أقلام ثقافية
أحمد صابر: ذاكرة واحة (9) طائر الوروار (آكل النحل)
بعد صلاة العصر لا تخلو جنبات باب القصبة من الجهة الخارجية، كالمعتاد من جلسات بعض من أهل القرية، وهم مصطفين على المِصْطَبَة (الدُّكَّانُ)1 من تحت أصوار الأبراج العالية الممتدة إلى الأعلى من جنبات الباب الرئيسي، وفي نفس هذا الوقت تتجمع نسوة القرية من وراء أبواب دروب القصبة، فأهل الواحة لا يملون تبادل الحديث فيما بينهم، فالبعض منهم يتتبع أخبار البعض الآخر... فجأت رأوا من بعيد ناقة "عبد الفتاح" محملة بلوازم الرحيل، نطق بعضهم بكلمات مختصرة وهو يشير برأسه إلى الناقة، نحن في فصل الربيع، الرجل كما عودنا يجوب الصحراء في اتجاه الواحة الشرقية، سيلزمه أسبوع من السفر، فهو لا يهدأ له بال ولا يطيب له خاطر، إلا بعد رحلته هذه، وقد عودنا أنه يعود وهو يتدفق شعرا وحكما... رد عليه الآخر، كأنه يتتبع أزيز النحل وهو يطير من زهرة إلى أخرى في جوف الصحراء، رد عليه ثالث إنه يحرص كل الحرص أن يكون وحيدا في رحلته، لا يرغب في أن يصطحب معه أحد، وإن لحق به أحد يعود أدراجه، رجل غريب الأطوار، قبل رحلته بأيام يصوم على الكلام ويتجنب الجلوس في مختلف الجلسات، وبعد رحلته يعود محملا بقليل أو كثير من شهدة ُ النحل وكثير وقليل من النباتات العطرية النادرة، ويقبل على الجلوس مع الناس وهو يلقي بالحكم والأشعار التي لم نسمع بها من قبل، ربما أنه يجالس في الصحراء أحدا لا نعرفه.
امتداد الصحراء واتساعها على طول البصر، في مجالات منها تحد بصرك زرقة الجبال كالأعمدة ترفع السماء إلى الأعلى، وفي مجالات أخرى تحد بصرك كتبان الرمال منها المنبسط ومنها المرتفع، وفي جنبات أخرى تمتد عيك على مسافة بعيدة المدة من الحصى الأسود اللون، وفي جنبات أخرى تجد نفسك أمام منبسط كبير لا نهاية له من التربة الحمراء اللون والناعمة الملمس السريعة التفتت المتصدعة الشقوق من أعلى سطحها. شجيرات الطلح والسدر مبعثرة على طول البساط هنا وهناك، بجوارها مختلف نباتات الصحراء التي تستوطن السهوب والشعاب والمنحدرات الضيقة والمتسعة.
توهمك الصحراء من خلال انبساطها المفتوح من كل جانب بأنك أحطت بمعرفة المكان الذي يبدوا لك لأول وهلة بأنه فارغ وتقول في نفسك لا شيء في الصحراء إلا الفراغ، ولكن بعد تأمل عميق يجذبك الفراغ إليه ويلقي في عالم ما وراء الذات والحيات والكائنات. الإساس بالفراغ هو الفخ الكبير الذي تضعه الصحراء امام الذين يرتادوها صباح مساء، من ذوي النفوس الراغبة في التعالي والارتقاء، القليل منهم من يشعرون بدواخلهم بجاذبية الفراغ، وهي جاذبية تحفر فيما وراء وجود الذات والوجود. الفراغ إذن هو طريق ومسلك نحو ما وراء الأشياء... مرة أخرى توهمك الصحراء بأن الفراغ هو المكانُ الخالي، وحقيقة الأمر أن الفراغ من داخله امتلاء لا نظير له ولا قبل لنا به، فمن الخطأ الشائع أن كثير من الناس يعتقدون بأن الفراغ فارغ، الصحراء تعلم مريديها بأن "الفراغ هو ألا ترتبط بشيء، ألا تبحث عن شيء، وألا تنتظر شيئا، هو منطقة حرة لتأسيس تعال، ينطلق من توقيف الأحكام وتعليق الكون، ومن جعل ذات الواقف تكتشف ما يحجبها عن نفسها"2.
الرسل والأنبياء مدينون كثيرا للصحراء بنعمة الفراغ الممتد إلى أبعد مدى من رؤية البصر الذي ينتهي بكوة شعاع ضوء خافت، والعجيب في كوة الضوء هذه أنها تنبعث من دواخل الذات المتماهية مع الفراغ الممتلئ، ويمتد شعاعها كخيوط الحرير، ليظهر في الأفق البعيد، ويلقي بنوره على المكان من كل جانب، حينها ترى الذات رؤية القلب والعين والبصر والبصيرة ما لم تراه من قبل، وما لا تراه غيرها. لأن الرؤية بالعين تابعة لذكاء الإنسان وبصيرته، فكلما اتسعت بصيرته وذكاؤه وارتقى في معارج عالم الروح، إلا زادت بصيرته وبصره ورؤيته للأشياء. التي نراها كما هي هامدة بفعل الضوء، فالتماهي مع نعمة الفراغ يأخذ صاحبه إلى رؤية ما وراء الأشياء. فعين الإنسان إذن، مرتبطة بقلبه وبصيرته، وهي رؤية قادرة على أن تتجاوز المكان والزمان، عكس الحيوانات المنحصرة الرؤية في المكان والزمان.
لا فراغ في الصحراء إذن، وأنت الآن بعد رحلة يوم كامل، قد اكتشفت جزء صغير من خباياها، أنزل الآن من أعلى ناقتك، وضع عنها عمل أغراضك بتأني، وقبل ذلك قدها نحو ذلك المنبسط المخضر، ليهل عليها الحصول على قوتها، الآن الشمس تميل إلى الغروب، لا داعي لكي تستظل بشرة الطلح هذه القريبة منك، ابتعد عنها، البعض من الزواحف تنصب بجانها فخاخها لتصطاد بعض من فرائسها، أعقل ناقتك وليس لك دونها ولس لها دونك الآن، عليك أن تجمع قليل من الحطب قبل أن يعم الظلام المكان، لتوقد النار من أجل كأس الشاي العذب، لا تقترب من لهيب النار كثيرا، رشفات كأس الشاي هذه وأنت تتمتكها، تلقي بك مرة بعد مرة في دوائر الفراغ العميق، وأنت في انتظار أن يخطر في بالك وذهنك ما تتوقعه وما لا تتوقعه حول ذاتك والوجود والإنسان والكائنات والماضي والحاضر والمستقبل، لا شيء هنا إلا ناقتك وهي الآن تحدق بعينيها فيك، لا ينقصها إلا أن ترد عليك بكلام فصيح، وهي تسمع حوارك مع نفسك بصوت مرتفع. وأنت على هذه الحال مثل من يلقي بالدلو من الأعلى ماسكا بالحبل في يده، ينتظر لتوان صدى الدلو وهو يصطدم بسطح الماء في قعر البئر، ليسحبه بتَأَنٍّ وتمهُّل حتى يصل به إلى الأعلى ويسكبه بحرفية في قربته الجلدية، وقبل طله توقع وانتظار ليتذوق طعم الماء هل هو عذب بما فيه الكفاية أم هو مالح من الصعب شربه. لا تنسى بأن قوتك هذه الليلة هو ما تبقى من رغيفك الذي أعددته زوالا، لا تخشى شيئا لازال لديك ما يكفي من الماء، وقد أخذت الاحتياط. قم الآن وأخطو ثلاث خطوات من المكان الذي أنت فيه، وأغرز رأس عصاك الخشبية في الأرض، ومررها وأنت تخط طوقا كبيرا من حولك، بقطر ست خطوات، أنت الآن داخل حصنك المنيع.
لا تخشى شيئا، الزواحف والحشرات، لا يمكن لها أن تخترق حصنك الذي نقشته بعصاك على الأرض، في حالة اقترابها منه ستغير الاتجاه دون اقتحامه، ضع خنجرك وهو سلاحك بالقرب من وسادتك، لا تنسى أن تمد يدك إلى سبحتك، ممرِّر حباتها في اتجاه اليمين...أنت الآن تغط في نوم عميق، ناقتك من خارج الطوق مضطجعة تميل برقبتها ورأسها ذات اليمين وذات اليسار، وهي تنظر إليك، كأنها تنتظر طلوع الفجر، لتنبئك بطلوع يوم جديد وبداية تأمل جديد. حالتك هذه في أعين الآخرين تستدعي الاستغراب، لا يرون فيك إلا أنك شخص غريب الأطوار، لأنك ذو طَبْع يصعُب فهمُه، لأنه طبع منفلت عن المفهوم العام.
عند انفلاق الصبح، أعدّ عبد الفتاح فطوره، وبعدها أخذ يستطلع أجواء المكان ليحدد وجهة رحلته، بعض من الخنافيس بالقرب منه حمراء اللون وسوداء اللون تنسحب بسرعة في عودة إلى مخابئها، قبل أن تطل شمس الصباح، ظهرها مليء بقليل من الندى، وهذه طريقتها في جلب ما تحتاجه من الماء، وتصميم ظهرها مصمم ليساعدها على هذا الأمر، فهي تشرب من الندى الذي يتحول إلى قطرات صغيرة جدا من الماء المتكاثفة على ظهورها، فشروق الشمس قد تفقدها الندى الذي حملته طيلة الليل، ها هي الآن تتحرك بسرعة ويمتلكها الخوف من أن تقع فريسة لأحد سحلية الصحراء أو طيور الصباح.
توقف عبد الفتاح عن المسير، وإذا به يرى بالقرب منه سحلية نحيفة جدا، تمد لسانها الطويل، وتلعق عينيها الواسعتين، قال في نفسه إنه الصباح وهي الآن تغسل وجهها، السحلية مثل الخنفساء إنها تلعق قطرات الندى على أعينها وهذه طريقتها في الشرب. استمر عبد الفتاح في المشي، ها هو الآن داخل منحدر تتخلله قرب شعاب وسهوب ضيقة مليء بمختلف النباتات وإذا به يجد الأثر الذي سيبدأ تتبعه، إنه أزيز عشرات النحل التي تتنقل بين زهرة وأخرى، عليه الان أن يدرك الاتجاه الذي قادمة منه وعائدة إليه، تسمر في مكانه رفع رأسه نحو السماء رأى يمينا يسارا ... دارت في ذهنه كل التخمينات، وإذا بمجموعة من طيور الوروار محلقة في السماء في نفس الاتجاه الذي توقع أن يسير نحوه.
ها هو الان على ظهر ناقته في الوجهة التي أختارها ويتوقع أن يصل قبل الظهيرة إلى المكان الذي يتوقعه، أشعرة الشمس الآن قد أحاطت بالمكان، اختفت مخلوقات كثيرة مما لا يعد ولا يحصى من الحشرات والزواحف والثديات... وظهرت أخرى، عبد الفتاح لخبرته ولرحلاته المتكررة التي جاب فيها منطق أخرى من الصحراء، يعرف كيف يصل إلى بعض من عيون الماء، سار يعرف مواقع المروج الخضراء، يعرف كيف يتجنب ويراوغ كثبان الرمال المتحركة... الفتحات بين الجبال التي تظهر من بعد ترشده لتحديد النقطة والمكان الذي هو فيه، عبد الفتاح يملك خريطة طبوغرافية بشكل تلقائي معه وهو في جوف الصحراء لا يخشى عليه.
الرجل سار يتخفف من القيل والقال والكلام الفارغ الذي يملأ جزء كبير من حياة أهل الواحة، وهو يكاد الآن، ينسى كل الكلام الفارغ الذي اعتاد عليه طيلة أشهر وهو داخل الواحة، أهل الواحة من عادتهم أنهم يجمِّعون كثيرا من الكلام، دون أن يفرزوا بعضه عن بعض.
التقطت أذن عبد الفتاح أصوات طائر الوروار، تحرك سريعا في اتجاه الصوت، ها هو الآن داخل الشعاب الكبير لأشجار الطلح، بالقرب من منبع صغير للماء، وقد سبقه سرب من طائر الوروار، إذ وجده يجهز بمناقيره على كثلة من النحل وقد تجمعت بين أغصان شجرة طلح كبيرة ومتسعة الفروع بشكل لا يصدّق. امتلك عبد الفتاح الغضب، وارتأى أن يناصر النحل بأي ثمن، ترك ناقته بعيدا لتطعم نفسها بنفسها، بعد أن حط رحيله من أعلى ظهرها، وإذا به يلتقط الحجارة ويلقي بها على طيور الوروار ليبعدها عن النحل، ولا ما نع عنده إن أصيب بعضها بسببه.
بعض أشلاء النحل تساقطت إلى جانبه، وبعض من جنيحات النحل التي انفلتت من مناقير طيور الوروار أخذها الهواء بعيدا. تشتت سرب الوروار في السماء وحلق بعيدا، رمى عبد الفتاح ما تبقى من الحجارة من يده، سار نحو جذع شجرة الطلح، ووجد بجانبها على مساحة صخرية ضيقة نحلة لازالت تترنح، وهي لم تفارق الحياة بعد. عاد الرجل إل هدوئه ورويته، يا الله أنا أريد العسل وطائر الوروار يريد حشرة العسل، الوروار يجهز على حشرة العسل وأنا أجهز عن طائر الوروار، الطائر الجميل المنظر والألوان وصوته العذب الشجي... يا الله.
انجذب عبد الفتاح نحو حشرة النحل وانجذب في الوقت ذاته نحو طائر الوروار، أيهما أولى بالنسبة إليه؟ وإلى جانب من سيكون في هذه الثنائية الضدية...؟ أحتار الرجل كثيرا، وهو متكئ إلى جذع شجرة الطلح تلك، وقليل من قطرات العسل تنهمر عليه، كلما هز بجذعها، لم يرقه جني شهدت العسل، ولم يعد يرقه أن يطوف بين الأشجار في عين المكان، لعلها تحمل قليل من شهد العسل.
ها هو الآن يُعدُّ رغيف غدائه، في المكان الذي اختاره لنزوله، وقد جمع كثير من الأحجار الملساء الصغيرة الحجم صففها على شكل دائرة لا يتجاوز قطرها أربعين سنتيمترا، وقد أحاطها بالحطب وأبرم فيه النار، وبعد دائق سحب النار جانبا، وظهرت الأحجار المصطفة، وإذا به يلقي عليها الحجين... وقد عجل بإعداد إبريق من الشاي الأخضر، أضاف عليه حبات عِلْك الطلح التي اقتلعها في حينه من بين أغصان الشجرة التي بجانبه، وأضاف عليه جزء قليل من شهدة العسل، سكب الشاي من أعلى في قاع الكأس وهو متكئ على جانبه الأيمن، رشف الرشفة الأولى والثانية...لازال مشهد النحلة التي كانت تترنح من قبل أمامه عالقا بذهنه، وقد خطر عليه مرة أخرى ذلك المشهد المثير لطائر الوروار وهو يجهز بمنقاره الذي لا يخطئ الاتجاه على النحلة تلو الأخرى، الرشفة الثالثة والرابعة جعلته يتجرد بالكامل من الصورة السطحية لكلا المشهدين، وإذا به يرتمي في الفراغ من وراء ضربة منقار الوروار بعد أن التقط النحلة في الهواء، ماذا بعد موت النحلة التي تترنح، ليس من السهل أن ترتمي في الفراغ، حيث النظر والتأمل في "ما وراء الأحكام [وما وراء الأحداث] وما وراء الضدية المنتجة لحجب الثنائيات، تجربة الفراغ سحيقة الغوْر، ترومُ بلوغ الأقصَى الذي يتحدد فيها بوصفه مخاطرة وخلاصا في آن."3
مع الرشفة الأخيرة لكأس الشاي، تحول الفراغ إلى امْتِلاء، الأفكار تتقاطر مثل تقاطر قطرات العسل، يا الله من حماقتي أنني أجهزت بالحجارة على طائر الوروار، النحلة نفسها تجهز كل صباح على رحيق الأزهار، وأنا قادم لأجز على شهدة عسلها، لا عليك أيها الوروار أنت تتغذى على الدبابير والجراد ومختلف الحشرات وعلى النحل أيضا. الحقيقة أن قلقي من طائر الوروار ليس حبا في حشرات النحل، وإنما حبا في عسلها، من الحمق أن اطارد طائر الوروار أنا وغيري مدينين له، بالكثير كما اننا مدينين للنحل... حلاوة طعم العسل لا تقل شأنا عن تغريدات وجمالية ريشات طير الوروار...الآن يحلو لي أن أجني شهد العسل...
استوطن عبد الفتاح في المكان لثلاثة أيام، فالمنبع الصغير وفر له حاجته للماء ولناقته، وقد جنى ما وصلت إليه يداه من شهد العسل، وقطف الكثير من زهور وعطور الصحراء، وسار في طريقه في اتجاه الواحة الشرقية المقابلة للواحة القادم منها، سيقايض العسل بمستلزمات أخرى يعود بها إلى الواحة التي يقطنها، بعد مكوثه أسابيع في الواحة الشرقية.
ومن هذا الذي يختزل الصحراء في الفراغ، حيث لا فراغ، تواضع الصحراء يجعلها تخفي ما تمتلئ به، كل الحضارات والثقافات مدينة للصحراء بالكثير، الصحراء حزام حزمت به الأرض نفسها منذ الأزل وهي صلة وصل بين شمالها وجنوبها، من خَبِر الصحراء قد خبر جزءا كبيرا من العالم والإنسان اسمحوا لي كثيرا أن أقول لكم الرسل والأنبياء خَبِروا الصحراء كثيرا...
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
.........................
1- مكان مرتفع قليلًا عن الأَرض مُعدّ للجلوس خارج الدَّار غالِبًا.
2- أنظر: الصوفية والفراغ، خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2012م
3- أنظر: الصوفية والفراغ، خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2012م (مقدمة الكتاب)