ترجمات أدبية

كارلا سواريز: البيت الكبير

مقتطف من رواية صمت

بقلم: كارلا سواريز

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

عندما كنت في السادسة من عمري، قرر والدي الانتقال للنوم في الصالة. لا أتذكر الكثير من ذلك الوقت، سوى صوت باب الغرفة يُغلق بعنف، ونداءات أمي الخافتة خلال الساعات التالية.

كنا نعيش في بيت جدتي، شقة كبيرة مليئة بغرف تحوي عوالم مختلفة؛ غرفة الجدة، وعمتي العزباء، وعمي الذي يعمل في التدليك، ثم نحن الثلاثة، قبل أن ينتقل أبي إلى الصالة.

كانت أمي أرجنتينية قررت في الستينيات القدوم إلى هافانا لدراسة المسرح، وهناك تعرفت على عمتي، التي بدأت في المسرح ثم انتقلت إلى الرقص، ومنه إلى الأدب، وهكذا، كانت تبحث دائماً عن نفسها، كما كانت تقول، أو "تضيع" كما كانت الجدة تقول.

بفضل عمتي، وصلت أمي إلى "البيت الكبير" والتقت بوالدي، الذي كان آنذاك ضابطاً شاباً في الجيش، من هؤلاء الذين تقدموا بجرأة وارتدوا الزي العسكري الذي كان يعجب الفتيات، خاصة التقدميات مثل أمي، التي وقعت في حب عميق وتخلت عن جنسيتها حتى لا يشعر أبي بالانزعاج لارتباطه بأجنبية. بالنسبة لعائلة أمي في أمريكا الجنوبية، كان هذا القرار بمثابة تنكر لهم كعائلة، فقرروا قطع العلاقات مع ابنتهم "الخائنة". أما الجدة، فمن ناحيتها  قبول امرأة تعيش في بيتها مع ابنها دون زواج كان عاراً، ولهذا قررت هي الأخرى التخلي عن زوجة ابنها. وهكذا بدأت أمي علاقتها دون موافقة أحد، لكنها كانت مقتنعة تماماً بحبها وصداقتها مع عمتي. أما العم فلم يكن يُحسب، لأنه لم يكن على علاقة جيدة مع أبي. حتى قبل ولادتي، كان أبي والعم بالكاد يتحدثان. لذا، اقتنعت أمي بضغط من زوجها بأن تتعامل مع أخيه ببرود ولامبالاة.

نشأت محاطة بكبارٍ مختلفين تماماً. كان لجدتي أربعة أبناء، أكبرهم كان المفضل لديها واحتل مكان الجد بعد مغادرته المنزل. حدث ذلك قبل ولادتي بزمن، لذا لم ألتقِ به قط، وكان ذكر اسمه محظوراً في البيت. في أحد الأيام، هجر الجد الجدة، فانتقل الابن الأكبر إلى غرفتها وأصبح سندها حتى قرر الزواج والانتقال لمكان آخر، عندها أعلنت الجدة الحرب على المرأة التي أخذت بكرها وحولت كل حبها إلى أبي، الأصغر. كان أبي يعد بمستقبل باهر، وأصبح شريكاً لوالدته في كرهها الصريح لأخيه الأكبر عندما قرر الانتقال بعيداً، حتى استقر في ميامي مع زوجته. بالطبع، كل هذا حدث قبل ظهوري في العائلة، لأنه بمجرد انتقال أمي إلى البيت، شعرت الجدة بأنها مضطرة لاحتقار ابنها العسكري، إذ يبدو أنه لم ينوِ إضفاء الشرعية على علاقته.

في تلك الفترة، أعتقد أن الجدة مرت بظروف صعبة، واضطرت للاختيار بين عمتي (الابنة الثانية) والعم الثالث. لم تكن علاقتها مع عمتي جيدة أبداً، لأنها كانت المفضلة لدى الجد، وكانت كلما حاولت الجدة التحدث عن زوجها السابق باحتقار، تقفز عمتي للدفاع عنه بكلمات سحرية تجبر الجدة على الصمت. أما العم الثالث فكانت له مشاكله الخاصة، ليس فقط بسبب قطيعة أبي معه، بل بسبب سرٍّ عائلي لم يجرؤ أحد على البوح به. أعلم أنه قبل أمي، كان أبي والعم يتشاركان الغرفة نفسها، حتى قررت الجدة نقله إلى غرفة صغيرة بجوار المطبخ. بالطبع، في ذلك الوقت، كان أبي لا يزال المفضل، وعندما ولدت، كان العم قد أسس مملكته بعيداً عن الجميع، في ذلك الركن الخلفي.

قضت الجدة بضع سنوات دون ابنٍ مفضل، حتى قرر العم ذات يوم - قبل أن ينتقل أبي للنوم في الصالة - أن يتفرغ لعمل التدليك. وهكذا بدأ البيت يزدحم بفتيات صغيرات يدخلن إلى الصالة، يبتسمن لي وأنا طفلة رضيعة، ثم يعبرن المطبخ متجهات إلى غرفة العم وجلساته. بالنسبة للجدة، كان ذلك بمثابة بصيص نور، فحسمت صراعها الداخلي وركزت كل قواها على الابن "المدلك" الذي كان يعود كل يوم محملاً بالزهور والحلوى لها.

حتى تلك اللحظة، ربما حافظت غريزتي الطفولية على أمل أن تحتضنني جدة تُهدهدني بأغانٍ وتُغمرني في حجرها، لكن اختيارها للعم حطم أحلامي. كنتُ "غير شرعية"، مولودة خارج إطار الزواج، وابنة لأجنبية أيضاً. باختصار، اضطررت للاكتفاء بذراعي أمي وعمتي، التي كانت تتركني بمجرد أن أتبول بحجة أن بول الأطفال يُصيبها بالزكام! أما أبي، فكنت أراه نادراً؛ كان غارقاً في العمل، لذا علقت أمي صورة له فوق مهدي. كل ليلة قبل النوم، كانت تجعلني أُرسل قبّات للصورة، ثم تهديني حفلاً موسيقياً كاملاً من الأغاني التي بدت في صوتها حلواً كالعسل، تُغرقني في النعاس. تقول إن أول كلمة نطقتُها بعد "بابا" و"ماما" كانت "بندقية"، لأن أغانيها لم تكن تدور حول دباديب أو فراشات، بل عن بنادق وموت. وعندما كانت تسهر مع عمتي بجانب مهدي في الليل، كنت أسمع كلمات غريبة متنافرة، فأبدأ بالصراخ - لغتي الوحيدة التي توائم ذلك الجو!

كانت غرفة عمتي أفضل غرفة في البيت. هناك انتقلت أحاديثهن الليلية عندما بدأت المشي. كن يتحدثن بينما أتجول في الغرفة أمسك بكل ما تقع عليه عيناي: كتباً، دُمى، أكواب، أقلام، أجهزة غريبة... كانت عمتي تمتلك كنزاً من الأشياء وتُصاب بالذعر إذا كسرتُ شيئاً. هناك تعلمت كلمتي "خرا" و"لعنة"، اللتين بدتا لي جميلتين لكثرة ترديدهن إياهما. أحببتُ أيضاً الراديو الصغير في الغرفة؛ كانت عمتي ترفع الصوت أحياناً وتشرع في العزف بشكل مزعج، فتحلّ الفرحة ونقفز نحن الثلاث على السرير حتى نسمع صوت الجدة من الغرفة المجاورة تضرب الباب، فنلزم الصمت مكتومات الأنفاس من الضحك. بعد قليل، تجبرني أمي على السكون لعبور الممر إلى غرفتنا، نرسل قبّات لصورة أبي ثم ننام. لكني كنت أجد صعوبة في النوم لأنها كانت تسهر معظم الليل تقرأ كتاباً تحت ضوء المصباح الخافت. عالمي آنذاك كان محصوراً في غرفة عمتي وغرفتنا، لأن أمي أعلنت أن الصالة "منطقة محظورة" بعد مشادة طويلة مع الجدة بسبب تبولي مرتين أو ثلاث على الأريكة أو على إحدى الفتيات اللاتي كن يأتين لجلسات تدليك العم!

حتى تلك اللحظات، كان كل شيء يسير على ما يرام. كانت عائلتي متماسكة تمامًا، كان لدي أب اعتاد أن يترك لي هدايا صغيرة فوق المهد، وأم كانت تغني الأغاني، وعمة شديدة المرح، وجدة كثيرة المشاجرات مثل معظم الجدات، وعم يمتلك الكثير من المعارف.

كنت سعيدة. كنت أقضي النهار بالتناوب بين أمي والعمة، وكان ذلك وقتي المفضل، لأنها كانت تجلس للكتابة على الآلة الكاتبة، وأنا أستطيع أن آخذ كل ما أريد، أن ألعب بأغراضها، أن أتسلق السرير بينما هي تكتب دون أن توبخني إلا نادرًا. كنت أفعل ما يحلو لي، وكانت تقترب مني فقط بين الحين والآخر عندما تشم رائحة مزعجة؛ فتقوم بتغيير حفاضتي وتلقي (الحفاضة) في وعاء ثم تقدمه لأمي شاكية لأن رائحة براز الأطفال تسبب لها الغثيان.

في تلك السنوات الأولى، كانت عمتي أديبة وتقضي ساعات طويلة في المنزل، لذلك كانت أمي تتركني تحت رعايتها بين الحين والآخر. أما بقية الأيام، فكنت أسافر مع أمي من مكان إلى آخر، إلى أماكن مليئة بأشخاص يتحدثون كثيرًا، أو إلى قاعات التدريب حيث كان الجميع إما يوبخونني أو يمررونني من يد إلى أخرى حسب مزاجهم، لكن الأمر كان ممتعًا أيضًا لأنهم أحيانًا كانوا يعطونني دمية أو قناعًا فألعب طوال العصر.

ثم حدث ذات ليلة شيء فظيع. كنا في غرفة العمة وكانتا تتحدثان كالعادة، وفجأة نهضت عمتي غاضبة وهتفت بشيء عن "الواقعية الاشتراكية" مصحوبة بـ"هراء مطلق". وبالطبع لم يعجب ذلك أمي، فاشتعلت غضبًا وبدأت تصرخ بشكل غريب وعلى غير المعتاد. انزويت في زاوية دون أن أفهم شيئًا، ورأيتهما تتشاجران، وكاد الأمر يصل إلى الاشتباك بالضرب، حتى أمسكتني أمي من ذراعي وقالت إن عمتي غبية وإنها لن تطأ تلك الغرفة أبدًا بعد اليوم.

فى تلك الليلة، لم أضطر إلى إرسال القبلات إلى صورة أبي، وبالطبع لم أستطع النوم. أما أمي فقد ظلت تدور في الغرفة، تنظر إلى الساعة، وأبي لم يعد. بقيت متظاهرة بالنوم طوال الوقت، متكورة تحت الأغطية، وكانت تلك أول ليلة أشهد فيها عودة أبي. فتح الباب ودخل بهدوء محاولًا عدم إصدار صوت، حتى اصطدم بنظرة أمي الحادة من السرير.

— إذا جئتني بحجة أنك كنت في الحراسة مرة أخرى، سأقلع خصيتيك.

أشار أبي بعلامة إرهاق وقال شيئًا عن الذهاب إلى الصالة، حتى لا يوقظ الطفلة. لكن أمي نهضت غاضبةً مضيفةً أنها لا تكترث أبدًا إذا سمعت الطفلة أم لا، وأنها سئمت من الاختباء في الصالة كي لا تسمعها الجدة والطفلة، سئمت من كل شيء ومن هذه العائلة المجنونة، من نوبات حراسة أبي، وحماقات الجدة، والعالم المناضل، وللأسف العمة المتعجرفة ونصف الخائنة. في تلك الليلة اكتشفت أنه بعد الأغاني التي كانت تغنيها لي، كانت تبقى مستيقظة تنتظر عودة أبي لتذهب إلى الصالة وتتشاجر. واكتشفت أيضًا أن الأمور لم تكن على ما يرام كما كنت أظن.

منذ تلك الليلة، توقفت أمي والعمة عن التحدث ولم تعد هناك زيارات ليلية للصالة. كنت أنام، ومع أولى صرخات أمي المكتومة، أستيقظ لأغطي أذني بالملاءة، وعندما تشتد الأمور، أبدأ في البكاء، بقوة، بقوة، حتى تدق الجدة الباب مطالبةً بالصلاة والشكوى لأنه لم يعد بالإمكان حتى النوم في هذا البيت. عندها تستغل العمة الضجة من غرفتها لتشغل المذياع، بينما تمسكني أمي، ويقرع أبي باب أخته بعنف مطالبًا بالاحترام، وتذهب الجدة لإيقاظ العم، لأنه الوحيد الذي يعتبره، الوحيد اللائق الذي يعيش في بيته.

بسبب كل ذلك، انفجرت أمي بالبكاء في اليوم الذي قرر فيه أبي الذهاب للنوم في الصالة. كنت في السادسة من عمري، وقضيت قرابة ثلاثين ساعة دون طعام لأن أمي ظلت تبكي وتنشج، تمسح مخاطها وتواصل البكاء بلا توقف، بلا عزاء، ترمي المناديل المبللة على الأرض ثم تجفف دموعها بالملاءات لتواصل البكاء، حتى ابتل كل شيء ولم يتبق سوى ملاءاتي الجافة. نظرت إلي أمي، التقت نظراتنا، فانقطع بكاؤها فجأة.

—  لن أبكي بعد اليوم، صغيرتي، أعدك.

ولم تبكِ بعد ذلك، لكنها أيضًا لم تفعل شيئًا آخر. حينها اشترت جهاز التسجيل ذلك المستعمل وبدأت في سماع التانجو. تخلت عن المسرح، توقفت عن الحديث مع الجميع في البيت؛ كانت تخرج من الغرفة فقط عندما ترى الأمر ضروريًا، وأحيانًا لتأخذني إلى الحديقة وتتناول جرعة في بار الزاوية. لم تكن أمي تسمع سوى التانجو، وكانت تساعدني على النمو. عندما يخاطبها أبي، كانت تكتب على ورقة ما تراه مناسبًا، فقط ذلك، ثم تعود إلى سماغ أغانيها. كنت أراقبها صامتة، وأقسَمت لنفسي أنني لن أبكي هكذا أبدًا، لن أظهر دموعي أبدًا، لأن وراء البكاء لم يكن سوى تانجو، وهذا ما كان يجعلني أرغب في البكاء، ولم أكن أريد، لن أبكي أبدًا، أبدًا بهذه الطريقة، لا من أجل شيء، ولا من أجل أحد، ولا حتى من أجل ما كنت بالكاد أفهمه آنذاك.

كبرت وأنا أسمع الكلمات التي يتبادلها الآخرون، صمت أمي وكلمات التانجو، أغنيات طفولتي، تلك التي كانت ترددها دائمًا:

"...عندما تُغلق كل الأبواب..."

وتعوي أشباح الأغنية،

مالينا تُغنّي التانجو بصوتٍ مُتهدّج،

مالينا تحمل حزن آلة الباندونيون...

(انتهى)

***

..................

الكاتبة: كارلا سواريز/Karla Suárez: كاتبة كوبية. وُلدت في هافانا عام 1969. منذ طفولتها، كانت شغوفة بالرياضيات وكتابة القصص والموسيقى. درست الجيتار الكلاسيكي وحصلت على شهادة في الهندسة الإلكترونية، وهو مجال ما زالت تمارسه. وسواريز مؤلفة لخمس مجموعات قصصية وأربع روايات. حازت رواياتها على العديد من الجوائز، منها جائزة "لغة التراپو" لرواتها الأولى "صمت" (1999)، والتي اختيرت بفضلها ضمن أفضل عشرة روائيين لعام 2000 من قبل صحيفة "إل موندو". كما فازت بجائزة "بري كاربيه" للكاريبي والعالم وجائزة الكتاب الجزري في فرنسا عام 2012.تعيش حاليًا في لشبونة، حيث تشرف على نادي القراءة في معهد ثيربانتس وتدرّس الكتابة الإبداعية في مدرسة الكتّاب بمدريد.

 

في نصوص اليوم