قراءات نقدية
طالب عمران: خطاب الذاكرة .. قراءة في قصة رؤيا الملك للقاص أركان القيسي
لقد امتد تيار التجريب ليشمل الرواية والقصة والقصة القصيرة والقصيرة جداً، فعلى صعيد القصة القصيرة خلقت لنفسها تميزا في الساحة الادبية، حيث حققت جماليات على مستوى البناء والفكرة حيث حاول كتابها الخروج عن المألوف والسائد وتكريس كل ما هو جديد، حيث استفاد القاص من الموروث الحكائي والانفتاح على الغرب والتعرف على تقنيات الكتابة السردية العربية والغربية ولعل أهم آليات التجريب الموظفة في القصة القصيرة على اختلاف تمثلها ودرجات وعي كتابها تتجلى في تكسير الميثاق السردي المتعارف عليه، والخروج عن نمطية بنياتها، بتغير طريقة التعامل مع مكونات الخطاب وكسر الحدود بين مختلف الاجناس الادبية، وكذلك الاجناس غير الادبية (كالموسيقى، والتراث، والتاريخ، والصحافة، والسينما، والاسطورة .. وهذا ما لمسته في القصة القصيرة (رؤيا الملك) للقاص أركان القيسي في اتباع هذه الطرق في تحقيق المغايرة واكتساب تجربته القصصية سمات الجدة وتجاوز ما هو سائد في السرد والاستفادة من امكاناتها التعبيرية وتوسيع فضاء التخييل لديها .
نسيج القص
ما يلاحظ في الوهلة الاولى كيف يبدو الاهتمام بكيفية استلهام التاريخ ابتداء من عنوان القصة القصيرة (رؤيا الملك) على اعتبار أن العنوان يمثل واجهة العمل السردي وأول عتبة نصية يقف عندها القارئ قبل الولوج الى الفضاء القصصي وما يملكه العنوان من سيادة وما له في الواقع من تأثير على أي تفسير ممكن للنص اذ يحاول الكاتب من خلاله أن يثبت في قصده بوصفه النواة التي يخيط عليها نسيج القص، فمن خلال استقراء العنوان وما يحمله من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص .
ان عنونة القصة (رؤيا الملك) يملي علينا النظر فيه والوقوف عنده وما يتضح علاقته بالتاريخ والموروث الحكائي والتناص (القص) القرآني (رؤيا الملك الفرعوني" وقال الملك اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " يوسف : 43 " ، وان هذا التقاطع بين العنوان والتاريخ الذي قد لا يظهر بشكل جلي في العنوان وانما بعد أن نقرأ استهلال النص نصل الى نتيجة هذا التقاطع :
"الرؤية هذه المرة ليست في مصر بل في بلاد أرض السواد، حيث لم ير الملك في منامه سبع بقرات سمان ولم ير السنبلات الخضر ولا اليابسات، ولم يجد كهنة آمون لتعبير رؤياه"
ومن هذا الاستهلال قد يبني القارئ من البداية ويهيئ نفسه لقراءة نص قصصي ذي صلة بالموروث الديني .
الا ان القاص حاول ان يجسد في قصته (رؤيا الملك) الواقع العراقي في فترة التسعينيات وما وقعت من احداث والظروف التي اسهمت في احداث تغيرات وحصول الانتفاضة ضد النظام الشمولي، حيث صور الكاتب الماضي القريب الواقع الاليم الذي عاشه المجتمع العراقي في تلك الحقبة وهو يستحضر الحرب، الانتفاضة والحصار / التاريخ / الذاكرة.
" رأى في المنام عاصفة تأتي من حفر الباطن تقلع الصحراء الغربية ويختنق بها أهل الوسط، والسماء تمطر نارا وعاصفة تقطع رؤوس الرجال في الجنوب !!
الاستذكار والتاريخ :
لقد جسدت القصة (رؤيا الملك) في مسار حكايتها ذاكرة المجتمع احياء لأحداث التاريخية التي عاشها الفرد العراقي، حرب حفر الباطن وما تبعها من آثار وويلات صبت على رأس المجتمع العراقي :" وما زاد الطين بلة الحاشية ورجال الدولة اتعبوا العامة من الناس
حتى يتمنى الرجل الموت، بل كان الحي يحسد من يموت في تلك السنوات العجاف.... الطفل يصارع الموت بسبب الجفاف الرجل يعمل أسبوعا من أجل أن يشتري نعله ... اشتدت الأمور على الناس من كل صوب وحدب جداول الأنهار بدأت تحتضر"
يقوم النص السردي (رؤيا الملك ) في جميع تكويناته على خطاب الذاكرة المسيطر على المادة الحكائية والذي استطاع الكاتب الانتقال بانسيابية بين الازمنة والتواريخ في الماضي القريب للواقع العراقي بالاسترجاع والاستذكار والتفكر والاستحضار والتداعي في شكل متخيل، ان استخدام الذاكرة يتطلب تدخل التاريخ لأنه المحرك الاساسي . استعان القاص القيسي بهذه الالية بغية فتح المجال أمام الانسياب عبر الازمنة المختلفة ولأجل حفظ هذه الاحداث التاريخية في الذاكرة الجماعية ." ازدادت المحنة سوءا وغلت الاسعار واصبحت الحيات جحيم واشتعلت النيران في الاسواق وعجزت المستشفيات عن المعالجة .. الناس يتقاتلون على الخبز "
لاشك ان حضور خطاب الذاكرة في النص القصصي ولجوءه الى التذكر يكون خاضعا لسطوة الذاكرة والتي يهيمن عليها الطابع الذاتي سواء كانت فردية أو جماعية فهي تتسم بالانفعالية والرمزية احيانا هو رغبة من القاص قصد التعبير عن قضايا المجتمع واسترجاع ابرز الاحداث التاريخية التي عاشها العراقيين في تلك الحقبة متأثرا بآلامه وهمومه مما يضطره الى ملء فراغاتها عن طريق التخييل الاسترجاعي كعملية ذهنية
" حتى أرسل الملك إلى ولي عهده يعاتبه على الانكسار والتخلي، ثم أبلغه وذكره هذا تفسير رؤياي من قبل لقد كذب ألخماهو ورفاقه في تفسيرها وجانبوا قول الصواب، سيستمر الجرح بالنزف."
ينقل حقيقته التاريخية المكتظة بالأحداث بأسلوب وسرد مكثف موظفا التناص والرمز .وبهذا تتجسد وظيفة الذاكرة والاستذكار في حفظ الماضي وان هذه الذاكرة التاريخية هي ذاكرة جماعية بالأساس والمنسجمة مع الذاكرة الفردية، فالذاكرة أكثر وقعا من التاريخ بالقياس الى درجة تأثيرها على عامة الناس، باعتبارها عنصرا فاعلا ومعبرا عن ظرفية تاريخية معينة .
***
طالب عمران المعموري