قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: نافذة البحر.. دراسة في البنية الشعرية والدلالة الفلسفية في شعر

محمد خالد النبالي

تمثل قصيدة "نافذة البحر" نصاً شعرياً وجودياً يتجاوز حدود التعبير الجمالي إلى مساءلة كبرى عن الموت والفناء والغياب والمعنى. ينطلق الشاعر من "النافذة" بوصفها عتبة بين الداخل والخارج، ليجعل من البحر مرآةً للغيب وفضاءً فلسفياً مفتوحاً على السر والالتباس. وهو بذلك يستعيد ما أشار إليه غاستون باشلار في جماليات المكان حين اعتبر النافذة "موضع انفتاح الكائن على اللامحدود"، لكن النبالي يجعل منها منفذاً إلى قلق الإنسان أمام سر الوجود.

البنية الفنية للقصيدة

التكرار والإيقاع الدلالي

تكرار العبارة الافتتاحية «فِي ذَاتِ صَبَاحْ» ليس تكراراً زخرفياً فحسب بل وظيفة بنائية زمنية ودلالية: يخلق إيقاعاً دائرياً يشبه طقوس العودة إلى نفس السؤال الوجودي ويحول الزمن الشعري إلى حلقة تكرارية لا تقدم حلاً بل تزيد من كثافة القلق.

هذا التكرار يعكس ما يسميه بول ريكور زمن التكرار حيث يعود الإنسان إلى مواجهة الأسئلة المصيرية دون مخرج نهائي. كما يجعل الصباح ليس حالة واحدة وإنما سلسلة من الصحو/الاستدعاء، فيحيل على مفهوم الزمن الحلقي عند القراءات الوجودية ويمنح النبرة طابعاً تأملياً طقسياً.

الاستعارة والرمزية: النافذة، البحر، الخريف

النافذة: عتبة بين الداخل والخارج، ليست مجرد إطار بصري بل موقع لوجودية الرؤية وموقف فلسفي من المساءلة.

البحر: يتحول من مجرد منظر إلى "آخر" معرفي  مصدر الغياب والسر. صمته وإجاباته المشفرة تعمّقان فكرة القلق الوجودي: البحر كرمز للامحدود والغياب الذي لا يستنزف بواسطة اللغة.

الخريف والأوراق المتبعثرة: يرمزان إلى التفتت والخلخلة التي تسبق الكشف. الخريف هنا ليس حالة مناخية فقط بل حالة   أنطولوجية تكشف عن حافة المعنى حين يتفكك العالم/الذات.

التضاد والتفاضل الدلالي

يبني الشاعر تضاداً واضحاً:

بين النهر (جمال وحياء، رمز للقريب والمنسجم مع الذات) والبحر (عميق الأسرار، رمز للبعيد المجهول الذي يهدم الثقة المعرفية).

وبين الموت والنحر: فالموت قد يحمل طابعاً طبيعياً، بينما النحر يوحي بالعنف والتمزق، مما يفتح النص على تباينات أخلاقية وفلسفية حول الفناء والنية والمعنى.

الحوارية والضمائر وسيناريو البلاغة

القصيدة بناؤها حواري: "أنا" المتكلم مقابل "البحر" المتكلم/ الصامت. هذا التوزيع الصوتي يجعل من النص دراما فلسفية صغيرة: الذات تستجدي المعنى والآخر (البحر) يعيدها إلى الصمت أو إلى شرط كشف مشروط:

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ."

الأسئلة البلاغية المتكررة (قُل لي... ما الفرق...؟) تؤكد حالة الأبوريا (الأسئلة التي لا تجد جواباً نهائياً) وتحول اللغة نفسها إلى مسرح عجزها عن الاستيلاء على السر.

البناء النحوي والإيقاعي والوقفات

الاعتماد على الأسطر القصيرة والتقطيع السطري يخلق إيقاعاً متقطعاً يقارب اضطراب الذات. تكرار صيغة «قُلْ لِي» يعمل كدعوات متكررة لكنها تفشل بالردود الصامتة، فتصبح اللغة نفسها دليلاً على الفشل المعرفي.

الصوت والوزن واللحن الداخلي

يتكرر صوت الفاء والباء والصاد بما يشبه التمتمة الطقسية. كما أن مفردات مثل "فاضَ"  "تتبَعْثَر"،"مات السر"  تحمل شحنة إيحائية قوية: "فاض"  توحي بالامتلاء المفرط الذي يتجاوز السيطرة و'مات السر" تختم النص بلحظة انقطاع نهائي.

الصور الحسية والبعد البصري/السمعي

النص يوظف صوراً بصرية (النافذة، النور، الظلام، الأوراق) وسمعية (الصمت، السؤال) ليؤسس تجربة حسية وجودية:

"والنور يجيء / وحتى الإظلام يهل"

ما يعكس جدلية الحضور/الغياب، والكشف/التلعثم.

التركيب الدلالي العام

تجمع هذه العناصر بين الشعرية والفلسفية لتؤكد أن النص ليس مجرد طرح أسئلة معرفية بل هو تمرين على حدود اللغة ذاتها  حيث يتحول الشعر إلى مساحة مساءلة للسر الذي يتعذر القبض عليه.

الثيمات الوجودية

البحر رمزاً للغيب واللامحدود

"البحر غريب، مريب، عجيب."

البحر يصبح استعارة للآخر الغامض الذي يواجه الذات بحدودها. كما يقول ريلكه: "إن الجمال ليس سوى بداية الرعب التي ما زلنا قادرين على احتمالها."

الخريف والتبعثر بوصفهما شرط الكشف

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ / بِأَزْمِنَةِ خَرِيفْ."

الخريف هنا علامة على الذبول والانكسار السابق للكشف وهو ما يوازي رؤية ميرلو-بونتي: "الوجود يدرك في لحظات الهشاشة والانهيار أكثر من لحظات الاكتمال.

السؤال الفلسفي عن الموت والخلود

"مَا الْفَرْقُ هُنَا بَيْنَ فَنَاءٍ وَخُلُودْ؟"

هذا السؤال يذكر برؤية سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية والحرية تبدأ بالوعي بالموت." فالقصيدة تساءل الفارق بين الزوال والمعنى وبين الغياب والوجود.

البعد الفلسفي للقصيدة

اللغة وحدود السر: في النهاية "مات السر" لا لأنه انكشف بل لأن اللغة والبحر معاً عجزا عن تقديم تفسير. كما يقول ت. س. إليوت: "الشعر يبدأ حيث تعجز اللغة عن القبض على المعنى."

المفارقة بين الجمال والفزع: النهر "جمال وحياء"، البحر "عميق الأسرار". هذه الثنائية تجسد مفهوم "الجليل" عند إدموند بيرك، حيث يولد الانبهار من التلاقي بين الجمال والرعب.

المقارنة الأدبية/الفلسفية مع شاعر معاصر

تركز كل من قصيدة "نافذة البحر" والنصوص الفلسفية لأدونيس على الطبيعة كفضاء رمزي للتأمل الوجودي. عند النبالي يصبح البحر رمزاً للغيب والسر والخريف للفناء في لغة استعارية دقيقة وحوارية مباشرة. أما أدونيس فيستخدم الطبيعة في صور أكثر تجريداً تربط الزمن بالتاريخ والهوية. وبذلك يحقق كل منهما رؤية فلسفية مختلفة: النبالي عبر الحوار الوجودي المباشر، وأدونيس عبر التأمل الرمزي المركب.

تكشف هذه الدراسة أن "نافذة البحر" نص شعري وجودي يدمج بين جماليات اللغة وقلق الفلسفة. اعتمد الشاعر على التكرار الطقسي والاستعارة العتبية (النافذة)، ثنائية النهر/البحر  والصيغ الحوارية ليعيد إنتاج قلق الوجود بدلاً من حله.

تؤكد القراءة أن اللغة في النص عاجزة عن احتواء السر لكنها تبقى المجال الوحيد للمساءلة. وهكذا تتحول القصيدة إلى تجربة معرفية حدية، حيث يصبح الخريف والتبعثر شرطاً ضرورياً لظهور أي احتمال للمعنى، بينما يبقى البحر صامتاً كتذكير دائم بحدود الإنسان.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

........................

"نافِذَةُ البَحْر"

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

جَـاءَ الـنُّـورُ وَفَـاضَ وَبـَاحْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

كُـنْـتُ بـِنَـافِـذَةٍ، طَـلَّـتْ فَـوْقَ الـبَحْـرِ

لِـتَـنْـظُـرَ كَـيْـفَ تـَكُـونُ نـِهَـايـَةُ

هَـذَا   الكَـونْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحٍ

مَـا كَـانَ اللَّـوْنُ بـِمِـثْـلِ اللَّـونْ

وَخَـرَجْـتُ لِـنَـافِـذَتـِي

أَنـْظُـرُ هَـلْ بـَحْـرُ الأَرْضِ

يـُخَـبِّـرُ عَـنْ كُـنْـهِ المجْـهُـولْ؟!

لَـكِـنَّ الـبَحْـرَ يـَظَـلُّ يـَقُـولْ :

سِـرِّي لَـنْ يـَظْهَـرَ حَـتَّـى تـَتَـبَعْـثَـرَ كُـلُّ الأَوْرَاقِ

بـِكُـلِّ غُـصُـونِ الأَشْجَـارِ

بـِأَزْمِـنَـةِ خَـرِيـفْ..

الـبَحْـرُ يـَقُـولُ، بـِأَنَّ العَـالَـمَ

أَمْـرٌ مَـطْـوِيٌّ

مَـنْ يـَبْـحَـثُ فَـالسِّـرُّ مُـخِـيـفْ

مِـن نـَافِـذَةِ اللَّـيْـلِ

وَنـَافِـذَةِ الإِصْـبَـاحِ أُطِـلْ

وَالـنُّـورُ يـَجِـيءُ

وَحَـتَّـى الإِظْـلاَمُ يـَهِـلْ

وَأُسَـائِـلُ دَوْمًا هَـذَا الـبَحـرْ

قُـلْ لِـي عَـنْ فَـرْقٍ

بـَينَ

الموْتِ وَبَيْنَ

الـنَّحْـر؟!

قُـلْ لِي.. :

مَـا الـفَـرْقُ هُـنَـا

بـَينَ فَـنَـاءٍ

وخُـلُـودْ؟

مَـا الـفَـرْقُ،وَقَدْ فَاضَ عَلَـيَّ

بِبـَيْنِ غِـيَـابٍ

وَوُجُـودْ؟

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ كَمَيْتٍ

لَـيْـسَ يـُجِـيـبْ

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ غَـرِيـبٌ، وَمُـرِيـبٌ، وَعَجِيبْ

الـنَّـهْـرُ جَـمَـالٌ وَحَـيَـاءٌ

وَالـبَحْـرُ عَـمِـيـقُ الأَسْــرَارْ

مِـنْ نـَافِـذَةِ الـبَحْـرِ

اعْـتَـدتُ سُـؤالاً..

وَجَـوَابُ الـبَحْـرِ

يـَجِـيءُ كَـخَـوْفِ نـَهَـارْ

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ إذًا بـَينَ جَبَانٍ وسِواهُ  يَكِرْ؟

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ صَدِيقِي

بـَينَ الـحِـقْـدِ وَبَيْنَ الـبِـرْ؟

لِيـَضِـيـعَ الصَّـوْتُ.. تَلاشَى الضَّـوْءُ

فَمَاتَ  السِّــرْ

***

محمد النبالي

في المثقف اليوم