أقلام ثقافية
زهير ياسين شليبه: رسائل من زمن الحصار لكاتب مجهول (7)
الى صديقي يونس!
لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا!
هل تتذكر المرحوم سعيد؟ قُتل فيما بعد في الحرب مع إيران، عرفتُ ذلك لاحقا، وقتها كنا، أولاد المحلة، في السبعينات نجلس في الشرفة، أو حديقة بيتنا الصغيرة، كان صاحبنا سعيد اسمًا على مسمّى، يمزح كثيرًا ولا يكف عن السخرية، نناديه باسمه:
- سعيد!
يجيبنا مبتسمًا: "يا ريت"، يقصد يا ليت هو سعيد حقًّا في حياته. وكان والدي يكن له حبًّا جمًّا ويتعامل معه كما لو أنه ابنه. كان سعيد مربوعًا مفتول العضلات، مائلاً إلى السمرة، مُجعّد الشعر قليلاً، فيه "رِس عبوديه" كما يُقال، ما أقبحه من قول! كنا نناديه "ابو سمره!"، وكانت جارتنا الطيبة العجوزة المحبوبة بيضاء البشرة أم عبد الأمير الشيخلي تقول له عندما تراه عندنا: "اشلونك؟ "دَيّوووس"، ذاك اليوم ليش ما درت لي بال لما طلبت منك تروح تشتري لي جكاير؟".
يُنكّسُ رأسه خجلاً منها متمتمًا بصوتٍ غير مسموع:
- سامحيني حَجّيه أم أمير، والله ما سمعتك! آني خادمك خالتي، خاله، أي شي تحتاجين آني بخدمتك، حاضر ببطن عيني، تدللين خاله أم أمير!
قالت له مبتسمةً وهي تنظرإليه بحنان الأم إلى ابنها:
- عفيه وليدي، اشلون لسان حلو عنده! عسل! سلّم لي على أمّك.
تصور! إننا العراقيون نتفوه بكلمات مثل: "ديّووس" التركية ومرادفتها ديّوث، و"قوّاد" بكل أريحية وودية! فظيييع!
سَأل سعيد والدي ذات مرة ممعنًا النظر إليه:
- عمو، كنت تدخن؟
- إي، نعم بس تركته لأنه مضر جدًا
- عمو والشرب؟ كنت تشرب في الشباب؟
- لا، في الحقيقة مرة واحدة ولم أستذوق البيرة لأنها مرّة، لا أفهم لماذا يحبونها،
أجاب والدي بفخر واعتزاز
- طيب عمو كنت تدور قح...........ا...ب؟
سأله سعيد متلفتًا هنا وهناك كأنه يستعد للهرب إذا تعرض للضرب او الهجوم!
- لَكْ، أسكت، عيب،
قال والدي محاولاً السيطرة على ابتسامة أصرّت أن تبقى مرتسمةً على شفتيه، بينما غرق الجميع في الضحك.
- طيب، طيب عمو جاوبني بصراحه أي حياة هذه؟ هذه جحيم !
وواصل الجميع ضحكهم، لكنه في حقيقة الأمر استدرك قائلاً:
- عمو هذا كلّه مزاح، بربّي إحنه طول الوقت نحلف براسك ونقول: يا ريت نصير مثلك، أنت كلك اخلاق وشهامه!
يونس!
أعتقد أكتفي بهذا القدر، على أن أكتب لك مرة ثانية رسالة بغير مقدمات مهلوسة ولا دوخة راس، وكما يبدو لي أنها مقبولة ومعقولة بفضل اختصاراتي وتعديلاتي، وغير مصدّعة كما تصورت، أليس كذلك يا صاحبي؟!
طبعاً يعجبني أن أحدثك كما طلبتَ مني عن الحياة هنا، مثلاً عن بعض الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد والسنة الجديدة وأعياد ميلادهم الشخصيه حيث يتحدثون عن كل الأمور بحرية للمزاح، ويوزعون الهدايا، وعن هدوئهم والمسابح وتحميم الأطفال بدون ان تحترق عيونهم بالصابون كما هو الحال عندنا عندما كنا صغارًا، هل تتذكر كم مرة بكيت في الحمّام من الرغوة الحارقة وكيف كانت أمهاتنا يفركن وجوهنا ويؤنبننا أو قد يضربننا إذا كن متعبات كالعادة وأمزجتهن رمادية "غير فستقية"! وعموما كيف تتعامل الأمهات هنا مع أبنائهن بالطرق الجميلة الهادئة مثل الغناء والضحك والتحادث معهم وتربيتهن لهم منذ صغرهم، أو منذ "نعومة أظفارهم" كما علّمنا مدرس اللغة العربية. وسامحني مرةً أخرى على الأسلوب الفوضوي والمزاج الانفعالي والانتقالات رغم اني شطبت وعدلت وشذبت الكثير منها.
بلى، لا بدّ لي أن احدثك في المستقبل عن موضوعاتٍ خطيرةٍ يواجهُها الأجانب هنا وبالذات "ربعنا" من العرب والشرقيين مثل تربية الأطفال، الفرق بين الأولاد والبنات والتعليم الجنسي في المدارس والصور العارية والأفلام الإباحية ومحفزات الجنس متوفرة أينما تذهب ومن الصعب كبح غرائز الشباب.
وعن انتقال الأبناء من بيوتهم عند بلوغهم 18 سنه وهو سن الرشد، ويسكنون في مساكن الشباب، ويستلمون منحةً شهريةً، ومعاملة المرأة، الرجل والمرأة هنا يتقاسمان شغل البيت مناصفة.
أما ماهي الحرية الجنسية؟ "أسكتْ وخلّها"، حرية لا يقدر عليها إلا الذين نموا وترعرعوا عليها هنا منذ الصغر، والأجيال الجديدة لها ثقافة خاصة بها، هم يقررون أغلب أمورهم الشخصية والآباء لا يربونهم كما تربوا على الأجداد كما هو الحال عندنا. من منا لم يقرأ: "لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا"، وقولاً آخرَ كنا نقرأه في الكتب المدرسية: "لا تربوا أولادكم كما ربّاكم أباؤكم فإنهم خُلقوا لـزمان غير زمانكم"، لكن هذا كلام نظري وبس، نظريًا كل شي عندنا تمام لكن العبرة بالتطبيق! المشكلة أن الغربيين يبالغون في إعطاء الحرية للأطفال بينما يضيّق الشرقأوسطيون الخناقَ عليهم، يريدون حلاً وسطًا في تربية الأجيال الجديدة.
أعتقد أن هذه القضايا على غاية الأهمية لا يمكننا التطور والنمو بدون فتح النقاش حولها وحسمها والحديث عنها بلا محرمات "لا حياء في الدين"، وإلا سنبقى نراوح في أماكننا إن لم نرجع إلى الوراء وعندها فعلاً لازم "نطمُّ نفسنا طمًّا" واسْلَيمَه التِطُمنا! وسامحني يا أخي يونس على هذه الخاتمة المتشائمه وما ذلك إلا حُبًّا بكم.
وتحياتي الى الجميع!
***
الدكتور زهير ياسين شليبه
آب/ أغسطس 1992