي عصي على المتلقي. امرا واردا واقعا نعيشه..

ربما يبدو غريبا ان يشغل طرح قضية الالتزام بالادب اليوم سابقة لم يشهدها تاريخ الفلسفة لعقود تاريخية طويلة ماضية لاسباب تجعل من الاجناس الادبية قبل الفلسفة فعاليات يتوزعها الاهتمام الشعبي الاستقبالي الواسع كون الاجناس الادبية بعد منعطفها الحداثي في النصف الثاني من اربعينيات القرن العشرين عندنا بالوطن العربي ما جعل ايديولوجيا الاحزاب العربية السائدة عصرذاك تتقاطع مع ثقافة الادب والاجناس الثقافية الاخرى وتقف مختلفة معها بفواصل عقائدية دوجماطيقية  بين مستويين احدهما رفض الالتزام بالادب عموما كون الاستجابة لهذه الدعوة هو اعطاء مشروعية الايديولوجيا السياسية للاحزاب السياسية تطويع مجمل الثقافة العربية في حقها الوصاية على الشعر والاجناس الادبية الاخرى مثل القصة والرواية وبعض الفنون التشكيلية التي فقدت ملامح الهوية العربية بالانغماس غير المتحفظ الواعي بالصرعات الفنتازية الاجنبية كما وردت في السريالية والبرناسية والدادائية وفي الحداثة التجريدية مؤخرا.

اصبح الخروج التام على كل بنية شعرية وغير شعرية تكتب لجمهور وليس لنخبة كما هو الحال بالفلسفة وهو ما حصل في شعرية التجديد العربي منذ بداية الخروج العربي على عمود الشعر كونه حداثة ملزمة لمواكبة العصر منتصف اربعينيات القرن العشرين..

ولا يعني هذا التعميم انه لم يجر التزام ادبي خاصة بالشعر الجديد والرواية العربية في تمرد جريء مناوئ الايديولوجيات العربية بكافة اشكالها التضليلية واستغفالها الجماهير في التسلط ونهب خيرات تلك البدان العربية في تواطئها مع الانحرافات الحزبية المتتالية التي جعلت من فقر وجهل وقطيعية الاذعان في المجتمعات العربية ظاهرة لم يسبقها مثيل.

وفي ضروب الثقافة الغربية الاجنبية عموما جاءت ردة الفعل المتطرفة على صعيد المروق على فنون عصر النهضة في البداية التي غادرت اعمال عمالقتها ليوناردوا دافنشي ومايكل انجلو، رافاييل، غويا، وفان كوخ وماتيس ومانيه وغيرهم من الذين استهوتهم رغبة كسر جميع انواع المحددات المحذورة التي تجعل من اللوحات الفنية استنساخا فوتغرافيا للواقع الذي يماليء التوجه الديني في خدمة الطبقات الارستقراطية التي كانت تتطير من مفهوم ان يكون الادب والفن للعامة من الناس وتحاربها بضراوة في رشوة الطبقة الارستقراطية غالبية الادباء والفنانين في العصور الوسطى والنهضة.. كي يكون جل اهتمامهم تنفيذ رغائب الطبقات الارستقراطية والغنية.

فكان ان ظهر تبشير كاندنسكي في التجريد الفني التجديدي إيغالا غير مسوّغ في دفن رغبة ان يكون الفن بخدمة العامة فظهرت السريالية الفنية في الرسم لدى بيكاسو وسفادور دالي وآخرين غيرهما متماهية مع تجريدية الشعر من خلال تحطيم النسق اللغوي الدارج التي كان تزعمها ريتشارد بيرتون في مقولته الشهيرة القصيدة الشعرية يجب ان تكون حطاما للعقل..

الاتجاه الثاني المناويء لمنهج الالتزام الادبي عندنا فقد ابتلعها الموروث العربي المستمد من مرجعية وصاية الاحزاب السياسية وهيمنة رجال الدين الرافض لكل تجديد يطال اي منحى بالحياة ونكاد نقول اليوم انه لازال الموروث ذي الخصائص الهوياتية العربية الراضخ تحت الهيمنة المتدينة سياسيا يعيش قابعا في جوف الحوت  الذي أعقبه قيء  يونس حيّا من جوفها بعد ثلاثة ايام.

السؤال طالما كانت الفلسفة تجريديا يماثل الالتقاء مع تجريدية الشعر والتي ايد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور. وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية، وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيججر وفوكو والشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى معناه هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب.

الى هذا الحد يمكن تمرير هذا الهوس باسم التجديد على الصعيد الفلسفي في نظرية المعنى والتحول اللغوي وعلوم اللسانيات، لكنما كيف يمكننا تمرير وجوب ربط الفلسفة بالعلم او ربط الفلسفة بالرياضيات او ربط الفلسفة بالمنطق وعلوم الطبيعة والفيزياء التي ترى في حضور العقل هو ان نجعل من تجريد الفلسفة بلا معنى لغوي يعني امتلاكها مقبولية فكرية تداولية تلقى الاستقبالية الشعبية؟

وإن كانت هذه الطروحات الطوباوية فاشله وأن افتراض نجاحها الفلسفي لم يكن ليلغي حقيقة ثيمة الالتزام بالنسبة للفلسفة ليست اكثر من مطالبة تعجيزية لا تقبلها الفلسفة نفسها فهي رازحة تحت وطأة أن الفلسفة للنخبة الاكاديمية وتلامذة الجامعات من النوابغ وبعض الفلاسفة الفرنسيين والاوربيين قاطبة..

بعد منتصف القرن العشرين تسّيدت فلسفة اللغة وتلتها عشرات الاتجاهات الفلسفية التي قامت على اهمية مراجعة تصحيح تاريخ الفلسفة بضوء تصحيح تاريخ اللغة التضليلي معرفيا في نظرية المعنى وفي علوم اللسانيات ما نتج عنه تشعب تيارات فلسفية جعلت من التفكير في مسالة الالتزام بالفلسفة سذاجة لا يقبلها عصر ما بعد الحداثة الذي كفر بكل ايقونة ثابتة وردت بتاريخ الفلسفة الملازم للحداثة مثل اللغة، الذات ، السرديات الموروثة في الدين والماركسية والتاريخ. حتى وصل الحال انكار وجود العقل عند فيلسوف العقل واللغة جلبرت رايل الذي كان سبقه التبشير به ديفيد هيوم. في مقولته لا يوجد شيء يسمى عقلا يمتلكه الانسان أبدا.

كما برزت لنا فلسفات عديدة قامت بتعميق الشرخ الفاصل بين الفلسفة والالتزام في ابسط معانيه ابرزها الفلسفات الفرنسية فقط مثل تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا وعدمية فانتيمو. اعقبهم العشرات من الفلاسفة الاميركان امثال ريتشارد رورتي ،جون سيرل، سيلارز، سانتيانا، نعوم جومسكي ، سكينر، وكارناب ، وفينجشتين المحسوب على فلسفة بيرتراند راسل الانجليزي قبل احترابهما الابيض بينهما بعد نيل فينجشتين شهادة الدكتوراه في فلسفة اللغة تحت اشراف راسل واصرار راسل الحفاظ على وصيّة فريجة وجوب عدم تضييع فرصة دمج الايقونات الثلاث الفلسفة واللغة والرياضيات في توليفة واحدة رأى كلا من فينجشتين وجورج مور وفلاسفة امريكان لا حصر لهم ان راسل يهذي بهذا التعجيز الفلسفي ليقابلهم هو بالرد ان الفلسفة الاميريكية البراجماتية نذلة وخسيسة..

الفلاسفة الذين رأوا بعد خلاص الفلسفة من هيمنة الابستمولوجيا (المعرفة) السيدة الاولى بالفلسفة على امتداد تاريخ ثلاثة قرون فلسفية تحت تأثير من ديكارت في القرن السابع عشر. ودخول العالم بعدها في سلسلة من التطورات التاريخية التي بدأت في ايطاليا القرن السادس عشر لتنتشر باشكال علمية ودينية ومعرفية لا سابق لها اوربيا سميت بعصر النهضة الحداثية.

بمجيء عصر ما بعد الحداثة التي تبنت بداياتها الاولى الفلسفة البنيوية التي كانت ثورة هوجاء على كل ما جاءت به الحداثة وعصر الانوار من اعلاء قيمة الذات الانسانية ونيل كرامتها وتنحية تدخلات رجال الدين بالعلم وضرورة افلاس سرديات التاريخ الكبرى في مقدمتها الماركسية وكتاب راس المال.. فكان موت التزام الفلسفة سريريا حقيقة فكرية مجتمعية صادمة لا تقبل المعالجة خاصة في طغيان طروحات فلسفة بنية اللغة هي نسق ذاتي مستقل يوازي الواقع والحياة ولا يقاطعهما ولا يعمد الاسهام بصنعهما ابدا. حتى ذهب بعض الفلاسفة أبعد من ذلك التطرف حين ارادوا اثبات كليّة النسق اللغوي المستقل خارجا عن فهمه الخاص أن اللغة جوهر انساني يمتلك خاصية الانسان التواصلية والحوارية بنوعه في اعتماد  خاصية متفردة أن اللغة  صوت ذو دلالة يحمل معنى.

في عبارة اخرى حين يصار الى تجريد اللغة من معناها الفكري القصدي والمعرفي والتواصلي فماذا يبقى للفلسفة ما تتاجر به أن اللغة فائض معنى نبحث عنه في قراءات متعددة بامكانها تصحيح مسار تاريخ الفلسفة الوهمي التضليلي للعقل وقضاياها الزائفة المتوارثة عبر العصور.

التيه العدمي الذي وضع نيتشة الانسان فيه منذ نهايات القرن السابع عشرفي مقولته الاستفزازية الملغمّة موت الاله أستقبلته البنيوية في أعتمادها مرتكزين الاول أن الانسان كوجود مأزوم قلق ليس من المتاح أنقاذه في المدى المنظور بل ولا أهمية تسترعي الاهتمام به كبؤرة مركزية تدور في فلكها الفلسفة والعلم والمعرفة واللغة والحياة .، والمرتكز الثاني هو تطرف فلسفة علم اللغة كمفهوم مستحدث خارج منظومة الحياة وصناعة التاريخ الحضاري للانسان. البنية اللغوية نسق تنظيمي مستقل لا علاقة تربطه بما أصطلح تسميته السرديات التاريخية الكبرى من ضمنها سردية الدين وايديووجيات السياسة والفلسفات التي انجبتها الحداثة....

كلا المفهومين الانسان كوجود ومنظومة اللغة بنية مستقلة في إنفصالها عن الانسان والواقع جرى أقصائهما العمد على لسان دي سوسير مخترع لعبة اللغة القائمة على إزدواجية المفهوم وليس أزدواجية المعنى التي كانت مفتتح تجربة جديدة في إستقبال الايديولوجيا الفلسفية المستمدة من نيتشة وغادمير في توظيف اللغة كأداة هدم وتقويض زادت عليه البنيوية تطرفا أسلوب (القوة الناعمة) بالفلسفة اللغوية والتاويل وهو مصطلح يعود نحته لأول مرة بضوء هذا الترسيم الفلسفي الذي أرادته البنيوية عسى أن يحظى بمطابقة الإحالة الصحيحة في التقويض البنيوي- التفكيكي لعالم الانسان من دون ارادة الانسان كجوهرفاعل في الطبيعة والحياة.

من الجدير الاشارة الى أن آراء فينجشتين وفريجة في نظرية المعنى وفلسفة اللغة انما جاءتا متأخرتين على بدايات دوسوسير وليفي شتراوس. فريجة اعتبر عدم ربط الفلسفة بالرياضيات وصمة عار مخجلة بحق تاريخ الفلسفة وضعها امانة في عنق بيرتراند راسل ووايتهيد اللذين اقتنعا بالفكرة واشتغلوا على ما اطلقوا عليه الوضعية التجريبية التحليلية قوامها تزاوج اللغة والرياضيات وخالفهما هذا المسعى جورج مور.. وشتراوس استغرق بحثه الفلسفي دراسة اقوام ما قبل التاريخ الذين لا تاريخ لهم كونهم لم يعرفوا معنى التدوين(الرسومات اللغوية والكتابة) وما يطلقونه من اصوات تواصلية دالة اكتشفها شتراوس من دراسة اركيولوجيا الحفريات الاثارية.

وبهذا الترسيم العدمي البعيد جدا عن إعتماد إيديولوجيا السياسة التي إستهلكت نفسها على هامش نقد الفلسفة الفضفاض إذ لم تعد أيديولوجيا السرديات الكبرى وسيلة هدم وبناء كما هو المرجو منها فأستأثرت الفلسفتان البنيوية - التفكيكية تحديدا ملء فراغ الهدم والتقويض اللغوي دونما البناء في إعتمادهما أسلوب قوة اللغة الناعمة في تنفيذهما المطلوب بانقلاب ابيض،وسرعان ما تبنّى أقطاب البنيوية كلا من بارت وفوكو ولاكان والى حد ما على صعيد ما نقصده منطلقات فلسفة اللغة الناعمة في المراجعة والتقويض إنضمام كلا من شتراوس في الانثروبوجيا(اثنولوجيا الاقوام البدائية) تاريخا وكلاما على اعتبار لا اللغة الصوتية الابجدية ولا مدوناتها الاشارية كانت مخترعة قصديا من انسان ذلك العصر السحيق للوصول الى لغة تواصلية تقوم على الصوت بذلك الوقت، وهي حقيقة لا يمكن دحضها.

والتوسير في إستهدافه السردية الماركسية الكبرى الشاخصة في كتاب رأس المال.. ومثله فعل ليفي شتراوس وبفهم سارتر في هجومه على الماركسية في عمودها الفقري كتاب راس المال أيضا. لكنهم جميعا توصلّوا الى اختلاق ماركسية بلا ماركس وبلا راس المال في هالة من التنظير الفارغ المحتوى.

وبارت على صعيد الادب في مقولته موت المؤلف، ولاكان في نقده علم النفس الفرويدي ، وفوكو في أستهدافه كل شيء يطاله بدءا من إلغائه الانسان والعقل وليس انتهاءا بالجنسانية والجنون وسلطة القمع والمنع والسجون..

إذا ما سمحنا لأنفسنا تجاوز المسار الفلسفي المعقد المتشعب لأقطاب البنيوية سنجد أنفسنا نتوقف أمام تداخلاتهم مع أبرز إمتداد فلسفي لتطويرمفهوم علم اللغة واللسانيات في مشروع بول ريكور في فلسفة التاويل الهورمنطيقا الذي يقوم بالاساس الاشتغال على تطوير منحى التاويل البنيوي الذي جاء تتويجه حين وجد ريكور مشروعه التاويلي اللغوي يستثمر أتجاهات الفلسفات الغربية الحديثة جميعا، البنيوية،الوجودية،التاويلية،الماركسية ، العدمية ،ونظرية الثقافة، والتفكيك، والتحليل اللغوي ونظريات علم اللغة، وأخيرا انثروبولوجيا الدين.. يعتبر الآن كلا من ريكور وجاك دريدا رائدا العبث في فلسفة اللغة بتطرف لا معنى له زاد في تجريد الفلسفة تجريدا اضافيا زاد في انغماس الفلسفة باللغة بما هي لغة نحو وصرف وقواعد وليس كما هو المعلن تصحيح تاريخ الفلسفة بوسيلة تصحيح معنى اللغة .

وقد أفاد بول ريكور في منهجه البنيوي التأويلي أيضا من ميراث فلاسفة التاويل غادمير، وشلاير ماخر، وأخيرا دلتاي.. كانت التاويلية لعبة ارادت تاصيل فائض المعنى المدخّر في ايجاد نسق كلي خاص في مجانسة لغوية قائمة لوحدها فقط بعيدا عن التكامل المعرفي مع الواقع بل في التوازي مع كل الموجودات والمفاهيم التي ترافق بنية اللغة ولا تقاطعها بشيء يخدم الحياة.

تاولية بول ريكور في البحث عن فائض المعنى المدّخر في متوالية قرائية مستقلة لا غبار عليها يدينها. اما ان اللغة تجريد يوازي الحياة ولا يقاطعها فهي بذلك حفرت فلسفة اللغة قبرها بيديها. وتفكيكية جاك دريدا التي ارادت بناء امجاد فلسفية لا يمكن تحقيقيها في ابتداعه ان التقويض والهدم استراتيجية تحكم النص اللغوي بما لا نهاية له في الوصول الى معنى يرتبط بمرجعية (ميتافيزيقية) مرفوض سلفا الاحتكام بها.

الإنفصامية المرضية فلسفيا التي وضعت الانسان كوجود مركزي طارد في مأزق الإحتضار السريري التي كانت البنيوية أضطلعت بالمهمّة الكبرى تنفيذه في حقنها ذلك المريض المحتضرالانسان كوجود مركزي بالحياة بمصل الموت الرحيم الذي خرج من محنة الحداثة وما بعدها في تقويضهما كل مكتسباته التي حققها له عصر النهضة والانوار والحداثة، نقول عمدت البنيوية  تشييئها الانسان الإلغائي كوجود محوري تدور في فلكه كل ماسمّي بالمعارف والعلوم والسرديات الكبرى على ما شابها من قصور لم يكن الانسان مرتكز ذلك القصور كسبب ولكن كان المساهم الاكبر الوحيد الذي ناء بحمله عواقب ذلك القصور لزمن طويل وصل الى اليوم في تحميلهم عبء العقل القاصر وخيانة المعنى اللغوي... وكلا الافتراضين لا اساس لهما من الصحة.

هذا الإنفصام المرضي الفلسفي الذي تبنته البنيوية بضراوة كان إعتمادها مفهوم الاكتفاء الذاتي في منظومة اللغة الانفصال التام عن الواقع الانساني بغية الوصول الى معرفة حقيقية للعالم على وفق قراءة لغوية بنيوية نسقية جديدة تنقذ اللغة من إحتكار علاقتها بالواقع وإستئثارها التعبير عنه وحدها.. ..

ولم تعد اللغة مرتهنة وظيفيا وسيليا في تجسير فهم الواقع بتعبير اللغة السطحي المعتاد على حد سوق ذرائع البنيوية كفلسفة حضور لمفاهيم ما بعد الحداثة..وهذا الإنفصام جعل من الأنظمة اللغوية في البنيوية وتأويلية بول ريكور وتفكيكية دريدا أنظمة مغلقة مكتفية ذاتيا تنطوي ضمنا على جميع العلاقات الممكنة بداخلها، وبالتالي لا يبقى من علاقة ضرورية تجمع اللغة بالعالم الخارجي في تمثّلات اللغة له.

واضح المقصود بالخارج اللغوي هو العالم الواقعي الخارجي للانسان بما هو الحياة في تمثّلات اللغة التعبيرية عنه تداوليا كلام تحاوري مجتمعي.. وليس بالمعنى الفلسفي الذي عّبر عنه دي سوسير أن اللغة تمتلك نظامها الداخلي الخاص بها ولا حاجة للواقع الخارجي التعريف بها ،وكذا الحال معكوسا أن الواقع بكل منظوماته التكوينية له يحقق الكفاية الذاتية بمعزل عن أهمية اللغة الاسهام بهذا التوضيح الاسهامي لمعنى الحياة.. وعندما تبطل وسيلية توظيف اللغة ويجري إنسحابها من ميدانها ألمألوف في مهمة التمثلات الواقعية للعالم الخارجي فهي تكون أنساقا لغوية خاصة بما هي منظومة علائقية تجريدية قائمة داخليا بعالمها الخاص بها خارج مهمتها التعبير عن الواقع ما يرتّب ذلك أن الواقع الانساني الحيوي يكون التعبير عنه بالكلام الشفاهي وليس باللغة المكتوبة التي تكون لوحدها خطابا يبحث في العلاقات النسقية للاشياء بما هي صيرورات متداخلة متنوعة داخل بناها اللغوية وليس في عالمها الخارجي المرتبط بالانسان الذي أصبح لا يمتلك سوى اللغة في توكيد وجوده الانساني والتي عمدت فلسفة اللغة ونظرية المعنى والتحول اللغوي مصادرة عائديتها الخصائصية بالانسان كوجود نوعي تنتظمه اللغة..

هذه الواقعة المعتمدة بنيويا بموجبها تعتبر نفسها فلسفة نمطية نسقية كليّة من التفكير الجوّاني الذي يعتمل ويتكوّن داخل السيرورة اللغوية بما هي نسق معرفي مستقل له احكام وضوابط خاصة يهتم بعوالمه المخترعة لغويا ولا قيمة للواقع والانسان في علاقة الربط بينهما وبين اللغة...

هذا النمط النسقي اللغوي ( يكون تفكيرا يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية، حينها لم تعد اللغة وسيطا بين العقول والاشياء) على حد تعبير ريكور. فقد تم إغتيال الواقع الحياتي ملاذ الانسان الاخيربأستعداء اللغة عليه وركنه جانبا خارج إهتمامات الفلسفة..بعيدا عن كل إشتراط منهجي عقلي مخالف لهذا التوجه المنحرف..

هناك حقيقة متداولة عمرها عشرات القرون هي أن اللغة تفكير العقل المدرك في معرفة الاشياء والتعريف بها، واللغة هي الوسيط التعريفي بين العقل والاشياء في تعالقهما إدراكا معرفيا.. هذا الفهم إعتبرته البنيوية ومن بعدها التفكيكية في إعتمادهما منظومة علوم اللغة واللسانيات والتاويل والتحليل والإحالة والإرجاء مرتكزا فلسفيا في فهم العالم والانسان في عالمه الخارجي لم يعد له تلك القيمة المطلقة التسليم بصحتها وحقيقة الانسان خارج المنظومة اللغوية لاشيء كما هي اللغة من دون الانسان لا معنى لها لا معرفيا ولا فلسفيا.. هذا التوجه في أخراج الانسان من الحياة والتاريخ قاد مأزق الانسان الوجودي بالحياة الى أكبر منه ، فاللغة هي تجريد علاماتي خطابي في فهم الانسان وعالمه الخارجي، فكيف باللغة عندما تكون في الفلسفة البنيوية والتفكيكية تجريدا مضافا لتفسير تجريد سابق عليه في الإنفصال التام التعبير عن الواقع الانساني والحياة؟ انفصال اللغة عن الحياة كما هو متداول اصبحت نسقا لغويا ادخلت تاريخ الفلسفة في نظرية فائض المعنى وقصور اللغة في متاهة البحث عن معنى كل شيء في وضعه امام علامة استفهام لا تجد اجابة لها.

فنجشتين فيلسوف اللغة المعروف أراد إخراج اللغة من عنق الزجاجة كما يقال الذي هو النفق الذي أدخلته البنيوية ومن بعدها التفكيكية فيه حين أعتبرتا النظام اللغوي المكتفي بصنع عوالمه الذاتية المستقلة كنسق يسير في توازيه مع الواقع المعيش هو منظومة اللغة أو الخطاب الواجب الإهتمام به... وليس من مهمة هذا الخطاب اللغوي المنعزل عن تفسير العالم الخارجي ومركزية الانسان فيه الذي بشّرت به الحداثة لأكثر من قرن...ولا أهمية يمتلكها إنسان ما بعد الحداثة ليحتكر محورية التفكير بالحياة والوجود والتاريخ فلسفيا وعلميا وسياسيا ايضا....لذا نجد الفلسفة التي انتزع الاميركان سيادتها من الفرنسيين طرقوا ابوابا غريبة على تاريخ الفلسفة في محاولة تعويض الضياع الزمني في عقم وعجز التجديد. ونجد هذا في اقتراب الفلسفة من قضايا علم الاجتماع بمثابة النجاة من الغرق.

أمام هذا الفهم الفلسفي البنيوي التهميشي الذي زرع بذرته الاولى فينجشتين في كتيبّه (رسالة منطقية فلسفية) عن قصور فهم وليس عن خطأ متعمّد مقصود حاول تصحيحه لاحقا لكن تلك الأخطاء التي تضمنتها المخطوطة مهدّت لبروز ظاهرة التطرف اللغوي في البنيوية والتفكيكية من بعده، وأستثمرته البنيوية والتفكيكية والعدمية بعد وفاة فينجشتين إستثمارا سلبيا بشعا حتى بعد طرح فينجشتين في كتيبه الاخير(تحقيقات فلسفية) الذي حاول فيه تصحيح أخطائه في رسالته المنطقية... ويبدو بفضل نقودات عديدة وجهت لمخطوطته الفلسفية الاولى في الرسالة المنطقية تراجع فينجشتين عن بعض طروحاته التي وجدها لم تكن ناضجة وأراد التصحيح في كتابه التالي تحقيقات فلسفية قائلا ما معناه أن تمثّلات اللغة للواقع هو تلك الحيوية الخلاقة التي تبعثها اللغة في جسد ذلك الواقع المعيش في الوقت نفسه التي تكتسب هي- اللغة - حيويتها الحضورية في تطوير نظامها اللغوي بتأثير من الواقع الذي تحكمه الصيرورة أيضا كما تحكم الواقع بذات الحين..

وفي حال العجز من تحقيق هذه المهمة فسوف لن يكون للغة معنى يمكن حضوره وعليه يكون صمت اللغة في العجز أجدى وأكثر حيوية من التعبير عن اللامعنى في التشبث بنحو وشكلانية اللغة من حيث هي لغة فقط على حساب إلغاء المضمون الفلسفي المرجو تحقيقه في حل إشكاليات مفاهيم الفلسفة العالقة بوسيلية تعبير اللغة الإلتباسي المعقد وليس حل مشاكل نحو اللغة بما هي تجنيس في الادب على حساب تنحية مفاهيم الفلسفة عن طريق ماسمّي التحول اللغوي كتجديد فلسفي تاريخي .هذا التحذير الذي نادى فينجشتين به أن اللغة لا تستمد فعاليتها القصوى إلا في صيرورة الحياة وجريانها المجتمعي المتدفق والانسان جزء هام من هذه المنظومة التي هي مصنع الحيوية البشرية للحياة والوجود..والذي تبنته الفلسفة التحليلية الانجليزية عّبررفضها والتقاطع مع رائد فلسفة التاويل اللغوي بول ريكورالذي هو أمتداد وتطوير منطلقات البنيوية في اللغة قوله ( لم تعد اللغة بوصفها صورة الحياة كما أراد لها فينجشتين ، بل صارت نظاما مكتفيا بذاته يمتلك علاقاته الخاصة به) . وكان سبق لأقطاب البنيوية أن أخرجوا اللغة بوصفها خطابا لا تتحدد مقاصده في تعابير المفردات اللغوية المنفصلة التي لا ينتظمها سياق الجملة وموقعها في بنية النسق الخطابي داخليا..وعبّر عن هذا المعنى دي سوسير(أرجحية الكلام على اللغة بأعتبار الكلام فردي تعاقبي وعارض، واللغة أو اللسان هو الاجتماعي والتزامني والنسقي لذا يكون الخطاب بدلا من الكلام).

منطق دي سوسير هو تنحية الكلام عن مهمته واسطة التعامل المتحاور مع الواقع الحياتي، في أزاحته التنافسية عن طريق فهم اللغة أنها منظومة خطاب متكامل مكتف ذاتيا في تصنيعه عوالمه اللغوية، ويرى سوسيرالكلام فرديا تعاقبيا عارضا، أي أنه محاورة مجتمعية من الكلام الشفاهي ، تسمه بصمة فردية المتكلم، والتعاقب الحواري في تنوع المصدر الفرد المتكلم وما يحمله من محمولات الحديث العابر، وهو أي الكلام أخيرا عارض مؤقت زائل لإنتهاء دوره الإستعمالي التوظيفي في التواصل الحواري التخاطبي التداولي مع إنتهاء وتفرّق المتحادثين المشاركين في إنتاجية وإستهلاك الكلام الجماعي في التحاوربينهم.

فالكلام يختلف عن اللغة الصوتية أنه لا يصلح لتدوين مكتوب يلازمه ملازمة تدوين الكتابة اللغوية.بينما تكون اللغة حسب فهمنا عن دي سوسير خطابا تدوينيا ثابتا مكتوبا في الغالب حين يكون نصّا لغويا تعبيريا.. يحكم ذلك الخطاب نسق من العلاقات الداخلية التي تجعل منه بؤرة مركزية ثابتة الفهم والقيمة على المدى البعيد على خلاف الكلام الذي يستهلك نفسه في الشفاهية التحاورية في وقتية زمنية زائلة يطالها التزامن العرضي..

نعود الآن الى مبتدءات فهمنا معنى الكلمة أو المفردة هو أنها لفظ صوتي مسموع دال وصوري مكتوب خال من المعنى ما لم يكن متضمّنا دلالته المحمولة بمعناه القصدي سلفا،وفي هذا تجد البنيوية تبسيطا مخّلا عندما لا يكون معنى المفردة مستمدا من سياقها المنتظم في جملة نسقية تشي عن عبارة تحمل معنى متكاملا ونجد تعبير ريكور بهذا المعنى (الجملة وحدة الخطاب الاساسية التي تشمل وحدات أكثر تعقيدا، وتعاقب الكلمات بالجملة لا معنى ينتظمها ما لم تكن ضمن وحدة نسقية تحمل الدلالة بلا قطوعات معاني المفردات المنفردة التي هي الجملة .).

هذه المفارقة التي حاولت البنيوية تكريسها إنما وجدت ضالتها في التماهي الهيدجري معها الذي أيّد منطلق أن تكون اللغة أصبحت فلسفيا حقيقتها مكفولة في إنفصالها عن الواقع وتمّثلاته ويؤثر هيدجر ويفضّل (الشاعر – ويقصد به شاعره الاثير هولدرين الذي يمتلك نفس الحفاوة لدى فوكو – كونه يقول الوجود بلغة الوجود الاصيلة). لنا شرح مفصل في مبحث منفصل لوحده من هذا الخطاب يحتويه الكتاب على هذا االطرح السطحي الغافل..

هنا الوجود الاصيل الذي يقصده هيدجر هو الذي ينفرد التعبير عنه بمكنة خاصيّة لغة الشاعر التعبير عن (اللاوجود)، أي بمعنى الوجود القائم على تصورات التهويم الخيالي في تفكيك نسق اللغة التداولي الذي يقصي سلطة العقل على المعنى تماما في رقابة اللغة الشاعرية، فيكون بهذا تعبيرالشاعر الشعري عن الوجود الاصيل إنما هو تداعيات الخيال في اللاشعور الذي تتفكك اللغة فيه وتخرج عن نظامها الدلالي المألوف الى حد طغيان اللاشعورفي تعبير اللغة.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

حزيران 2022

تحتل الموضوعات الفكرية والثقافية الحيز الأكبر من نتاج العلّامة الشيخ محمد علي التسخيري؛ إذ أثرى المكتبة الإسلامية بعدد كبير من المؤلفات والبحوث والمقالات التي تقارب شتى مجالات الفكر والثقافة والشأن الإسلامي الحركي والدولي، وكان كثير منها إضافات نوعية، عالجت قضايا إشكالية أساسية، وخاصة تلك التي ظهرت بالتزامن مع تجربة التطبيق الإسلامي المعاصرة.

ومما ظل يميز المسيرة الفكرية للعلّامة التسخيري، طوال خمسة عقود، هو إفساحه المجال لزملائه ومساعديه وتلاميذه، بإنتاج بحوث مشتركة معه، أو تحت إشرافه، في إطار تعاون علمي غير متعارف كثيراً في الساحة العلمية، ومن يطّلع على بعض نتاجاته المنشورة؛ سيجد اسم آية الله التسخيري مقرونة بأسماء أُخر، وهو ما كان يعدّه كسباً للساحة الفكرية؛ لأنّ النتاجات المشتركة، كما كان يقول: «تمثل ثمرة تعاون علمي وفكري وثقافي جماعي، يثري البحث ويوسع آفاق المعالجات».

ومما صدر له في هذا المجال: مشروع «تفسير القرآن الكريم» الذي بدأه بمباركة أُستاذه الإمام السيد محمد باقر الصدر، ومشروع «الأحاديث المشتركة بين السنة والشيعة»، و«دراسات فقهية مهمة»، قدم أغلبها إلى مجمع الفقه الإسلامي، وكذا بحوث فكرية وثقافية صدرت في كتب أو في الدوريات العلمية والبحثية. ولعلّي أكثر مستشاريه وتلاميذه استفادة من هذا المبدأ، أي مبدأ كتابة البحوث المشتركة معه؛ بسبب العلاقة القريبة والطويلة زمنياً، وتفرغي للعمل الفكري إلى جانبه فترة من الزمن.4683 مقاربات

وهذا الكتاب الذي يحمل عنوان: «مقاربات في الفكر والثقافة والأدب»، هو جزء من ثمرة علاقتي الفكرية والعملية بالعلّامة التسخيري، وتتلمذي المنهجي والعلمي عنده، خلال ثلاثة عقود. وأقول جزء؛ لأنّ الدراسات والمقالات التي ضمّها الكتاب هي جزء مما كتبناه بشكل مشترك، وليس كل ما كتبناه، وربما سأنشر جزءاً آخر منها مستقبلاً. وقد نُشرت بعض دراسات هذا الكتاب باسم الشيخ التسخيري، وأُخر باسمي، وثالثة باسم بعض المؤسسات، كما أنّ بعضه غير منشور.

والحقيقة أنّ فكرة إصدار هذا الكتاب المشترك هي فكرة قديمة، ربما تعود إلى عشر سنوات سبقت رحيله، وقد فاتحت بها سماحته حينها، لكنّ عامل الوقت كان سبب التأخير والتجميد؛ لأنّ عملية الإعداد تحتاج إلى تفرغ ووقت ليس بالقليل. بيد أنّ رحيل شيخي وأُستاذي التسخيري (في 18 آب/ أغسطس 2020م)؛ حفّزني على الوفاء له بجملة من الأعمال، منها إعداد هذا الكتاب، وكتابين آخرين، الأوّل بعنوان: «التسخيري المواطن الإسلامي العالمي»، والثاني: «ذاكرة التسخيري».

وربما تحتاج مسيرة علاقتي بالعلّامة الشيخ محمد علي التسخيري إلى كتاب لوحدها؛ فهي علاقة لها خصوصية معنوية وعملية. ففي العام 1979، حين سمعت باسمه للمرة الأُولى من مسؤولي الحركي، وأنا في النجف، بات حلمي أن أراه وحسب، وكذا آخرين من روّاد الحركة الإسلامية العراقية، وهو ما حصل بالفعل في العام 1980، حين رأيته للمرة الأُولى، وحتى بداية العلاقة عبر مجلة «التوحيد» في العام 1984، ثم ترؤسي تحرير المجلة، خلفاً له وتحت مسؤوليته المباشرة في العام 1991، وحتى أصبحتُ مستشاره وضمن فريق عمله ومرافقاً إيّاه إلى كثير من دول العالم، بدءاً من العام 1998. وتتوّجت مسيرة تتلمذي له وتعاوني معه خلال مرحلة إشرافه على أُطروحتي الماجستير بعد العام 1999، ثم الدكتوراه بعد العام 2003.

وكنت ولا أزال أقول: إنّ أغلب ما لديّ في حياتي؛ يعود فضله إلى الله (تعالى) أوّلاً، ثم إلى شيخي التسخيري؛ ليس في الجانب العلمي والفكري والثقافي وحسب، بل في الجانب العملي والوظيفي والاجتماعي والعائلي أيضاً؛ لأنّ الشيخ لم ينظر إليَّ يوماً نظرة أُحادية ترتبط بالجانب الوظيفي أو الأُسري أو الفكري؛ بل كنت أحظى بتبنّيه وعنايته الشاملة. ولطالما عبّرت له عن خجلي وشعوري العالي بالمسؤولية تجاه هذه الرعاية، وكان يجيب بأنّ هذا هو منهج أُستاذه الإمام السيد محمد باقر الصدر. ويشهد الله أنّ شيخي التسخيري لم يحسسني لحظةً بالمنِّ أو بأنّي تلميذه أو موظفاً عنده، أو أنّ هناك فارق عشرين عاماً من العمر بيننا، وفارق سنين أكبر في المستوى العلمي والفكري، أو يتشدق بأنّه تلميذ الإمام الصدر والإمام الخميني؛ بل كان يردّد دائماً كلمة (تعاون) و(نتعاون). ويكفيه عظمةً أنّه بذلك يزرع الثقة في نفوس تلاميذه ومقرّبيه، ويعطيهم فرصة النمو الروحي والنفسي والعلمي. وكان جوابه لمن كان يستفهم منه: «كيف تضع علي المؤمن رئيساً لتحرير مجلة التوحيد، أهم مجلة فكرية بحثية، خلفاً لك، وأنت من أنت، وهو لم يبلغ 27 عاماً من عمره؟». فكان جوابه يخجلني كثيراً؛ لأنّه يصفني بما لا أستحقه، تعبيراً عن ثقته ودعمه وتحفيزه. وكنت أدعو الله دائماً أن أكون عند حسن ظنّه، وأن لا أتسبب في إحراجه يوماً، وأحمد الله أنّه ظل يفتخر بثمار هذه الثقة حتى قبل وفاته بأيام معدودات.

وبالنظر لكون مسيرة التبنّي هذه، هي تجربة إنسانية وعلمية مميزة ومفيدة؛ فقد أفردت لها جزءاً من كتاب: «ذاكرة التسخيري»؛ علّها تكون أُنموذجاً يحتذي به رموز العلم والفكر مع المحيطين بهم من الشباب.

لقد تم تقسيم دراسات هذا الكتاب ومقالاته تقسيماً موضوعياً، ثم توزيعها على ستة فصول، وخمسة ملاحق.

حمل الفصل الأول عنوان: (قواعد تجديد الفكر الإسلامي)، واحتوى على مقاربتين، الأُولى: (التجديد في الفكر الإسلامي ومعالم المرونة في التشريع)، تناولت موضوعات مظاهر التجديد والمرونة في الشريعة، ومنافذ الفكر البشري إلى المساحة المشروعة، وقواعد ضبط التجديد، والطريق إلى التجديد للحاضر والمستقبل. أمّا المقاربة الثانية: (تجديد الشريعة الإسلامية واستدعاءات المستقبل)، فهي حوار تداولي مشترك تناول علاقة التراث بالمستقبل، وضرورات تجديد علم الكلام، ومنهجية فلسفة الفقه، وقراءة الشريعة بذهنية المستقبل وتطوير فقه المقاصد.

فيما حمل الفصل الثاني عنوان: (مرجعية أهل البيت الإسلامية)، وضمّ مقاربتين، الأُولى: (المرجعية العلمية والتفسيرية لأهل البيت)، وبحثت في المرجعية العلمية للمسلمين في القرآن والسنّة، والمكانة العلمية لأهل البيت في الواقع الإسلامي، وأُسلوب المناظرة والحوار في حياة أهل البيت العلمية، والإنتاج العلمي لأهل البيت، وتكريس أهل البيت علمهم في خدمة مصالح الأُمّة. وتناولت المقاربة الثانية: (مرجعية رسالة الإمام السجاد في الحقوق)، ولا سيّما الحقوق الإلهیة وحقوق النفس والحقوق العامة.

وتناول الفصل الثالث (الواقع الإسلامي وتحدّيات التنمية المستدامة)، وتم إدراج ثلاث مقاربات، الأُولى: (الإسلام في الألفية الثالثة)، درستُ فيها موقع الإسلام في الثقافة العالمیة ومفهوم الثورة الثقافية الإسلامية. في حين حملت المقاربة الثانية عنوان: (الإسلام وتنمیة المجتمع المعاصر)، والثالثة: (مفهوم العلم من منظار الإسلام)، وتناولت مفهوم العلم بین الفكر الوضعي والفكر الإسلامي، والترابط بین العلوم الشرعیة والعلوم الطبیعیة، ونظرة القرآن الكریم إلى العلم الطبیعي، والعلم الطبیعي في الحدیث الشریف، وموقع العلم في مسیرة الحضارة الإسلامیة.

أمّا الفصل الرابع الذي خصّصناه لموضوعات: (الأقلیات المسلمة في الغرب)؛ فقد احتوى على ثلاث مقاربات، الأُولى: (الأقلیات المسلمة في الغرب وتحدّيات الاغتیال الثقافي)، وعالجت المظاهر المتفرعة عنه، وخاصة التربوية والتعليمية والاجتماعية والحقوقية والثقافية والإعلامية، ثم طرحت معالجات وافية في أغلب المجالات الحياتية. بينما تخصصت المقاربة الثانية في معالجة حقوق الأقليات المسلمة في الغرب في ضوء التشريعات الغربية، والثالثة في واقع ومشاكل الأقليات المسلمة في أُوروبا الشرقية بين العهدين الشيوعي والديمقراطي.

بينما تناول الفصل الخامس (حوار الحضارات والأديان والمذاهب)، وعالجت المقاربة الأُولى منه: (قيم الحوار والتعايش في الرؤية الإسلامية)، وتناولت قيم الحوار ومبادئه وأنواعه وأطرافه وآدابه وأخلاه من وجهة نظر اسلامية، إضافة إلى نماذج من حوارات الرسول والأئمة^. وحملت المقاربة الثانية عنوان: (المسلمون والعلاقة المتوازنة بين الحضارات)، وعالجت موضوعات الحاجة الإنسانية للحوار، وكونه مبدأً إسلامياً، وقدرته على تحقيق هدف الأمن والسلام، وخيارات البشـرية لتحقيق الأمن والسلام، وعالمية الإسلام، ومسؤولية الأُمّة الإسلامية تجاه السلام العالمي والتمهيد لحكومة السلام العالمية. في حين تناولت المقاربة الثالثة: (مستقبل الحوار الإسلامي ـ المسيحي)، ودوافع الحوار بين الأديان والإرهاب، وبيئة ظهور الإرهاب وعوامل اجتثاثه.

وكان الفصل السادس محطة ثقافية أدبية، عنوانها: (أدب أبي فراس الحمداني وسعدي الشيرازي)، ومقاربته الأُولى حول: ( تصالح المتعارضات في شعر الأمير العربي أبي فراس الحمداني)، وتحديداً ثنائيات: الفخر بالعشيرة والشكوى منها، والغرور والتذلل، والعفة والتحلل، وكبرياء الأمير وبكاء الأسير، والتدين والجبروت. أمّا المقاربة الثانية فكانت حول: (التفاعل بين الأدبين العربي والفارسي)، والتي أخذت أدب الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي أُنموذجاً؛ فقد درست التكامل الثقافي بين العرب والإيرانيين والتفاعل بين الأدبين العربي والفارسي، وشعر سعدي ونثره المعبرين عن هذا التفاعل.

وفي الختام، أتقدم بهذا الجهد إلى روح شيخي وأُستاذي المفكر والفقيه والقائد العلّامة محمد علي التسخيري، عرفاناً مني بفضله الأكبر في حياتي بعد الله (تعالى)، وإحياءً لذكرى رحيله الأُولى. إذ لا يزال الشعور بالألم والغصة برحيله تملآن الروح والعقل، الأمر الذي يدعونا إلى مواصلة منهجه ومسيرته الفكرية والثقافية.

***

علي المؤمن

 

 

رغم تمتع الكثير من مصممي الأغلفة بطاقات ابتكارية مبهرة ورائعة، أنتجت الكثير من الجمال الأخاذ الذي يتوافق عادة مع مضمون الكتاب، وهو ما وجدته لدى أكثر من مصمم تعاملت معهم في عملي على إصدار مؤلفاتي التي فاق عددها السبعين في عدة بلدان عربية فضلا عن العراق، إلا أن القلق يساور روحي كلما نويت أن أصدر كتابا جديدا ولاسيما إذا ما كان الكتاب أدبيا، خوفا من أن لا نوفق في تصميم غلاف يتوافق كليا مع مضمون الكتاب ويدل عليه لنطبق المقولة الدارجة: "الكتاب يقرا من عنوانه" حرفيا.4674 صالح الطائي

من هنا تجدني حينما نويت إصدار مجموعتي الشعرية الجديدة "تنهدات على عتبة السبعين"، كنت في غاية القلق بشأن موضوع تصميم غلاف يتوافق مع المضمون بشكل انسيابي لا أبهام فيه، ولاسيما العثور على لوحة فنية يطابق مضمونها مضمون المجموعة، وبعد جهد جهيد، وبحث شديد، لم أوفق بالعثور على شيء مناسب، وصادف أن اتصل بي أحد أصدقائي؛ الذي لمس عدم تجاوبي معه مثلما أفعل في كل مرة، فسألني عن سبب اضطرابي وقلقي، وحينما أوضحت له الأسباب، بادر بالقول: والله لا أبسط منها، وهناك قامة فنية باسقة بإمكانها أن تترجم كل مضمون المجموعة بلوحة واحدة، قلت: من هذا العملاق الذي لا أعرفه؟ قال: إنه الفنان التشكيلي العراقي الكبير ستار كاووش، وهو فنان من الطراز الأول إبداعا وخلقا وكرما وسخاء، وبالنسبة لي أنا واقعا لم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل، ربما تقصيرا مني لأني لا أتابع النشاطات الفنية بسبب كثرة انشغالي بالكتابة التي تأخذ جل وقتي، واعترافا مني بهذا التقصير بادرت فورا إلى مراسلة الفنانن مبينا له رغبتي في الحصول على واحدة من لوحاته تحمل نفس رؤى مجموعتي التي تتحدث أغلبها عن مرحلة عمر ما بعد السبعين.

وبيني وبينكم أنا لم أكن واثقا من نوع ردة فعله على طلبي الوقح هذا، ولاسيما وأنه لا يعرفني، وقد يكون لم يسمع بي من قبل، ولا يعرف شيئا عني أصلا، ولذا توقعت أن يهمل رسالتي، ولا يلتفت إليها، وفي أفضل الأحوال أن يعتذر تأدبا، وهذا وذاك من حقه. لكن المفاجأة لم تكن بسرعة رده على رسالتي وحدها فحسب، بل وبالموافقة على اعطائي واحدة من لوحاته بلا مقابل، وأرسل لي فعلا لوحتين جميلتين، ثم أردفهما بثالثة، هذه اللوحات الثلاث لم تجد طريقها إلى قلبي رغم جمالها، ربما لأني لم أفهم مضمونها، أو لأن فيها بعدا عن مضمون المجموعة، فأخبرته بمشاعري، وشرحت له فكرة المجموعة الشعرية، وحينها بادر وأرسل لي لوحة مغرقة بالحركة وكأنها تنبض بالحياة، وجدتها قد دخلت قلبي ما إن رأيتها، بل وجدتها تعج بمضامين المجموعة، ولاسيما وأنه أرفق معها شرحا مبسطا، قال فيه:  "بالنسبة لما يمكن أن أقوله عن هذا العمل إنه يمثل  رجلا وامرأة يحتضنان بعضهما، ويستعيدان ذكريات وتفاصيل ومحبة من أيامهما التي مرت، ولم يتبق منها سوى كم الذكريات الحلوة والمرة. في هذه اللوحة يتداخل الجسدان ببعضهما، وتتحول المرأة الى ملكة؛ وهي في حضن الرجل الذي يشرد بنظراته بعيداً، وكأنه يستعيد في ذاكرته كل تلك الأيام الجميلة التي قضاها مع محبوبته، فيما التمعت نقطة ضوء في العتمة التي على اليسار لتعطي للتكوين بعض التوازن. استخدمت هنا تقنية تقترب من تقنية الحفر على الخشب، لأمنح العمل تعبيرا ووضوحا وتأثيرا أكبر".

هكذا فهم الفنان كاووش مضمون المجموعة ومحتواها، وعبر عنه بلوحة تكوينية فريدة فيها الكثير من الرمزية، تمكنت من الإمساك بكل خيوط المجموعة دفعة واحدة، فتحولت المجموعة بفضلها إلى لوحة فنية، واللوحة بمحتواها تحولت إلى مجموعة شعرية؛ في تجانس لم أعهده من قبل، حيث تتداخل الأبعاد، بعد المجموعة وبعد اللوحة لتتحول إلى بعدٍ يضج بالمعنى، يستنهض الذكريات، يستفزها، يثيرها، يحثها على التفاعل مع الحاضر لتمنحه بعض ألق الأمس الذي مضى مأسوفا عليه. 

إن لوحة الفنان الكبير ستار كاووش أضافت بعدا آخر جديدا للمجموعة، وحفزت موضوعا جماليا أعلن عن ولادة نهج جديد في عملية تصميم الأغلفة التوافقية؛ أي توافق الصورة من خلال أسلوبها الرمزي مع المعنى، لأنها جاءت مفتوحة على عمق اندهاشي يثير التساؤل ويدعو إلى التفكر والبحث عن العلاقة السيميائية التي تذكر بسلفنا الإنسان الأول القديم؛ الذي اعتاد استنطاق العلامات واصطناع الدلالات منذ فجر التاريخ في محاولته للبحث عن المعنى، حيث تترادف العلامة الرمزية مع العلامة اللسانية، وبتقاربهما المدهش تتضح معاني المقاصد الجذرية بين الريشة والقلم، فالريشة والقلم كلاهما كانا من أقدس الأدوات التي رسمت للإنسان طريقه، وفتحت مداركه، ودلته على جذور المعنى، وخلدت مبادراته، وهي بعملها هذا لا تقل عن جميع أساليب التدريب على القتال من أجل الدفاع عن النفس، فالإنسان ما كان ليخلد كل هذه السنين لو لم يوظف السيف والقلم والريشة لتتولى مهمة ترتيب حياته ورسم خطوات مستقبله.

وبرأيي أن رمزية اللوحة المغرقة بالسريالية؛ التي تنماز بفوق واقعيتها؛ والتي تسعى إلى التعبير عن العقل الباطن ومضمراته بصورة يعوزها النظام والمنطق من أجل رسم نظام ومنطق جديدين، هي الخيار الأمثل لترجمة معنى التلقائية النفسية الخالصة، التي يمكن من خلالها التعبير بصدق عن واقع اشتغال الفكر، وهي بهذا المعنى العميق إنما جاءت لتفصح عن رمزية نص لا تتوافق معه الواقعية والطبعانية، لأن الرمزية تعبر عن التجارب الأدبية والفلسفية المختلفة تلميحا وإيحاءً تعبيرا غير المباشر، ولكن فيه من العمق ما يوصلك إلى المعنى المباشر دونما عناء

إذن فالأمر يتعلق حقيقة بقواعد فهم الجمال دون حاجة إلى تحكم خارجي، ولا إلى مراقبة تمارس من طرف العقل وخارجه في محاولة استنطاق المعنى تأويليا، لأنها تعمل على الارتقاء بالشكل الطبيعي للنص إلى ما فوق الواقع المرئي من خلال منهج توافقي بين الرقابتين الداخلية والخارجية، وفي ذلك اعلى مراحل تحفيز العقل لإدراك المعنى.

يذكر أن مجموعة تنهدات على عتبة السبعين ستصدر في الأيام الأولى من عام 2023 عن دار المتن البغدادية.

***

الدكتور صالح الطائي

مع بداية عام 2023، تصدر الشاعرة هيام مصطفى قبلان مجموعتها القصصية  "بَعْدَ أَنْ كَبُرَ الْمَوْجُ"، عن دار الوسط للنشر في رام الله، لتتوّج عامها الجديد بأحد إبداعاتها المميّزة، وقد استهلّت مجموعتها بقصّة تحت عنوان "أفقد نفسي":

"كيف بي لا أهوى السّفر، وأنت من علّمتني أنّ الأسفار تريح الفكر، وتُعلّقنا من أهدابنا كالنّجوم، بعيدًا عن الأرض".

جاءت المجموعة في 120 صفحة من القطع الأقلّ من المتوسّط، وضمّت بين دفتيها 22 نصًّا قصصيًّا، وبلغة شاعريّة مميّزة، حملت عناوين القصص التّالية:

"أفقد نفسي، شغف، ثرثرة، أشتهيك يا موت، العار، جمرٌ وأمرٌ، ضوءٌ متكسّر، سربُ ضجيج، بعد أن كبر الموج، لوم، ذاكرة العسل المُرّ، نقراتُ الكعب العالي، منفضة، رهان، طائرُ النفايات، دون خيار، فوق سرير أبيض، وفاء، مغفرة، هودج الأحزان، خطيئة، وهناء".

واختتمت الشاعرة هيام  مجموعتها القصصيّة بما ورد على الغلاف الأخير:

" الشّوارع مزدحمة، والباعة يتجوّلون ساعات الفجر في الحارات ككُتّاب القصيدة، يُعبّرون عن وجودهم بالهزيمة، تسقط كلّ الأقنعة، وما الشّاعر سوى بائعٍ مُتجوّل يحمل الكشكول، ويركل الحمار برجله. فيما شكلت لوحة الغلاف: لينا صقر مصطفى .

يا للدّنيا الغرورة!

اللّحظات فيها عابرة هاربة، الموجة تتملّص من بين يديّ كلّما عانقت أوراق الرّحيل، عطشي ينبح، وجسدي ينبح دون اكتراث بالمطاردة.

أُقاوم الطُّعم، أرنو من صخرة شهدتْ قراءاتي الأولى وامتصّت نهدَ الرّمال، وأُقرّر ألّا أتبعك، وأن أدخل غرفتي الصّغيرة المتعمشقة على جدرانها أحلامي الورديّة، ويسكنني ليلي وحدي..

أشرب قهوتي، أطالع أخبار الصّباح وحدي، أتسكّع على الأرصفة، تثيرني كلماتُ وأشعار (كافكا)، أعاشر روحًا شهقتني،  وأعود لتلك الطفلة الشّقيّة الّتي تسكنني، لحقيبتي المدرسيّة، لأوراقي، لقصصٍ مثيرة لامست أهدابي، واعتصرها الدّمع"..

هيام قبلان والسّيرة الذّاتيّة

الاسم: هيام مصطفى قبلان، أديبة وشاعرة

السّكن: قرية عسفيا / جبل الكرمل /فلسطين

رقم الهاتف: 00972523765121

ايميل: [email protected]

مراحل دراستي:

أنهيت المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة في عسفيا، والمرحلة الثّانويّة في مدرسة راهبات الفرنسيسكان الطليان في النّاصرة، والتّعليم الأكاديميّ للّقب الأوّل في التّاريخ العامّ، في جامعة حيفا 1978، وللّقب الأوّل في اللّغة العربيّة وأدابها في الكلّيّة العربيّة حيفا 1985.

دورات استكمالي بموضوع التربية الخاصّة والعامّة في الكلّيّة العربيّة حيفا 1980، وموضوع ترابيا (العلاج عن طريق الفنون) في كلّيّة أورانيم 1995.

إصدارات:

1. آمال على الدّروب 1975  شعر، مطبعة العتقي - حيفا.

2. همسات صارخة 1981 شعر، دار المشرق - شفاعمرو.

3. وجوه وسفر 1992 شعر، دار المشرق - شفاعمرو.

4. انزع قيدك واتبعني 2002 شعر، مطبعة البلد سمير أبو رحمون- جديدة المكر، الجليل.

5. لا أرى غير ظلي 2008 شعر، بيت الشعر الفلسطيني - رام الله.

الأعمال النّثريّة:

6. بين أصابع البحر/  نصوص أدبية 6 199، دار المشرق- شفاعمرو

7. طفل خارج من معطفه/ قصّة قصيرة 1998 دار اسيا - القدس

8. رواية رائحة الزمن العاري ط1، 2010 دار التلاقي، القاهرة ط2، 2012، دار الريشة، نابلس

إنجازات أدبيّة أخرى:

1. مشاركة بأنطولوجيا مترجمة من اللغة العربية للفرنسية، طبعت في باريس، تضمّ 50 كاتبة وشاعرة من العالم العربيّ، ونماذج إبداعيّة من إعداد وإشراف الشّاعرة السّوريّة مرام المصريّ.

2. مشاركة في كتاب (المرأة وتطوير السّرد العربيّ) نماذج لروائيّات وقاصّات من العالم العربيّ - إعداد النّاقد والباحث المغربيّ محمد معتصم .

شاركت في مهرجانات: شاركت في مهرجانات:

1. مهرجان الدّبلوماسيّة في المغرب .

2. مهرجان أيّام القصيدة الذّهبيّة في تونس.

3. مهرجان تراثيّ هُويّتي في تونس.

4. معرض الكتاب في القاهرة منصّات شعريّة.

5. معرض الكتاب في الإسكندريّة منصّات الشّعر والقصّة والنّقد.

6. ملتقى زرهون للشّعر مولاي إدريس، ملتقى مريرت المغرب، ملتقى تيفلت المغرب.

7. مهرجان الشّعر تطوان في المضيق المغرب وغيرها ..!

شاركت في مهرجانات دولية غربية:

1. مهرجان الشعر الدولي في مدريد أسبانيا

2. مهرجان الشعر والسياسة في نيو كاسل ألمانيا.

شاركت في أمسيات عديدة  داخل البلاد وخارج البلاد:

الأردن، مصر، باريس، المغرب، تونس ودول أخرى!

***

كُتِبت المقالات الواردة في هذا المؤلَّف على فترات متقارِبة نسبيّا، ونُشرت على أعمدة الصحف المغاربيّة والمشرقيّة، وبالمثل في جملة من الصحف الخليجيّة والصحف العربيّة اللندنيّة. كما أنّ المقالات كافة نُشرت في أكثر من بلد وتوزّعت على أكثر من صحيفة، مثل "اليوم" و"الخبر" و"البصائر" (الجزائر)، و"الصباح" و"الصحوة" (تونس)، و"فبراير" (ليبيا)، و"الأسبوع" و"الشروق" (مصر)، و"النهار" و"السفير" و"المستقبل" و"اللواء" (لبنان)، و"العراق اليوم" و"العالم" (العراق)، و"السياسة" (الكويت)، و"الاتحاد" (الإمارات العربية)، و"الشرق" (قطر)، و"عُمان" (عمان)، و"القدس العربيّ" و"الزمان" (إنجلترا). ليس الغرض من إشاعتها توسيع دائرة قرّائها فحسب، بل ما حرص عليه صاحبها أيضا وهو التعريف بدراسات الأديان، التي يُقدِّر أنها لا تَجد العناية اللائقة بها في الثقافة العربيّة.

وفي المجمل تتوجّه هذه المقالات إلى القارئ العربيّ عامة دون حصر. وقد حاولتُ فيها أن أرصد بعضًا من الإشكاليات التي تواجه المسيحيّة العربيّة ونظيرتها غير العربيّة. كما أشرتُ في العديد من المواضع إلى ضرورة تصويب الرؤية في شأن مسيحيّة الداخل ومسيحيّة الخارج. فلديّ حرصٌ على التفريق بينهما، لما لمسته في المسيحيّة الغربية من نزوع للهيْمنة. فتلك المسيحيّة تتعامل مع "الهامش" المسيحيّ غير الغربي، والمسيحيّة العربيّة مصنَّفة في عداده، بمثابة المسيحيّة القاصرة وغير الراشدة. لذلك برغم ما يجمع المسيحيّة في الغرب والمسيحيّة في بلاد العرب من صلات قربى فإنّ بينهما فروقا شتّى.

تحويل الحدث المسيحيّ - وفق مراد المؤلِّف - إلى مقالٍ هادفٍ، وإخراجه من التناول المحصور بالمنابر الدينيّة أو الأوساط الأكاديمية، كان من الأهداف التي تبنّاها المؤلِّف لتقليص الفجوة بين مجاليْ "تاريخ الأديان" و"حاضر الأديان". فبموجب اِشتغال صاحب الكتاب في مجال دراسات الأديان، يدرك ما لهذا التمايز من نفاذٍ وسطوةٍ. فتتبّع الشأن المسيحيّ العربيّ والعالميّ، لا يحوز المكانة اللائقة به في الأوساط الثقافية العربيّة. حيث تفتقر الساحة إلى تقليد "الفاتيكانيست" (الخبير بالشأن الفاتيكانيّ)، أو ما شابهه. كما أن الإعلام الدينيّ العربيّ يبدو شديد التمازج والتداخل بالشأن الدعوي، ما جعله مقصِّرا في أداء دوره المعرفيّ، الحياديّ والرصين.

ومن جانب آخر، لا يمكن أن ندّعيَ المحافظة على كيان المسيحيّة العربيّة، وننشد أداءها رسالتها، وأساليب وعينا بمخزوننا الحضاريّ بالية. فالمسيحيّة إرثٌ جمعيٌّ، وقضاياها ليست حكرًا على شريحة بعينها، بل تتخطّى من يَدِينون بها. كما أنّ هناك خطابًا كارثيّا رائجًا، مشبعٌ بالنحيب عن مصائر هذه المسيحيّة، لا يذهب بعيدا في تلمّس الحلول وتخطّي الصعاب. لا أودُّ المكوث تحت حائط مبكاه، إيمانًا بضرورة تطوير أدواتنا الفكرية في التعاطي مع واقعنا الدينيّ، كسبيل للحيلولة دون حصول الأسوأ. فهذا الظرف الصعب نقدّر أنّه عائد، في جانب واسع منه، إلى افتقاد رؤية حديثة للمسيحيّة في الثقافة العربيّة. ذلك أنّ هذه الديانةَ، سواء كان أتباعها في الاجتماع العربيّ أم خارجه، لا يزال التعامل معهم بمنظور عقديّ، يستوجب تطعيمه برؤى حديثة، بقصد الخروج من ضيقه وأسْره.

نبذة عن المؤلف

عزالدين عناية، أستاذ من تونس يدرّس في جامعة روما (إيطاليا). نشر مجموعة من الأعمال تتناول دراسات الأديان منها: "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم"، توبقال، المغرب؛ "الأديان الإبراهيمية: قضايا الراهن"، توبقال، المغرب؛ الإمام والكردينال، منشورات المتوسط، إيطاليا. ومن ترجماته: "علم الأديان" للفرنسي ميشال مسلان، المركز الثقافي العربي، لبنان؛ "علم الاجتماع الديني" للإيطالي إنزو باتشي، مشروع كلمة، الإمارات العربية.

فتنة المسيحيّة المعاصرة

تأليف: عزالدّين عناية

دار النشر: مجمع الأطرش، تونس 2022

عدد الصفحات: 146 ص

***

د. عزالدّين عناية

أصدرت دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة ببغداد سلسلة كتب تذكارية لتكريم الشخصيات الثقافية العراقية، يساهم في كل كتاب مجموعة من الباحثين يقدمون شهادات ومقالات ودراسات عن أعمال وحياة هذه الشخصية. عنوان هذا الكتاب: "الدين حياة في أُفق المعنى"، وهو التعريف الذي اقترحه عبد الجبار الرفاعي للدين: "الدين حياة في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان لانتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية". وفي ضوء هذا التعريف تبتني الأركان والمفاهيم الأساسية لتجديد الفكر الديني لدى الدكتور الرفاعي.

  جاء على الغلاف الأخير للكتاب نص للدكتور عبد الله إبراهيم، وهو مفكر وناقد عراقي حائز على جائزة الملك فيصل العالمية، وجائزة الشيخ زايد: "ندرَ أن التقيتُ مثقّفاً يحمل بين جنباته صفات النبل، والنقاء، والتواضع، والطيبة التي لمستها في شخص الدكتور عبد الجبار الرفاعي، صفات تضاءلت، مع الأسف، وانحسرت، وكأنها لم تكن في يوم ما من أخصّ ما يحرص عليه المثقفون في حياتهم، وفي علاقاتهم بالآخرين. في بداية الأمر خلتُ أننا مختلفان الاختلاف كلّه، لاختلاف منابع المعرفة، ومسالكها، وغاياتها، فقد تلقّى الرفاعي تعليماً دينياً رفيعاً، ونال درجة عالية في الفكر الإسلامي، وتوسّع في ذلك، إلى درجة انخرط فيها بتطوير منظور جديد لفلسفة الدين أراد به نزع الغطاء الثخين الذي أطبق على الظاهرة الدينية في القرون المتأخرة. علاوة على صلاته الوثيقة بعشرات المفكرين والمثقفين من دينيين ودنيويين، فإن مجلته "قضايا إسلامية معاصرة" خير سفير لثقافة التسامح والتفاهم بين الأديان والمذاهب. وأثمرت جهوده عن تأسيس "مركز دراسات فلسفة الدين"، وهو من أكثر المواظبين الذين عرفتهم على النهل من العلوم الإنسانية، وشغله الشاغل إسباغ نِعَم الدين على الدنيا، وتغذية الدين بمكاسب الدنيا. أي أنه يريد أن يغمر الدنيا بفيض الدين، ويغمر الدين بفيض الدنيا، وهو رهان شاقّ كما تعلمون. قلبَ الرفاعي الصورة الشائعة عن رجل الدين المنكبّ على المتون العتيقة شرحاً، وتعليقاً، وتفسيراً، وتصنيفاً، وغاية ما يرجوه اختصار شرح، أو الإسهاب في آخر، وأحلّ بمكانها صورة أخرى مغايرة، أحسب أنها الصحيحة التي ورثها من الأسلاف العظام الذين عالجوا الظاهرة الدينية بعدّة دنيوية متماسكة من دون أن تتقطّع صلتهم بها، وما برحت أفكارهم محلّ تقدير ونفع. وهذا مرمى بعيد المنال لغير المتبصّرين بشؤون الدين والدنيا، فغاية ما يرجوه المرء من المعرفة، أيّا كان شكلها، هو انتفاع الناس بها في حلّهم وترحالهم عبر الأزمان من دون إرغام وإلزام، ومن غير قَسْر وقَهْر".

يتوفر الكتاب في معرض بغداد للكتاب في جناح دار الشؤون الثقافية. 

4646 عبد الجبار الرفاعي

                                                      4647 عبد الجبار الرفاعي

              4648 عبد الجبار الرفاعي

 4651 عبد الجبار الرفاعي

4650 عبد الجبار الرفاعي

الاهداء

لابنتي الغالية بان اليوسف

المحتويات

المقدمة

الفصل الاول: صوت اللغة وخاصية التعبير عن المعنى

الفصل الثاني: الصفات والجوهرفي كينونة الانسان وموجودات الطبيعة

الفصل الثالث: ادراك المكان بدلالة الفراغ والامتلاء

الفصل الرابع: الزمن الفلسفي والادراك العقلي

الفصل الخامس: اللغة والفطرة التوليدية النحوية

الفصل السادس: اللغة الوراثة الفطرية والمكتسبة

الفصل السابع: المكان والزمان ادراك المادة والفراغ

الفصل الثامن: التحول اللغوي ونظرية المعنى

الفصل التاسع: مداخلات فلسفية متناقضة

الفصل العاشر: موضوعات فلسفية اشكالية قراءة تحليلية

الفصل الحادي عشر: الزمن: توليفة الذات والنفس

الفصل الثاني عشر: الزمن في تعالق الذاكرة والخيال

الفصل الثالث عشر: الزمان الفلسفي وتحقيبه التاريخي

الفصل الرابع عشر: الزمان الفلسفي والادراك العقلي

الفصل الخامس عشر: العقل والجسد في الفلسفة المعاصرة

الفصل السادس عشر: الفكر واللغة تكامل معرفي وليس منهجا جدليا في التعبير عن الاشياء.

الفصل السابع عشر: كانط والبراجماتية الامريكية

الفصل الثامن عشر: ادراك الوجود بدلالة الجوهر

الفصل التاسع عشر: اللغة فلسفة معنى الحياة

الفصل العشرون: الوعي: الادراك المادي والخيال

الفصل الواحد والعشرون: هيجل وطبيعة العقل في تخليق وهم الجدل فلسفيا.

الفصل الثاني والعشرون: وعي الذات الخالص

الفصل الثالث والعشرون: جاستون باشلار:المعرفة واستذكار المكان رومانسيا

الفصل الرابع والعشرون: مذهب وحدة الوجود في الدين والفلسفة

الفصل الخامس والعشرون: الصوفية الذات والطبيعة

الفصل السادس والعشرون: سارتر وزيف الوجود

الفصل السابع والعشرون: فائض المعنى اللغوي

الفصل الثامن والعشرون: النفس وازلية الجوهر الالهي

الفصل التاسع والعشرون: وحدة الوجود في الفلسفة والصوفية

الفصل الثلاثون: الفلسفة:الادب والجنون

الفصل الحادي والثلاثون: الفلسفة الواقعية الامريكية الجديدة

الفصل الثاني والثلاثون: شذرات فلسفية في كلمات

المقدمة:

مارست النشر في الصحف العراقية والعربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وانتقالتي الثقافية النوعية كانت نحو الفلسفة تحديدا في عام 2004 حين اصدرت كتابي الاول سيسيولوجيا الاغتراب قراءة نقدية منهجية طبعة محدودة على نطاق مدينة الموصل ونشر بعدها بطبعتين الاولى عام 2011، عن دار الشؤون الثقافية ببغداد والطبعة الثانية عن دار الموسوعات العربية في بيروت عام 2013، وصدر طبعة ثالثة عن دار غيداء بالاردن وعرض مع مؤلفات فلسفية اخرى لي في معرض بغداد الدولي للكتاب 2022..

إنتقالاتي الثقافية هذه نحو منهج النقد التاريخي الفلسفي المادي، لم تأت حصيلة دراسة اكاديمية، بل جاءت نتيجة تراكم خبرة ثقافية متنوعة مارستها كتابة ونشر لما يزيد على اربعين عاما، اذ كتبت مجموعة شعرية بعنوان (توهج العشق .. احتضار الكلمات) وكتبت في متنوعات الاجناس الادبية في القصة القصيرة والنقد وفي الثقافة عموما فكانت الحصيلة صدور كتابي (جهات اربع .. مقاربة في وحدة النص) صدر عن دار دجلة في عمان عام 2010 واعترف الان انه مجموعة خواطر اردت دمجها في نص اجناسي ادبي غير فلسفي فكانت تنويعات في الادب موزّعة بين القصة القصيرة والشعر والنقد الادبي والخاطرة.

استطيع اختصر لماذا تحوّلت حصيلة مجهوداتي في النشر والتاليف الادبي والثقافي عموما لتستقر في الفلسفة:

الاولى أصبح عندي ميلا ثقافيا فكريا شديدا نحو الفلسفة يؤمن لي هاجسي المدفون في اعماق تجربتي الادبية والصحفية المتواضعة التي وجدتها لا تلبي ما يعتمل في دواخلي النفسية الفكرية من ميل كبير نحو الفلسفة. حيث نضجت تماما عندي في منشوراتي ومؤلفاتي الفلسفية بعد عام 2015 تحديدا.إذ كانت قبلها كتاباتي ومؤلفاتي مزيجا من الادب والفكر والنقد الثقافي تتخللها مطارحات فلسفية عابرة.

الثاني اني لم اكتب مقالا واحدا بالفلسفة متاثرا بالنمط التقليدي الاكاديمي والمترجم في نسخ اجتزاءات من تاريخ الفلسفة تعنى بفيلسوف معيّن بشكل حرفي اكاديمي استعراضي يعتمد مرجعية ومصادر تاريخ الفلسفة في متراكمه الاستنساخي الثابت المعاد والمكرر، كما وردنا في قناعة خاطئة على أن تاريخ الفلسفة لا يحتمل النقد النوعي في التصحيح أو الاضافة بل إعتماد النسخ الاستعراضي التكراري المشبع بالتمجيد المجاني بلا اضافة تجديدية . اقولها بكل صراحة ان هذا التوجه الفلسفي المحصور بين مزدوجتين في اروقة الجامعات قادنا ان نكون شراح وطلبة استنساخ لافكار غيرنا بما يعتاش عليه اكاديمي تدريس الفلسفة.

راجعوا تاريخ الفلسفة في مقارنة مع اصدارات الفلسفة عربيا الكتب المترجمة كلها. والمؤلف الذي لا يترجم عملا فلسفيا الى العربية نجده يلوك النسخ عن النص الاجنبي الفلسفي.

وكان السائد قبل ظهور فلسفة اللغة والعقل ونظرية المعنى منذ بداية 1905 على يد رائد الفلسفة البنيوية ليفي شتراوس ومجموعة فلاسفة ما بعد الحداثة، أن تاريخ الفلسفة هو من القدسية التي مرتكزها الثابت إعادات وتكرارات لسير ذاتية تخص حياة ومنجزات فلاسفة قدامى ومحدثين منسوخة اعمالهم في الترجمة الحرفية العربية اشبعت تناولا فلسفيا عند عشرات من الاكاديمين العرب العاملين على ترجمة قضايا الفلسفة الغربية في غياب منهج النقد من جهة والشعور بعدم الندّية المتكافئة مع آراء اولئك الفلاسفة بالحوار الموضوعي فلسفيا. وغالبا ما تخون الترجمة الى العربية اصالة النص الاجنبي الفلسفي المترجم وتلقى مسؤولية تهمة الخيانىة في تعبير اللغة القاصر وليس تفكير فلسفة المؤلف القاصر..

 بخلاف هذا المعنى والتوجه مارست الكتابة الفلسفية (نقدا) منهجيا عن يقين ثابت لافكار كبار فلاسفة غربيين وجدت في ثنايا مقالاتهم وكتبهم الفلسفية المترجمة الى العربية ثغرات خاطئة لا يمكن التسليم والاخذ بها وتمريرها كمسلمات دون مراجعة نقدية صارمة لعيوبها المستترة خلف اسم وفخامة و سمعة الفيلسوف الاجنبي فقط في غض النظر عن مناقشة افكاره بل الانبهار بمنزلته في الاوساط الاعلامية كنجم هوليودي. واترك مسالة التوفيق والنجاح في مسعاي النقدي الفلسفي في كتاباتي ومؤلفاتي للقراء والمتخصصين في الفلسفة.

من الجدير الذي اود التنويه عنه اني كنت في مسعى المنهج النقدي الفلسفي وهو مشروع مارس الكتابة فيع عدد محدود من المفكرين العرب متواضع صائب في تقديري سبقني به غيري بنهايات مفتوحة تتقبل النقد الاضافي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر،

إن تاريخ الفلسفة الغربية قديمها وحديثها مليء بالمغالطات والاخطاء القاتلة وميتافيزيقا الافكار ومقولات فلسفية وهمية سفسطائية لا قيمة حقيقية لها تقوم على مرتكز مخادعة التفكير الفلسفي ذاته وليس مغالطة معنى اللغة في التعبير عنه كما هو الحال حين اصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولا زالت الى اليوم حائزة السيادة مزيحة عن طريقها فلسفة الابستمولوجيا التي وصلت عصرها المبتدئي الذهبي الذي تسيّد الفلسفة قرونا على يد ديكارت في القرن السايع عشر..

اذ كانت البداية الحقيقية في نظرية التحول اللغوي ومتابعة فائض المعنى اللغوي علي يد فيلسوف البنيوية دي سوسير عام 1905بعد توصية جاتلوب فريجة عالم الرياضيات بوجوب ان تكون الرياضيات قرين اللغة في تحقيق انتقالة تصحيح معنى اللغة مفتاح تصحيح ومراجعة مسار تاريخ الفلسفة.

ليعقبها بعد ذلك عدد كبير من الفلاسفة الفرنسيين بعدهم جاء ظهور فينجشتين كطالب فلسفة ومن بعده اصبح فيلسوف لغة بهوية انجليزية وليس فيلسوفا نمساويا مستقلا نشأ في رعاية بيرتراندراسل ونال شهادة الدكتوراه بالفلسفة تحت اشراف راسل ومور ووايتهيد اقطاب الفلسفة التحليلية الانجليزية قبل ان يصبحا الاخوة الاعداء في تعليلهما الاختلافي حول دور اللغة في تجديد تاريخ الفلسفة الخاطيء بمجمله.

 اول من ابتدع نظرية التحول اللغوي هم فلاسفة البنيوية وعلماء اللغة تلتها الوضعية المنطقية حلقة فينا اعقبتها تاويلية بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا ليستقر مقام فلسفة اللغة التي اصبحت الفلسفة الاولى في تاريخ الفلسفة الحديث منتصف القرن العشرين بعد تنحية ابستمولوجية فلسفة ديكارت كفلسفة اولى جانبا والتي استمرت قرونا طويلة الى جانب تشكيلة فلسفية لمجموعة فلاسفة جميع افكارهم كانت تدور حول نظرية المعنى وفلسفة اللغة.

وبعد استلام فلاسفة وعلماء اللغة الاميركان راية فلسفة اللغة من الفرنسيين والالمان والانكليز حلقة اكسفورد في فلسسفة اللغة التحليلية الوضعية بزعامة براتراند رسل ، جورج مور ، كارناب. فينجشتين، وايتهيد وغيرهم.

خلاصة كل هذا التطور في تاريخ الفلسفة كان هاجسه تاكيد حقيقة أن تاريخ الفلسفة معظمه كان افكارا وهمية ومطارحات فلسفية تجريدية سببها المباشر الاول عدم دقة فهم تعبير معنى اللغة الدقيق في تناول قضايا فلسفية مفتعلة لا قيمة حقيقية واقعية لها، ولم يتم التنبيه الى معالجة اخطائها الفادحة الا في وقت متأخر مع ظهور فلسفة اللغة والتحول اللغوي في نظرية المعنى.

ولي عدة مقالات منشورة وموزعة في ثنايا مؤلفاتي ومواقع الكترونية عربية رأيا توضيحيا في معنى التحول اللغوي وفلسفة اللغة والى ماذا اوصلت تاريخ الفلسفة في نهايات سائبة ربما يتاح لي عرضه تفصيلا لاحقا.

فلسفة العقل واللغة لدى الفرنسيين والاميريكان جعلت منذ نهايات القرن العشرين فلسفة اللغة هي النسق البنيوي الكلي الذي يوازي الواقع الحياتي ولا يقاطع مسيرة الحياة وصنع التجديد في الوعي الجمعي كما فعلت الاجناس الادبية من شعر وقص ورواية ونقد وخير من توّج هذا الانحراف الاهوج كلا من جاك دريدا ليقتفي اثره بول ريكور وعدد من فلاسفة الانجليز بزعامة بيرتراند راسل في التحليلية الوضعية التجريبية المنطقية. مثل رورتي، وايتهيد ، جورج مور، كارناب، فينجشتين قبل انشقاقه عنهم، وسيلارز ، وسيريل، واخرين. فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات اصبحت هي الفلسفة الاولى بعد النصف الثاني من القرن العشرين.

انا ومنهج النقد الفلسفي

أقولها بأمانة وصراحة أني في كل كتاباتي المنشورة ومؤلفاتي لم اكن سوى طالب معرفة فلسفية لا زلت امارس رغبتي هذه من منطلق استزادة الاطلاع على مباحث فلسفية اجنبية غربية تحديدا، ولم أبلغ مستوى التبّحر العميق في أغوار التراث الفلسفي الغربي الذي لا يسعني استيعاب النزر اليسير منه بما يحتويه من متراكم خبراتي فلسفي تاريخي لا يمتلك رغم ضخامته تزكية الصواب المليء بالحشو الزائد.

كما ان الغبن الزمني الذي وقع عليّ حيث اتجهت نحو الفلسفة عام 2004 جعلني متاخرا كباحث فلسفي وسط امواج متلاطمة من تمجيد اعلامي كاذب وشراء شهادات وغيرها من الاعيب خبيثة جعلت من الفارغين فلسفيا هم رواد الفلسفة العربية المعاصرة بما حملوه من امجاد اعلامية زائفة وليست فلسفية حقيقية هيمنت على وظائف التدريس الجامعي والى يومنا هذا.. ولم يتمكنوا وضع لبنات فلسفة عربية مستقلة لها ميزتها العصرية. هذا التهويم الخبيث لا يقتصر على قضية الفلسفة وحدها بل نجدها في جذور غائرة في الاوساط الثقافية عموما في تلميعها الدعي الكاذب الفارغ ومحاربتهم المستميتة لكل بادرة ابداعية اصيلة وحقيقية.

أستطيع القول في نقاط:

* أن انتقالاتي في الكتابة الفلسفية التي لا تتمحور في غالبية مؤلفاتي في منحى فلسفي واحد تعطي إنطباعا لا أنكره على نفسي وبعض الاساتذة الباحثين في المجال الفلسفي اني استطعت تجاوز حاجز الكتابة التخصصية في موضوع فلسفي معين واحد يتمركز حول اجترار معاد ممل لا يفتح آفاقا فلسفيا جديدة يمكنها التطور الى فلسفات مجددة ناضجة ذات هوية عربية مائزة..

*  منهجي الفلسفي الذي إعتمدته بكتاباتي هو التفكير المادي المعرفي كمنهج وليس عقيدة ولا نظرية الجدل المتداول ماركسيا الذي تحكمه الضوابط المنهجية التالية:

عدم التزامي المنهج الاكاديمي الذي يعتوره إستنزاف مجهود الباحث في تغطية سطحية التناول الإستعراضي (مرجعية ثبت هوامش المصادر والمراجع) باللغات الاجنبية في التناول الفلسفي الذي يعتمد الترجمة الحرفية بتقديس مسرف لما يقوله الفلاسفة الغربيون على أنه يمّثل حقائق الامور. الفلسفة أكاديميا في التدريس والتلقي عند الطلبة في الجامعات العربية من أسوأ أخطائها أنها غيّبت الحس النقدي الممنهج على حساب ترسيخ إعتياد الحفظ والاستظهاراليقيني الساذج بعيدا عن الرؤية المنهجية النقدية في ممارسة نقد الفلسفة بما يخدم تغيير الوعي الجمعي المتخلف والمضلل وفتح باب الاجتهاد الفلسفي عربيا.

كذلك اعرف العديد من حملة الشهادات العليا في بغداد والجامعات العراقية لا يعرفون ولا اهلية ولا كفاءة اكاديمية لهم سوى استنساخ ملازم محاضرات يلقونها على الطلبة ويكون فيها لا الاستاذ يفهم ما يقول ولا الطلبة تفهم ما يريد.

عمدت الابتعاد التام الكامل عن كتابة العروض الهامشية لافكار فلسفية وردتنا بهالة من المكابرة الفارغة التي أسبغناها عليها، في إهمالنا أهمية ممارسة النقد الفلسفي وبذر نواته لدى طلبة الفلسفة واساتذتها اننا لا يجب ان نتهيب اسم الفيلسوف في اعدام حقنا المكتسب ضرورة ممارسة منهجية النقد في دراساتنا الفلسفية. نحن مسبوقون باحقاب زمنية طويلة عن تاريخ الفلسفة الغربية وتطوراتها المعاصرة حقيقة لا يمكننا نكرانها.

واستطيع القول بكل ثقة وامانة اني لم اكتب مقالة فلسفية واحدة لم امارس فيها منهج النقد الفلسفي المادي في مقارعة الحجة بالحجة من منطلق التكافؤ الفكري لا من منطلق مشاعرالاحساس بالدونية الفلسفية التراتيبية كما يروج له البعض ويمارسه من عتبة الادنى بالنسبة لفلاسفة غربيين.

ولم أقرأ لفيلسوف غربي أجنبي لم يلازمني هاجس النقد لافكاره في بعضها وليس مجملها رغم كل إعجابي به كفيلسوف صاحب نظرية فلسفية خاصة به فيها جوانب ليست نتيجة بهرجة وتسويق وتلميع اعلامي وصل حد التسليع.. لا بد لي في نهاية هذه المقدمة الاشارة لماذا لم اكتب في الفلسفة العربية الاسلامية واقول بعد ظهور بوادر خلاص اوربا من عصور تخلف القرون الوسطى وبداية اكتشاف القارة الامريكية الذي زامن سقوط غرناطة 1492. اضافة الى بروز خلاف مستحكم اشار له الفيلسوفين محمد عابد الجابري ومحمد اركون وبعض مفكري وفلاسفة المغرب العربي المعاصرين بين العقل المشرقي المستقيل الذي كان حجر عثرة في ترسيخه الجمود ومحاربة الاجتهاد الفكري الثقافي عموما خلاف ما إمتاز به العقل المغربي العربي الخلاق القائم على موروث حضارة الاندلس اكثر من اعتماده الموروث الفلسفي المشرقي الذي غلبت عليه نزعة التصوف الديني والاشتغال الفقهي الاسلامي في النقل وليس العقل.. وتغييب الوعي الجمعي ومنع الاجتهاد الفلسفي.

لعلي لا اكون متجنّيا متنكرا لميراثنا التاريخي بمجمله هو اننا لم نجد على مدى عصورنا أن قام بعض مفكرينا وفلاسفتنا باكثر من محاولة تطويع الفكر الفلسفي اليوناني المترجم المنقول الى سجنه خلف قضبان المنع والتحريم وتحاشي عدم التقاطع مع مفردة فقهية اسلامية واحدة باسم تغليب مفردة الفلسفة على فقه الدين. وكذا الحال مع ترجمات الفلسفة الهندية والصينية والفارسية للعربية .

فكان ما نطلق عليه فلسفة عربية اسلامية لا يستطيع المفكر امتلاك حرية الاجتهاد الفلسفي من جهة كما ولا يمتلك امكانية الخروج على نوع من توفيقية مخاتلة تلفيقية في مهادنتها الفكر الديني في مرجعية تسييس الدين لخدمة الحاكم المستبد الجائرلا تستطيع فيه النخبة الفلسفية تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، فبقيت اسيرة شروحات غير خلاقة ولا مبدعة في مجال تحقيق ملامح هوية فلسفية عربية اسلامية خاصة. عديدة هي اسماء الفلاسفة المشرقيين شراح الفلسفات الاجنبية وكتابه الهوامش لها. مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابو حيان التوحيدي وغيرهم. ولنقارن هذه الاسماء مع فلاسفة من المغرب العربي مثل ابن رشد وابن طفيل وابن باجة وابن خلدون وغيرهم من فلاسفة الاندلس والمغرب العربي ممن اعتمدوا فلسفة العقل في مؤلفاتهم.

واذا سمحنا لانفسنا المقارنة بين الفلاسفة المسلمين المحافظين وبين فلاسفة الصوفية المنكوبين الذين تمت تصفيتهم ببشاعة رهيبة لادركنا جيدا لماذا تسّيد منطق الجمود الفكري والفلسفي وحتى الادبي وغلبته منطق وفلسفة التجديد والانفتاح عند الفلاسفة العرب الذين حاولوا التوفيقية التلفيقية بمداهنة سطوة الفقه الاسلامي الوضعي مدعومة من الحاكم السياسي المتنفذ بسطوة السيف في محاربته العروض الفلسفية خارج تطويع الفلسفة بما يخدم رغبات الحاكم الاستبداية الظالمة وليس خدمة الدين في اصالته.

وغالبا ما كان الاجتهاد الفلسفي العربي الاسلامي يحتجب خلف مرويات من القص الذي تتسيده لغة الالغاز والايهام في إعتماد اللغة على لسان الحيوانات وقصاصات الشعر الملغز. الذي كان جنسا ادبيا- فلسفيا كان اسهام العرب المسلمين لا يستهان به مشرقيا حتى وإن كان الاقرار ان بعضه كان مستفادا من ترجمة الفلسفات والاداب الفارسية والصينية والهندية والبيزنطينية.

ما نعيشه اليوم في التطاحن المذهبي على لبوس الانتفاع المالي باسم الدين في وقت نجده راسخا في مجتمعات العالم قاطبة ان التعايش السلمي بين الاديان هو العلمانية التي توازي الدين كذهنية لا قبل للانسان المشرقي اليوم التخلي عنها. وقد تبلور هذا النهج الذي بدأته فرنسا منذ عام 1905 في وثيقة ترسيخ المنهج العلماني الذي يتعايش فيه الدين مع العلمانية ولا يقاطعها. لافي الحرية ولا في حقوق الانسان ولا مقاطعة منجزات العلوم فكانت هذه الارهاصات التي بدات بالنهضة الانسانية التي انبثقت اولا في ايطاليا في القرن السادس عشر الميلادي.

ولا يزال هذا المنهج المتوازي بين العلمانية والدين ساريا في جميع دول العالم عدا المتخلفة منها التي تسفك الدماء من اجل ان يتسيّد مذهب على آخر في الدين الواحد. هل توجد دولة واحدة بالعالم اغلقت الكنائس والاديرة والمساجد واماكن العبادة لانها تعارض فصل سلطة الدين ووصايتها على مؤسسات الدولة؟ الجواب عندنا في العجائب والغرائب في محاربة تغيير الوعي الجمعي الضال تحت مسمى حرمة كل شيء بالحياة لا يمرعبر فلترة رجال الدين له غالبيتهم من الفاسدين.

عن تجربة ثقافية مررت بها ربما لا تصلح ضمن مقدمة هذا الكتاب الفلسفي اقول الفكر لا يفتش لا عن الاصدقاء الذين يمتدحونه ولا عن الاعداء الذين يكرهونه. فكلاهما يحضران مأدبة تقاسم القدح والمدح ربما بلا روّية يحكمها الضمير والعقل.

مصداقا لبيت الشاعر العظيم المتنبي:

انام ملء جفوني عن شواردها........ ويسهر الخلق جرّاها ويختصم

على مر تاريخ التراث العربي بمجمله كتاريخ الذي تركه لنا اجدادنا العرب كثيمة هوية حضارية كلفت الامة نزفا طويلا من الدماء وهدرا كبيرا من الثروات ومشاكل لاحصر لها من العداوات الكارثية. نجده اليوم في اسقاطنا هذا الموروث الذي ازداد ترهله في متراكم يقوم على تكرار شرح المشروح للمرة الالف على مشهدنا الثقافي العربي اليوم لنجد غرائب وعجائب الزمان المتداولة كعرف ناشز ثابت عندنا في رفع وتلميع سلعة مفكر او اديب او فنان هابط فكريا لا اهلية ولا قدرات ثقافية يمتلكها واقصاء عطاء ذاك الآخر والتعتيم على منجزه الذي يستحق الوقوف عنده والاهتمام بما هو أهل له. في تجربتي الكتابة الفلسفية لم اجد نزاهة التعامل المبدئي الذي سبقتنا فيه دول العالم كافة. حين اجد مثل كانط هذا الفيلسوف العظيم يقول (لقد ايقظني ديفيد هيوم من سباتي الدوجماطيقي) وعندما يقول نيوتن (كل منجزاتي في الفيزياء العلمية ادين بها لكبار سابقين تعلمت منهم واخذت عنهم الكثير). وهكذا في استشهادات عمالقة الفكر الغربي يحملون نظافة الضمير الاخلاقي، ونحن حين يتحاور مفكرينا بينهما نجد كل منهما حاملا سيفه لقطع عنق غريمه.

اعرف جيدا ان العطاء الذي لا يأخذ حقه في عصره حتما يكون السبب فيه عاملين اولهما التناطح والاحتراب حتى في اعتماد ادنى واحط الوسائل في النيل من الاخر على صعيد تعامل المثقفين في البلد الواحد. والسبب الثاني هو في تدني الوعي الجمعي الثقافي الذي تنخره اللامبالاة تجاه الاهتمام الثقافي امام الحصول على لقمة العيش. والثاني من تغييب الوعي الجمعي هو في المشهد الثقافي هو القتال فيه لمن يكون اللامع بقوة منطق العشيرة ووسائل تعاملها المتخلفة.

في القرن العشرين والى يومنا هذا وجدت ان اختلاف الراي لدى المثقفين العرب يتم حسمه بوسائل الاحتراب وتصفية الحساب على لاشيء الذي يجعل من مؤلف او كتاب فلان افحم فلان الاخر على مستوى المفكرين وكانما التضاد المعرفي من اجل سيادة مثقف على اخر وليس من اجل نقل الوعي الجمعي الى مرتبة متقدمة من فهمها الاسلوب العصري بالحياة. لا يمكننا التقدم الى امام في مجتمعات يرى مثقفيها الانتصار في الاحتراب على صعيد النخبة في بناء امجاد زائفة لا تخدم تقدم الوعي الجمعي بشيء. جرى معي ان القائمين على بعض وسائل الاعلام والصحف والمواقع الالكترونية يريدون ان يشتروني في حصر ما اكتبه لهم وبلا مقابل. وغالبية المفكرين العرب في المهجر هم من يمتلكون تسليط الاضاءة عليهم ولهم مريديهم من الذين يمتلكون ويجيدون وسائل تلميع الفاشلين وتقديمهم انهم مفكري الامة ومثقفيها الذين تنهال عليهم بلا روية الاحتفاءات والمهرجانات والتكريمات ومنح الجوائز والدعوات الحاتمية لالقاء المحاضرات البائسة تحت عناوين لا قيمة حقيقية لها مجتمعيا ولا حتى على مستوى النخبة.

اجد من اهم الاسباب التي كرست تخلف الوعي الجمعي السائد في مجتمعاتنا العربية هو في الاحترابات الفارغة بين المتناحرين المفكرين في تمجيد انتصار ممثلي هذا التيار او هذا المذهب الديني تاركين شعوبهم يفتك بها الفقر والجوع والمرض والجهل.

في تجارب عالمية لدى شعوب العالم الثالث كان الازدهار الثقافي ينبت ويطلع للنور من تحت انقاض الخراب ومن حاضنة التخلف المجتمعي يتنامى تدريجيا ويرى النور والحضانة والامان في رموز ثقافته انهم قادة السياسة وقادة الازدهار الثقافي. عندنا استطيع القول ان المفكرلا يكون ازدهاره الثقافي لانه سابق عصره وزمانه في هيمنة سلطة المثقفين الفاشلين وفي تغييب الوعي الجمعي الحضاري الذي ينشد الحرية وحقوقه الانسانية بحياة كريمة افضل.. امثلة ذلك نجدها في الاوساط العربية الثقافية االيوم في سجن التعامل الثقافي النظيف في غياهب دهاليز التعتيم وفي ممارسة ابشع انواع التسويق التسليعي المبتذل للفاشلين من المثقفين ومن دعاة الفكر الفلسفي شأنهم شأن تسويق الجسد جنسيا.

في بلادنا العربية وفي بلدان العالم اجمع رحل عباقرة افذاذ وفي صدرهم تئن حسرة وألم غمط حقوقهم بالحياة انهم الاكفأ من غيرهم ثقافيا. يتساؤلون لماذا لم ياخذوا حقهم المشروع المؤهل بالحياة في حين اخذ حقهم الثقافي من لا حق له في الهيمنة على مزادات وأد الابداع الاصيل في اساليب نفاق ودجل المرابين من القائمين على سوق الكتابة والثقافة التي اصبحت اليوم باجناسها المتنوعة شغل من لا شغل ولا موهبة ولا قدرة له تسعفه.اليوم اقولها بصراحة العقل الحق ان الهبوط والانحدار الثقافي بلغ في بعض الاقطار العربية اسوأ مما بلغته ومارسته بعض الانظمة العربية الاستبدادية الدكتاتورية التي حكمتهم سياسيا.

كلمة لا بد لي من قولها ان الافساد الاعلامي والثقافي العربي فاق بما لا يقاس دكتاتوريات الساسة العرب وفسادهم وبيع بلدانهم لاجنبي يحتقرهم وهم يدينون له بالطاعة والولاء. اعرف اسماء بالعشرات يطلقون مريدوهم عليهم لقب فيلسوف او مفكر او باحث فلسفي او استاذ اكاديمي بالفلسفة ويعامل في الاوساط الحكومية العربية وفي المرافق العلمية والثقافية وتخصص له الدعوات الاحتفائية به بكل التبجيل وتسليط اضاءات وسائل الاعلام المنافقة عليه وعلى امثاله التي باعت ضميرها لمن يدفع اكثر. الذي لا يعرف صاحب هذه الحفاوة من امتلاكه الاستحقاق الفكري ان لا يزيد في معرفته الفلسفية اكثر من طالب ثانوية عامة.

لقد وجدت نفسي بالكتابة طيلة اربعين عاما ذهبت سدى في مئات من المقالات واكثر من 15 كتابا مطبوعا في حينها يتوزعها الشعر والقص والنقد الادبي ومقالات السياسة. واليوم عبرت حاجز 25 كتابا فيها مايزيد على 15 مؤلفا بالفلسفة فقط.. بعد ان تجاوزت السؤال السطحي لماذا تكتب بالفلسفة الصعبة الفهم وتترك الكتابة بالسياسة سهلة الفهم.

ان كفاءتي وقدراتي الثقافية وحبي الكتابة بالفلسفة تحديدا جعلتني اهجر كل الاجناس في الكتابة الادبية عن قناعة وتجربة عشتها لاختص بالكتابة الفلسفية وكان اول كتاب طبعته لي دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2011 بعنوان (سيسيولوجيا الاغتراب.. قراءة منهجية نقدية في فلسفة الاغتراب).

بعدها توالت اصداراتي الفلسفية وانا محارب في مدينتي مسقط راسي الموصل ومنعزل عن اصحاب عاهات النقص والغيرة في التشهير بغيرهم من اصحاب المواهب الثقافية الجديرة بالاهتمام. وعدم مجاراتي الكتابة الفلسفية حتى على مستوى اساتذة اكاديميين اختصاصهم تدريس الفلسفة بالجامعات العراقية والعربية مع كل احترامي للاكفاء منهم وهم قلة قليلة يعرفون جيدا قيمتهم الفكرية.

بهذا الكتاب نضج عندي منهج النقد الفلسفي في تناولي مواضيع مختلفة من تاريخ الفلسفة حيث وجدت نفسي ملزما مراجعة اخطائي وتصحيحها اينما وجدت في مقالاتي ومؤلفاتي الفلسفية. لكن الاهم من ذلك لم اجد باحثا في مجال الفلسفة تعاطف معي محكوما بدوافع الغيرة وعدم الاهلية بالتكافؤ الفلسفي مع كتاباتي الفلسفية.

لهذا اعتمت طاقتي الذاتية في مراجعة نقدية صارمة لكتاباتي. مفارقة مؤسية كنت ضحيتها اني دخلت النصف الثاني من السبعينيات وانجزت طباعة ما يربو على 25 مؤلفا لم يكتب احدا عن تجربتي لا من المفكرين الفارغين ولا من المثقفين التافهين الذين يجدون في قامة فكرية تقزيم لحجمهم القزم المنافق وتفكيرهم السطحي في الابتعاد جدا عن مهمة الثقافة في انتشال الشعوب من وضعها الماساوي انها تعيش القرون الوسطى الاوربية بتفكيرها المتخلف.

اثناء كتابة مقالاتي ومؤلفاتي التي لاقت اقبالا قرائيا لعدد كبير من المتابعين على اكثر من خمسة مواقع الكترونية عربية بلغت بالمئات بل الالاف كما هو على موقع الحوار المتمدن وموقع المثقف وموقع كوة المغربي حيث قرائي بالمئات واكثر.

هذا الانجاز الفلسفي الذي اعتز به اجبرني على عدم تكرار نفسي بما اكتبه من ناحية وعدم نسخ افكار وآراء غيري من فلاسفة غربيين واميركان واكتب هوامش على سيرتهم الذاتية بما لا قرابة تجمعها مع اراء ذلك الفيلسوف.

لذا عمدت مبدأ ان يبقى ما اكتبه بالفلسفة مميزا من ناحية استقبال المتلقي القاريء . في الكتابة التي لها وقع حسن في ممارستي نقدا مكافئا رأي فلسفة المنقود الاجنبي. اذ ان تخصصي في الكتابة الفلسفية قادتني الى مناقشة فلاسفة معاصرين فرنسيين والمان وامريكيين ومن جنسيات عالمية مختلفة. لذا لم اكتب شيئا عن الفلسفة العربية الاسلامية التي هو موروث كتب تحت وصاية الحاكم وتجريم الاجتهاد خارج تطويع كل الفكر الفلسفي المترجم والمؤلف عربيا تحت وصاية فقه التدين الزائف.

ثبت لي واستفدت منه كثيرا ان كل تجديد بالفكر الفلسفي وفي ضروب الاجناس الادبية المنوعة يصطدم لا محالة بجدار اخطاء لم يدركها الباحث او الكاتب الا بعد وقت لاحق على نشرها. لذا كنت حريصا على مراجعة قاسية في نقد ما اكتبه بصرامة منهجية وكانما العمل المنقود لست صاحبه.

اود الاشارة الى مقولة فيلسوف اللغة فينجشتين ان تاريخ الفلسفة هو تاريخ تصحيح اخطاء معنى اللغة. وبدوري اقول ان تاريخ الانسان انثروبولوجيا – معرفيا انما هو تاريخ تصحيح اخطاء ذلك التاريخ اذ وصل الوعي الجمعي اليوم من النضج الاستقبالي في عدم تمرير ما لا يقبله العقل والمنطق في العلوم وفي جميع السرديات النظرية الكبرى. كل هذا واكثر منه جعل المفكرين العرب لا يترددون بكتابة ماهو نسخ استعراضي منقول بنفس وقت عدم تجنبهم كتابات هوامش لشرح افكار فيلسوف اجنبي في نوع من اسراف التبجيل ومعصومية الافكار.

بقيت الاشارة الى ان كتابي الفلسفي هذا انما هو حصيلة تفكير فلسفي بلغ نضجه المقبول لدي غير الكامل بالقياس الى ما اطمح له مستقبلا. اترك للقاريء 36 مبحثا فلسفيا جديرا بالقراءة لمحبي الفلسفة من المتخصصين وطلبة الجامعات والمثقفين عموما. كتاباتي الفلسفية النقدية المنهجية لفلاسفة عالميين كبار تعتمد مسارا فلسفيا بملامح عربية بما انشده في خلق مشروع فلسفي جاد وكفوء في مجارات غيرنا في دول العالم. اترك كما قلت استعراض عناوين فصول الكتاب ليجد القاريء اهمية وجدارة ما يصرف لها من وقت لقراءة مجدية في الفلسفة والمعرفة والثقافة عامة.

***

الباحث الفلسفي المفكر علي محمد اليوسف /الموصل

اب 2022

نقل لي أحدُ الأصدقاء العراقيين المتوطنين في القاهرة سنوات طويلة، يقول: زرتُ أحدَ المؤلفين المصريين المشهورين في بيته، وفي سياقِ حديثنا عن الكتابةِ والتأليف، سألتُه عن كيفية مراجعته وتنقيحه لمؤلفاته المطبوعة عندما يريد إعادةَ نشرها، فقال لي: لا أعودُ للكتاب الذي أنشره بعد صدوره أبدًا، لأن العودةَ إليه تضطرُني لإعادة تحريره، بالشكل الذي يدعوني لتغييره جذريًّا، عند مراجعته أشعر كأني أقومُ بتأليف كتابٍ غيره، وذلك لا يشجعني على النظر في مؤلفاتي الصادرة مجددًا.

يقول الجاحظ: "ينبغي لمن كتبَ كتابًا ألّا يكتبُه إلا على أنَّ الناسَ كلَّهم له أعداء، وكلَّهم عالمٌ بالأمور، وكلَّهم متفرغٌ له، ثم لا يَرْضَى بذلك حتى يَدَعَ كتابَه غُفْلًا، فإذا سكنتِ الطبيعةُ وهَدَأتِ الحركةُ، وتَرَاجَعَتِ الأخلاطُ، وعادتِ النّفسُ وافرةً، أعاد النظرَ فيه، فيتوقّف عند فصوله تَوَقُّفَ مَنْ يكون وَزْنُ طَمَعِهِ في السلامةِ أنقصَ من وزن خوفِه من العَيْب". حين أقرأ ما كتبتُه بعد سنوات، أحيانًا أكتئب، وأبتهج أحيانًا أخرى. أكتئبُ لشعوري بوهن شيء من كلماتي، وثغراتِ شيء من أفكاري، ولشعوري بما يفكر فيه القارئُ الذكيُّ، وكيف يتأمل ويدقق ما تقوله الكلماتُ وما لا تقوله وتحجبه. أبتهجُ حين يبادرُ قراءٌ أذكياء في الحديث عن الوثبة الروحية التي عاشوها بعد قراءة هذه الكتابات، وما شاهدوه من ألوان مضيئة لصورة الله في شيء من كلماتها، وانبعاث الثقة بداخلهم في أن الدينَ يمكنُ أن يحيي كلَّ معنى جميل في الحياة، ويمكن أن يوقظَ الضميرَ الأخلاقي، ويُكرِّس التكافلَ العائلي، والتضامنَ المجتمعي، ويخفض طاقةَ الشر التدميرية، ويبعث منابعَ الخير في الأرض، ويجعل صناعةَ السلام والعيشَ المشترَك والتراحم هي المشروع الأبدي للتديّن.

الكتبُ كالأبناء يصعبُ على الإنسان العاطفي الانفصالُ عنهم، مهما كانوا، ومهما تقدّمَ به وبهم العمر. أحيانًا تصير الكتبُ أشدَّ صلة بذلك الكاتب الذي نذرَ عمرَه للكتابة وتفرغَ لها، وأعطاها كلَّ ما يملكُ من وقت وطاقة وجهد وصحة، وتنازل لأجلها عن مباهج الحياة ومتعها المتنوعة، وسجن نفسَه في منفى اختياري، بعيدًا عن الأقرباء والأصدقاء، وتجاهلَ ايقاعَ الحياة اليومية وتفاصيلها، وانسحبَ من الواقع بكلِّ ما يحفلُ به من أحزان وأفراح.

كثيرٌ مما ينشرُ لا تنطبقُ عليه شروطُ الكتابة الحقيقية. الكاتبُ الجاد الذي يهمُه حمايةُ صورته أمامَ نفسه أولًا وأمامَ القراء ثانيًا، لا ينفك من تهيب الكتابة مادام منهمكًا بهذه المهمة الشاقة. يقول همنغواي: "إنّ الكتابةَ تبدو سهلة، غير أنّها في الواقع أشقّ الأعمال في العالم". أحيانًا أكون محرجًا أمام القراء بما أحدثه من تنقيح وتهذيب متواصل في كتاباتي، ومحاولات تصفية متكررة لتنقية العبارات، لئلا تشوبها أكدار. ما يتعبني في الكتابة هو انتقاء الكلمات الحساسة، وبناء العبارات الصافية. حين أكتب أمارس عملية كالمهندس المعماري الذي يهمه الوجه الجمالي للبناء. المعاني حاضرة أحيانًا، ‏ما يرهقني هو استيراد الكلمات العذبة ‏مما هو مختزن في الذاكرة، وأحيانًا أعود إلى قواميس اللغة ومعاجمها عسى أن أجد الكلمات الملائمة لسياق النص. يقول الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".

‏ حاولتُ الخلاصَ من عادة استئناف النظر في كتاب "الدين والظمأ الأنطولوجي" وغيره في الطبعات الجديدة إلا أني فشلت. ما يدعوني لاستئناف قراءة ما أنشرُه وأعملُ على إعادة تحريره وغربلته وتنقيحه وإثرائه كلّ مرة، هو شعوري بأني دائمًا في حالة امتحان أمام القراء الأذكياء. القارئُ الذكي بالقدر الذي يجعلُ الكاتب حذرًا، وخائفًا إلى حدّ الذعر لدى بعض الكتاب، لهذا القارئ بالقدر نفسه منّةٌ وفضلٌ على كلِّ كاتب يريد لكتابته أن تظلَّ قيد التداول، إذ يجعله متيقظًا مسؤولًا عن كلِّ كلمة يكتبُها وفكرة يبوحُ بها. يثيرُ القارئُ الذكيُّ الكاتبَ فيضطره لإعطاء الكتابةِ كلَّ طاقته ووقته، ويستفزُ مواهبَه ومهاراتِه وخبراتِه لحظةَ يكتب. يجعلُ هذا القارئُ عقلَ الكاتب دائم الهمّ بما يعتزمُ كتابته، متى لاحت في ذهنه فكرةٌ تزامنت بمعيتها الكلماتُ المعبرة عنها، وأردفها مخزونُه اللغوي بخيارات لصيغ متناوبة متبادلة للكلمات والعبارات الأقرب لذوقه في بيان تلك الفكرة والكشف عن مضمونها للمتلقي.

ما يشعرني بالرضا وأنا أعمل على إعادة النظر في كتاباتي هو الإدراكُ بأن هذا تقليدٌ تفرضه عليّ مسؤوليتي الأخلاقية تجاه القراء، ويلزمني به ضميري الذي يدعوني لأن أتعاملَ مع كتابتي مثلما أتعاملُ مع ما يكتبُه غيري، الذي أقرأ ما يقولُ على مَهَل، أتفحصُ كلماتِه وأفتشُ عن ثغراتِ أفكاره. عندما أقرأ ما يكتبُه كاتبٌ بعيون الناقد، أبادر لنقد أفكاري وغربلتها بعيون الناقد أيضًا، ولا أترددُ بتمحيصها وتهذيبِ كلماتِها. أعرفُ جيدًا أن الكلماتِ التي تمكث طويلًا في ذاكرة الكتابة تتطلب الكثير من الغربلة والتمحيص والصقل.كلُّ كتابةٍ يتسع عمرُها بمقدار ما تستجيب لعملية التكثيف بالتمحيص والحذف والاختزال.

أحاول كتابةَ تجاربي الذاتية، مشغولٌ على الدوام برحلتي في أعماق نفسي، واستكشافِ الإنسان بدءًا من ذاتي. هذه رحلةٌ لا تنتهي، ولن تقف عند نهايات مغلقة.كلُّ يوم يتكشفُ لي في هذه الرحلة الأبدية ما كنت أجهله في نفسي وغيري، وما لا أعرفه عن العالَم من حولي.

أعرفُ أن كلَّ مَنْ يفكر يخطئ، لا يخطئ إلا مَنْ لا يفكر. لا يتحرر الإنسان من الخطأ غالبًا إلا بعد وقوعه فيه. مَنْ يمتلك شجاعة الاعتراف بالخطأ يمتلك القدرة على تغيير ذاته. الخوفُ من الاعتراف بالخطأ خوفٌ من التغيير.كلُّ مرة أريد تجديد طباعة أحد أعمالي الذي مضت على صدوره سنوات أتحمس لإعادة بنائه، حين أبدأ بالمراجعة أقع في مغامرة لم أكن أحتسبها، وكأني أكتب كتابًا جديدًا، إذ أقومُ بعمليات تحرير وتنقيح وشطب وإضافات متنوعة. أظن هذه عادة مؤذية يعاني منها كلُّ كاتب يدركُ أن عقلَ الإنسان مهما فكّر وتأمل وراجع تظلُّ النتائجُ التي ينتهي إليها اجتهاداتٍ بشريةً ناقصة وليست نهائية. طبيعةُ البشر النقص، وهو ما يدعو الإنسانَ لطلب الكمال والكدح لبلوغه. الحكيمُ يدركُ أن بلوغَ الكمال متعذر؛ وذلك ما تشي به الآيةُ القرآنية: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ". يوسف، 76.

موضوعاتُ هذا الكتاب تنشدُ التدليلَ على الحاجة الأبدية للدين، بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية، وتشتركُ في بيان هذه الفكرة المحورية الواحدة بمداخل وتنويعات وبيانات متنوعة، إلا أن فصولَه يمكنُ أن تُقرأ خارجَ تسلسلها في الكتاب، بلا أن يخلَّ ذلك كثيرًا بفهم واستيعاب فصل سابق أو لاحق. وإن كنت أقترح على القارئ أن يصبر على القراءة المتوالية، لأن ترتيب الفصول ومواضعها يعكس سياقها المنطقي وليس عشوائيًّا.

في طبعته الرابعة خضعَ كتابُ "الدين والظمأ الأنطولوجي" لبناءِ شيءٍ من أفكاره، وتهذيبِ شيءٍ من عباراته، وأُعيد ترتيبُ فصوله، واغتنت فقراتُه بإضافات رأيتها ضرورية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.........................

* مقدمة الطبعة الرابعة لكتاب: "الدين والظمأ الأنطولوجي". يصدر قريبًا عن دار الرافدين في بيروت، ومركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.

مثّلَ الانشغال بقضايا اللّاهوت المسيحيّ، وبأشكال حضور الدين في المجتمعات الغربيّة محورَ اهتمامي، على مدى العقديْن السالفيْن. فقد كان لِعامل العيش في مجتمع كاثوليكي الدور البارز في تيسير الوعي من الداخل بالواقع الدينيّ الغربي، وفي التنبّه إلى قوّة نفاذ المؤسّسات الكَنَسيّة فيه، بعد أن كنتُ أحسبها وهنت، بفعل الغشاوة المضلِّلة لمقولة تَعلْمُن المجتمعات الغربيّة. وجدت نفسي، في مستهلّ مجيئي إلى روما، آوي إلى ديرٍ للرهبان، وما يقتضيه العيش في الدير من حرصٍ على التكوين العلميّ في مجمل تفرّعات اللاهوت المسيحيّ وانشغال بالبحث، بدءًا في جامعة القدّيس توما الأكويني ثم لاحقا في الجامعة الغريغورية وكلتاهما من الجامعات البابوية.

أبقى مدينًا في تلك المغامَرة المعرفية إلى الكردينال مايكل فيتزجيرالد، السكرتير الأسبق للمجلس البابوي للحوار بين الأديان في روما، الذي يَسّر لي ظروف خوض تلك التجربة. فالرجل يطبعه عمقٌ روحيٌّ وسعة نظر، فضلا عن انفتاح على المغاير الدينيّ قلَّ نظيره. جعلتني تلك التجربة أغوصُ في الأحوال المسيحيّة بشتّى تفاصيلها، وأرصد تمثّلات وعيِ الدين عند شرائح اجتماعية متنوّعة، من كهنة مكرَّسين إلى عامة الناس، مرورا بسائر أصناف الغنوصيين واللادينيين. فمنذ ذلك العهد وأنا أنام وأصحو على قرع نواقيس الكنائس، وأعيش على إيقاع مجتمع يستبطن عوائد وعقائد، غير ما ألفته في سابق عهدي. ملمحٌ آخر فارقٌ لتجربة العيش في مجتمع كاثوليكيّ غربيّ، أن أجدَ نفسي ضمن أقليّة عربية، تعيش تغريبة الهجرة بكافة تداعياتها، داخل مجتمع محكوم بسياسات متحوّلة، وما تنطوي عليه تلك الأوضاع من تعايُش وتغايُر وتثاقُف وتنافُر. وهو ما كشف لي عن وجه آخر لمعنى عيش الدين، وما يُمثِّله معنى التعدّدية الدينيّة ضمن سياق التحولات الحديثة.

لكن في غمرة هذا الانشغال بأوضاع الدين في الغرب، كانت قضايا الفكر الإسلامي، وأوضاع العالم العربي، تلاحقني في مقامي الثاني، فقد أضحت المجتمعات العربية تتمثّل لي أدنى قربا ممّا مضى، لِفيْض المعلومات ووَفْرة الأبحاث المتاحة عنها. ناهيك عمّا لازمني من حرصٍ على الإسهام في تطوير الدراسات العلميّة للأديان في البلاد العربية، سواء بما أُترجمه من أعمال عن مناهج دراسة الظواهر الدينية أو بما أكتبه عن أوضاع الدين في الغرب، وتساؤلي عمّا يمكن أن تشكّله المقارَبات الحديثة من أُطر للوعي بظاهرة الدين وبواقع التديّن بشكل عامّ.4581 الامام والكاردنال

فلا شكّ أنّ مطالب الإصلاح، والتجديد، والعقْلنة، والأنْسنة للفكر الديني، قد طُرِحت بإلحاح في البلاد العربية وعلى مؤسّساته العلميّة، منذ تنبيه العلّامة محمد الطاهر ابن عاشور في "أليس الصبح بقريب؟" (يعود الانتهاء من تأليف الكتاب إلى العام 1906) لِما يعتري مؤسّسات التعليم من علل واهتراء. وقد مرَّ على حديث الرجل قرنٌ ونيف، دون قدرة على الانعتاق من الأسر التاريخي الذي تردّت فيه مناهجها. لم تحدث نقلة في الوعي بظواهر الدين، وبتحوّلات "الكائن المتديّن"، وبسُبل الاندماج في العالم، وبالمثل لم يتهيّأْ حرصٌ على مواكبة النّسق العلميّ في الوعي بالرأسمال القداسيّ أكان النابع منه من موروثنا والماثل في مجتمعاتنا، أم الوافد علينا بفعل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. وكأنّ الأمر عائد إلى وهن بنيويّ جرّاء تقادم المعارف، ومكر التاريخ، وانغلاق البارديغمات. فهناك اِستنزاف للعقل في متاهة العلوم التقليدية، دون قدرة على الخروج من هذا الدوران الثابت، أو إدراك للتبدّلات التي هزّت المعارف، بما يُفضي إلى تلبية مغايرة لحاجات الاجتماع ووعي مستجدّ.

ضمن تلك السياقات تطرّقت جملة من مباحث الكتاب، وبأوجه عدّة وبمقاربات متنوّعة، إلى موضوع حضور الإسلام في العالم، وأيّ السبل يسلك لتجنّب كلّ ما يعكّر إسهامه الإيجابيّ فيه؟ فأحيانا تعوز الوعيُ الإسلاميّ الواقعيةَ اللازمة وأخرى تعوزه الشروط المعرفية، وكلّها عقبات عويصة مدعاة لإخراج المؤمن من التاريخ. فعلى سبيل المثال، لا تسعف القدرات العلميّة المتقادمة دارس العلوم الدينية المسلم للإحاطة العميقة بالمؤسسات الدينية المسيحية وبالتحولات اللاهوتية وبالوقائع المسيحية. وبرغم الحوار بين الطرفين المسيحيّ والإسلامي، يغيب التعويل من جانب هذا الأخير على المقارَبات المعرفية والأبحاث العلميّة. وهو ما يملي إعادة نظر معمَّقة وجادة في أُطر النظر الكلاسيكية لدى الدارس المسلم لنظيره المسيحي بعيدا عن الاستعادة الجامدة للقوالب القديمة. إذ ثمة طريق شبه مهجورة في الدراسات الإسلامية، وهي طريق الأنْسَنة والعلْموة للخطاب، في الدين وحول الدين، كي لا يبقى تواصله مع العالم قاصرا ومحدودا.

أردنا كذلك التطرّق إلى واقع التواصل بين الأديان، ولا سيما بين المسيحيّة والإسلام. فممّا يُلاحَظ في واقع الأديان الراهن، أنّها لا تملك خطّة واضحة مستقلّة عن التوجّهات الإيديولوجية. فالأديان اليوم تشكو من فقدان رابطة روحية أو أساسات خُلقية جامعة بينها. وهو ما يُملي ضرورة العمل على استعادة ذلك الرصيد القِيَميّ وعدم الانجرار وراء الأيديولوجيات، التي أفرغت المؤتلف الإنساني من دلالته الحقيقية وحوّلته إلى خطاب مفتقِر للمعنى. فما من شكّ أنّ قضايا السياسة والديمقراطية والتغيير والتنمية تشغل فئات واسعة في البلدان الإسلامية، وقسمًا هامّا من مجتمعات العالم المسيحيّ، لاسيما في إفريقيا وآسيا والشطر الجنوبي من القارة الأمريكية. أردنا تناول هذا الموضوع ضمن الكتاب لإبراز ما يشكّله الدين من إسهامٍ إيجابي حين يرافق مسار تحرّر الشعوب، ومن دورٍ إشكاليّ أيضا حين يتمّ توظيفه بشكل فجّ. فلا يفوتنا أنّ ثمة تنازعات داخل الدين الواحد، منها ما هو متفجّر ومنها ما هو خامد، تُؤثّر سلبًا في الانحراف بمسارات التحولات الاجتماعية.

نشير إلى أنّ الكتاب لا يسلك مسلك المقارَنة التقليدية في الحديث عن المسيحية والإسلام، بالتطرّق إلى عقائد الدينين وتشريعاتهما، أو عرْض موقف من مسألة معيّنة وما يقابلها في الدين الآخر, كما قد يتبادر للوهلة الأولى، وإنّما يعمل على تتبّع كيف يجابه كِلا الدينين المأزق الراهن في شأن قضايا كبرى مثل التحرّر والفقر، أو كيف يتعايش مع الحداثة والتعددية والمسكونية. لذلك يأتي الكتاب، بتنوّع مباحثه، محاولة لتقصّي حضور الدين في العالم الراهن، بما يمثّله هذا الحضور من تجابه مع قضايا وأسئلة مستجدّة. فما يجمع الدينان اليوم هو الحضور في عالم يطفح بالمتغيرات المتسارعة، تفرض إكراهاتها تجاوُزَ المعالَجة المعهودة للقضايا الدينيّة والدنيويّة. صحيح لا يتعاطى الدينان بالأسلوب نفسه مع قضايا الدين والدنيا، ولكن الحيز المتصاغر للعالم المعوْلَم أضحى يلزم بالتفكير الجماعيّ، لتذليل المصاعب التي تواجه الجميع.

الإمام والكردينال ومعارج الإيلاف

المؤلف: عزالدين عناية

منشورات المتوسط، ميلانو (إيطاليا) 2021

عدد الصفحات: 280

نبذة عن المؤلّف

عزالدين عناية، أستاذ تونسي إيطالي يدرّس في جامعة روما متخصّص في دراسات الحضارات والأديان. صدرت له مجموعة من الأبحاث منها: "الدين في الغرب" 2017، "الأديان الإبراهيمية" 2013، "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" 2010، "الاستهواد العربي" 2006؛ فضلا عن عدد هام من الترجمات منها: "المنمنمات الإسلامية" لماريا فيتوريا فونتانا 2015، "علم الاجتماع الديني" لإنزو باتشي 2011، "علم الأديان" لميشال مسلان 2009.

***

د. عزالدين عناية

 

ناقش الدكتور وميض جمال عمر نظمي هذا الموضوع بإسهاب في كتابه: ثورة العشرين / الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط4 2020 وهو في الأصل أطروحة تقدّم بها نظمي لنيل الدكتوراه في إنكلترا عام 1974.

أول ما يقفز لذهن القارىء المُطَلّع: ما هي الإضافة التي سيُدلي بها الباحث في هذا المجال؟ فقد أُشبعت "ثورة العشرين" بحثاً من عدد كبير من الكُتّاب كما هو معلوم؟

يُقرّ الباحث ب"خصوصية" حالته:

1- فالعيب الأساسي في أكثر الكتابات عن الثورة أنها كانت "أُحادية النظرة"، تميل لتضخيم دور هذا الفريق أو ذاك من أطراف الحركة الوطنية على حساب باقي العناصر، أو بالأحرى على حساب الحقيقة ص16، وهذا ما يأمل الباحث تجنبه.

2- وبشأن المصادر فهي غزيرة ومتوفرة بالعربية والإنكليزية، لكن ـ كما يبدو للباحث ـ إن أغلب الباحثين العرب لم يتمكّنوا من الإطلاع على المصادر الإنكليزية. في حين إن أغلب الباحثين الإنكليز لم يتيسر لهم الإطلاع على المصادر العربية ص20 .

لن نبالغ إن وصفنا د. نظمي ب"الباحث الألمعي"، فالجدّية والدقة في العرض وإستخدام المصادر، سمة بارزة في عمله. فعندما يُقر ب"قومية" الثورة، فهذا لا يعني الإطلاق أبداً (إن هذا البحث "سيزعم" بأن الثورة كانت قومية حقاً، ولكنها كانت "جنينية" وليست متطورة أو ناضجة بشكل كافٍ) ص18 .

ما هي الأدلة التي قَدّمها الباحث على مُدّعاه "قومية الثورة؟

1- كانت شعارات فصائلها كافة الإستقلال التام والحُكم العربي لكيان عراقي موَحّد مع تَطَلّع الى الوحدة العربية. 2- وحّدَت فصائل كبيرة من الشعب العراقي من طوائف وعناصر مختلفة ضد الإحتلال.

3- كانت إتحاداً بين عشائر مختلفة وتحت شعارات وأهداف جلية.

4- مارست تأثيراً لا يُستهان به في تكوين الكيان العراقي الحديث.

5- أصدرت صُحفاً قومية تُعَبّر عن فكر وطني وقومي واضح.

6- شَكّلت نوعاً من الإدارة الوطنية في المناطق المُحرّرة حيث عُهد إليها بالإدارة وسُلّم إليها أسرى جيش الإحتلال ورُفع فوقها العلم العربي.

7- تفاعلت مع الحركة القومية في الحجاز وسوريا وأحياناً مع مصر.

8- طالبت بملك عربي ورفضت كل المرشحين الأجانب من سواه، ص18 .

الإستنتاج المتوازن سمة بارزة أخرى عند نظمي (لا يجب المبالغة بالقول بأن الثورة كانت قومية محضة، كذلك فإنه من قُبيل التبسيط المفرط الإدعاء المقابل بأنها كانت مجرد إنفجار عشائري فوضوي وعشوائي، أو الزعم بأنها كانت مجرد إستجابة دينية لبعض الفتاوى) ص15 .

يؤمن نظمي ب"المنهج القومي ـ الإجتماعي" أو "القومي ـ الطبقي" في تحليل أحداث التاريخ، وهذا ما يجعل البحث مختلفاً عن كتابات من سبقوه. فالسيدان محمد مهدي البصير وعبد الرزاق الحسني، كانا في تقدير الباحث، أفضل من كتب عن ثورة العشرين ضمن إتجاه قومي عربي. (ولكنهما لم يريا في الثورة سوى العامل القومي والوطني، العامل المثالي والروحي فقط. ولم يتمكنا من أن يريا خلف هذا الشعور القومي، السياسة الإدارية "الوظيفية" والإجتماعية والمالية والضرائبية للإدارة الإنكليزية) ص 23 .

أما "النمط المعرفي" الذي ينهجه الباحث فهو "النسبية والشمولية". فليس هناك ما هو مطلق أو فوق التاريخ في المعرفة الإنسانية، وبشأن الشمولية فهي ليست نقيضاً للنسبية بل مُكملة لها ص25 .

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

الصفحة 4 من 4

في المثقف اليوم