قراءات نقدية
عدنان عويّد: دراسة نقديّة في التجربة (الوجوديّة) لقصيدة "تفاصيلُ حب أسمر"

للشاعرة (تنسيم حومد سلطان)
تنسيم حومد سلطان، مواليد 1988، من سوريا – حلب، مارست مهنة التعلم منذ 14 عاماً ولم تزل على رأس عملها، شاركت في ما يقارب 100أمسية أدبيّة في حلب، حائزة على المركز الثاني في مسابقة اتحاد الكتاب العرب لشعر التفعيلة عن قصيدة "نزاريّة"، لها صوتها الأنثوي الخاص، تشتغل على التيار الوجودي المادي، في عالمها الأدبي.
لقد اخترت من قصائدها العديدة، قصيدة (تفاصيلُ حب أسمر)، وهي قصيدة تدخل في عالم التيار (الوجودي المادي)، (1). وهو تيار قليل من اشتغل عليه في عالم الشعر والقصة والرواية والفلسفة في عالمنا العربي. ومن أهم الأدباء العرب الذين اشتغلوا على التيار الوجودي هو "عبد الرحمن بدوي"، حيث يُعد من رواد الفلسفة الوجوديّة في العالم العربي. كما أن هناك أدباء آخرون تأثروا بالفكر الوجودي وتضمنت بعض كتاباتهم مفردات من هذا التيار الذي يعتبر (الحريّة) منطلقاً للوجود الإنساني، مثل نجيب محفوظ ومحمود المسعدي.
البنية السرديّة للقصيدة:
(الشعراء يتبعهم الغاوون... في كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون).. فكيف يكون حال الشاعر إذا هام في عالم الحب والعشق والشوق والرغبة في اللقاء؟!. نعم، هم الشعراء إذا ما حظر شيطان الشعر، تفجرت عندهم منابع العطاء الابداعي، وغالباً ما يغيب العقل عندما يكون البوح عن الحب والرغبة في لقاء الحبيب، لتحظر العاطفة بكل قوتها وجنونها، وتفجر الخوالج النفسيّة والروحيّة للشاعر فيها.. لا تحدّها حدود أو يحول دون تجليها ستار، وبالتالي ستتحطم ستائر المضمر والمحرم والمسكوت عنه.
هذا هو حال الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" التي هام الشوق ببطلة قصيدتها، فراحت في بوحها الوجودي النزعة، تسردُ كيف استطاع اللقاء مع الحبيب أن يطفئ كل نيران الشهوة روحاً وجسداً، وكأنها فنانة تشكيليّة ترسم لوحة عشق تعرف كل تفصيل تشكيلها وحركاتها، ومزج أو نسج ألوانها الساطعة منها والداكنة، الحارة منها والباردة، حيث تنقلك عقلاً وعاطفةً عبر هذه اللوحة، إلى مشهد سينمائي حسي تعيش معه حرارة اللقاء وعمق وتفاصيل مفرداته. القصيدة جريئة في بوحها، وبالتالي هذا يتطلب منا التعامل مع كل بنيتها بشفافيّة ومصداقيّة عاليتين.
تبدأ الشاعرة بوحها في كلمة (قرأت)، والقراءة هنا معرفة وحريّة معاً، وأعمق أنواع القراءة هي التي تقرأ سيمياء أو دلالات المفردات أو الأصوات والصور، إضافة إلى الوجه وتعابيره، وما تخنزن هذه السيماء من رغبة أو شوق أو حزن أو فرح... فكيف تكون دلالات هذه القراءة إذا كانت في موال شاعرة تجيد البوح والتعبير عن خوالج روحها ورغبات جسدها، أو في صوت أنثى هامها الشوق، فدعتها أنوثتها المشبعة برغبة اللقاء المحرّم، وقد جعل منها الشوق والرغبة طفلة تتلوى مثل داليةٍ، نالها عطش الروح والجسد، وهي بحاجة لمن يروي عطشها، فوجدت هناك في لقاء حبيها (الخطر- المحرم)، بقعة ضوء تحقق رغبتها العارمة في قطف أنفاس عشيقها.
قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ
في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ
في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ
في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ
بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها
على جناح براقٍ أسمه الخطرُ
تناجي حبيبها، الذي تعتقد أنه خلق لها، منذ بدء الكون، وعبر كل أزمنته السحيقة، حيث كانت الأشواق له تتشكل عندها حتى اختمرت، ومع اختمارها ضاعت كل قدرات مفردات اللغة في التعبير عن عمق وحرارة وصف حبيبها.. بل إن عمق شوقها له جعلها ترى في عينيه الحقول كلها قد ازدهرت بالخصب.
كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ
سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،
أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ
تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ
مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ
كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ
عندما تم اللقاء أخيراً بينها وبين حبيبها الذي خلق لها، أصبح جسمها بين يديّه أغنيةَ شوقٍ وعشقٍ تجاوز المألوف في تأثيره، فلم يعزف لها وتر من قبل، فراحت تحرك كوامن الروح والجسد عندها معاً لعذوبتها... هنا عند اللقاء لم تحرجها أنوثتها من دعوة ثغره لتقبيلها وسقيها عطش الروح والجسد الذين استسلما أخيرا لعالم الشهوة والرغبة العارمة.
وصار جسمي على كفيك أغنيةً
تدور في البالِ
غنى لحنَها وترُ
دعوتُ ثغركَ في لقيايَ
من عطشٍ
فاستسلمَ الجسمُ
وانحازتْ له النذرُ
مع العناق والتحام الجسدين، راحت أنوثتها تئن وتصرخ من طغيان ثورة الجسد، فعاشت عالم الرغبة والشهوة بكل (معاجمها).. وهنا تشبه العاشقة نفسها بمريم العذراء، ولكن النخلة غير النخلة، والثمر غير الثمر.. فتحت شجرة عاشقة (تنسيم)، استيقظ الشرر، ولم يعد الخوف له حضوره فكل شيء أصبح مباحاً، فهذا الثغر الذي عانت شفتاه عطشُ الروح والجسد، عاد ليرتوي من وصل اللقاء، حتى أصبح هذا الوصل كأنه الوحي وأنات الشهوة عندهما السور.
أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها
كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ
وأشعلتْ مريمُ العذراءُ
ضِحْكَتَها
مِن تحتِ نخلتَها
واستيقظَ الشررُ
تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،
تصرعهُ
وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ
على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ
نلفظُهُ
كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا
السورُ
مع لقاء الشفاه، بدأت تشعر عاشقة (تنسيم) بأن أسراب أنفاس حبيبها، راحت تتهاوى على عنقها، فاستفزت دمها، وأخذت قبلاته على جيدها تشعل نيران جسدها، بينما أكفه التي راحت تداعب تضاريس جسدها، أخذت تعتصر خمر كل تلك التضاريس، في الوقت الذي أفاض لقاء الجسدين ينابيع الماء من مسامات جسديهما كأنه غيمة عشق هطلت مطراً يروي عطش الروح والجسد معا. أما نهديها اللتان فاضت بهما النشوة العارمة، فقد انتصبتا بهمس وحفيف النشوة وتباعد ما بينهما كأنه بوابة قد أزاحت كل كبت وعطش تلك السنين العجاف... في ذروة نشوة اللقاء، تهمس عاشقة (تنسيم) لعشيقها عند ارتعاشة الروح والجسد:
أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي
فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ
فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ
إذْ طلعت،
وفي رُبا كفهِ الأعنابُ
تُعْتَصرُ
والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي
والغيمُ من قبضَتي يروي
ويَنحدرُ
كأن نهديَ باب الزيحِ
مفتتحٌ
بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ
أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ
مُعجزتي
ينشقُ – إذا ما اقتربنا-
ذلك القمرُ.
البنية الفنيّة للقصيدة:
يقال: (أكذب الشعر أعذبه)، وأنا أقول: إن أجرأ الشعر أصدقه، خاصة إذا كان الشعر يتعلق بعواف الإنسان ومشاعره وأحاسيسه، وهذا الصدق تجلى واضحاً في قصيدة "تنسيم حومد سلطان" (تفاصيل حب أسمر)، لما امتازت به الشاعرة من جرأة في التعبير عن عمق عواطفها، في هذه القصيدة دون خوف أو وجل.
إن التجربة الشعريّة في جوهرها تقوم على الفرادة الذاتية، التي تتيح للشاعر أن يقول: أريد أن أبدع شيئا لم يبدعه أحد غيري، الأمر الذي يجعل هذه التجربة تتماهى أو تتداخل بكل عناصرها في عمليّة الخلق الشعري الابداعي الى درجة يصعب فيها على الناقد أن يخرج من دائرة هذا الإبداع، لذلك هو يسعى جاهداً أن يحدد ماهيّة هذه العمليّة الابداعيّة من خلال فكرة العمل الابداعي ذاته، وما استبطن هذا العمل من عاطفة، ووعي، وخيال، ووهم وواقع، وذاكرة، وحرية.
أولاً اّلصّورة اّلشّعريّة في القصيدة:
تعتبر الصّورة الشّعريّة من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة والجماليّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ . ومالا شكّ فيه أنها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة، الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، إذ تمثّل مواقف الشّاعر الذّاتيّة.
فالصورة الشعريّة بتعبير آخر، تحتل أهميّهً كبيرةً في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه، هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جماليّة البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي التي يقوم عليها العمل الأدبي بشكل عام والشعري منه بشكل خاص، لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان عموماً، والأهم أنها تعبر عن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها.
نعم.. إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يُمكّن الشاعر من تصوير معنى عقلي وعاطفي، أو واقعي أو مجازي متخيل، فالصورة الشعريّة غالباً ما تكون متخيلة، بيد أن الشاعر المبدع يستطيع أن يشكل من دلالات الصورة المتخيلة، واقعا حسيّاً يشعر به المتلقي أو يحس بوجوده، ويتمتع بجماليّة الصورة، وينفعل معها عبر التجسيد والتجريد والمشابهة.
وكل هذه الفنيات المتمثلة في الصورة ودورها، استطاعت الشاعرة" تنسيم" أن تجسدها في قصيدتها التي استطاعت حقيقة عبر صورها بكل تجلياتها المتخيلة والحسيّة منها، أن تنقل المتلقي إلى عوالم الروح والجسد واللهفة والشهوة التي تجلت في قصيدة (تفاصيل حب أسمر).
(مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ.. أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ.. أسرابُ أنفاسِهِ تهوي على عُنقي فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ.. فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ إذْ طلعت، وفي رُبا كفهِ الأعنابُ تُعْتَصرُ.. ).
هكذا نجد "تنسيم" ترسم بالصورة كل ما تحس أو أحست به في لقاء الحبيب، لقد استطاعت أن تجعل المتلقي يتابع ليس ما تبوح به أو تصفه من عواطف ومشاعر وأحاسيس في حالة اللقاء، فحسب، بل نقلته إلى العيش مع كل أحاسيسها وعواطفها وحركاتها وسكناتها وأنينها وكأنه جزء من مشهد اللقاء ذاته.
لقد امتازت الصورة الشعريّة عند الشاعرة "تنسيم" بالتطابق بين المتخيل والواقع، فصدق الصورة لا يحققه المتخيل وحده وإنما مدى قدرتها على مطابقة الواقع، بحيث شكلت كل الصور في بنيه القصيدة انسجاماً تاما بين أفكار القصيدة وتلازماً مع مشاعر وأحاسيس الشاعرة. كما امتازت أخيراً بالشعور والحيويّة، فحيويّة الصورة في القصيدة استطاعت أن تنقل المتلقي إلى عالم حدثها ليشارك الحدث وكأنه جزء منه.
اللغة في القصيدة والمحسنات البديعية والبيانيّة:
تمثل اللغة آليّة استراتيجيّة هامة في البناء الشعري فهي كما يقول أحد النقاد (هي السفينة التي تنقل الشاعر والمتلقي معاً إلى آفاق المجهول، من أجل الكشف عن الرؤى الهاربة في المتاهات السريّة البعيدة،) وهذا ما يدفع المتلقي إذا كانت اللغة واضحة وشفافة إلى عيش عالم القصيدة والتفاعل معها.
لقد استطاعت الشاعرة " تنسيم" أن تكسر في لغتها منطق العلاقات المألوفة، وتنحرف عن المألوف في بحثها الدائم عن الخلود والتجدد، وهذا ما وجدنا في قصيدة (تفاصيل حب أسمر). ولأن اللغة هي ماء القصيدة وتربتها الخصبة، فقد عملت الشاعرة على صياغة لغة جديدة حيويّة بسيطة في نسيجها ونظام مفرداتها وصورها وحيويتها وعلاقتها بأحاسيس الشاعرة ومخيلتها ورؤاها.
أما على مستوى المحسنات البديعة والبيانيّة في القصيدة، فالقصيدة تراكمت فيه الانزياحات، والاستعارة، والكناية، والتشبيه، إضافة إلى ارتفاع نسبة الكثافة في التّخييل، والترابط في نسيج النص، فكل ذلك خلق درجة عالية من الانسجام في بنية القصيدة وعالمها الفكري والدلالي. مع تأكيدنا دائما بأن الإكثار من الانزياحات والتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها من مفردات علم البيان في بنية أي نص، يحول كل ذلك إلى حرفة عند الشاعر في صياغة نصه، في الوقت الذي هي فيه حالة جماليّة تضفي على النص رونقاً وموسيقى هادئة تحرك إحساس المتلقي وخلجات نفسه. وهذا ما تحقق فعلاً في بنية قصدية (تفاصيل حب أسمر).
التعبير والعبور عند الشاعرة:
"التّعبير" و"العبور":
إذا كان (التّعبير) في الشعر يتمّ في يقظة الحواسّ، نتيجة لاستحضار الموجودات بهذه الحواس ذاتها، فإن (العبور) يتمّ بالرؤيا المجرّدة والتخيل، من هنا فـ (التّعبير) يقتضي يقظة الحواس، وعند غياب هذه اليقظة، يتمّ (العبور) عبر التّخيُّل والرّؤيا المجرّدة، وهذا العبور تجسد في بنية القصيدة كلها، فمعظم الصور التي تراكمت في النص كانت متخيلة، إلا أن طبيعة حدث القصيدة وقدرة الشاعرة وإبداعها، تحول هذا المتخيل إلى تجسيد حسي كأنه مشهد سينمائي كما بينا في موقف سابق.
المستوى الايقاعي في القصيدة:
إنّ الشّعر صيغة موسيقيّة، فليس الشّعر في الحقيقة إلّا كلامًا مموسقاً، تنفعل لموسيقاه النّفوس، وتتأثّر به القلوب. وإلى هذا ترتكز أهمّيّة الموسيقا في الشّعر، فهي تستطيع أن تُقيم بناءً مُتكاملًاً يجمع بين التّأليف القائم في أعماق أحاسيس الشّاعر، وبين غيره من المُتلقّين، في قدرة فنّيّة تجعل إيقاعات النّفس تجذب الآخرين، بواسطة هذا النّغم الشّعريّ.
ويظهر المستوى الايقاعي في اتجاهين هما:
المستوى الخارجي ويشمل الوزن:
أي بحور الشعر وأوزانها التي يستخدمها الشعراء. وهو – أي المستوى الخارجي - عنصر مهم من عناصر القصيدة، ولا يمكن فصلُه عن سواه من مُكوّناتها، وليس الوزن مُجرّد تفعيلات مُنفصلة عن المعنى، تُلقّن وتُحفظ، ولكنّه لصيق بالمعنى وغير مُنفصل عنه، ويساعد على تأكيد المعنى، وتثبيته في الذّهن، وصونه من الضّياع. وإضافة إلى الوزن تأتي القافية: وّهي أصوات تتكون في أواخر الأشطر أو الأبيات من القصيدة، تكوّن عبر تكرارها في مدّد زمنيّة منتظمة رتماً موسيقيّاً خاصاً في القصيدة.
أما المستوى الداخلي للموسيقى:
ويدخل فيها المحسنات البديعيّة والبيانيّة كالجناس والطباق، وسائر المُحسّنات البديعية، مع تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.
إن كل هذه الفواعل الموسيقيّة في القصيدة استطاعت الشاعرة "تنسيم حومد سلطان" أن تحققها في قصيدتها (تفاصيل حب أسمر). فاختيارها للبحر "البسيط" الذي يمتاز بانسيابيّة وزنه، إضافة لجماليّة تفعيلاته الموسيقيّة الفريدة "مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن"إذ تمنحه إيقاعاً منتظماً ومرناً. وبعداً جماليّاً، حيث يتناسب هذا البحر مع مختلف الأغراض الشعريّة، وخاصة الغزل والوصف والحماسة والرثاء، مما يجعله خياراً شائعاً بين الشعراء. أما القافية فقد اتكأت القصيدة على حرف (الراء)، ويتميز هذا الحرف بأهميّة جماليّة كبيرة أيضاً، فهو يضفي على القصيدة إيقاعاً مميزاً وتأثيراً صوتيّاً لافتاً. ويُعتبر، حرف الراء من الحروف الجهوريّة، أي التي تتميز بصوت قوي وواضح، وتكراره في القافية يولد إيقاعاً تردديّاً يتماهى مع المعنى الذي يعبر عنه الشاعر.
أما على مستوى الرتم الموسيقي الداخلي، فقد جاءت القصيدة مشبعة بالمحسنات البيانيّة،إن كان على مستوى التشبيه والكناية والاستعارة، أو على مستوى تركيب الكلام وتتريب الكلمات وتّخيّرها، أو على مستوى "النسيب" الذي تجلى في القصيدة بكثرة الأدلة مشيراً إلى التهالك في الصبابة، والافراط في الوجد واللوعة والتصابي والرقة. وكلّ ما من شأنه أن يُعين على تجويد البنية، والرّنين في أبيات القصيدة.
قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ
في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ
في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ
في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ
بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها
على جناح براقٍ أسمه الخطرُ.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا
......................
1- الفلسفة الوجوديّة الماديّة: تيار فلسفي يميل في جوهره إلى الحريّة التامة، غير المشروطة بأيّة مسؤوليّة، أو أيّة قيود في التفكير والممارسة. وهي تؤكد على تفرد الإنسان، كونه صاحب تفكير حرٍ وإرادةٍ حرّة واختيارٍ لا يحتاج إلى موجه. وبالتالي على الإنسان في المذهب أو التيار الوجودي، أن يتخلص من كل موروث عقدي، أو أخلاقي يؤثر على رغباته وطموحاته الذاتيّة، كي يمارس حياته بحريّة مطلقة دون أي قيد. والوجوديّة تعني من اتجاه آخر، أن وجود الإنسان الفرد يسبق ماهيته الإنسانيّة كمجموع أو ككتلة اجتماعيّة مهما كانت مرجعياتها دينيّة أو عرقيّة أو سياسيّة.. الخ، فماهية الكائن الفرد هي ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً، ثم تتحدد ما هيته ابتداء من وجوده. ولكن هذا التأكيد في الوجوديّة ليس أكثر من دعوة خادعة، كي يجد الإنسان نفسه أو يؤكد وجوده. ولكي يجد أو يؤكد الإنسان نفسه في الفهم الوجودي، عليه أن يتحلل من القيم، وينطلق لتحقيق رغباته وشهواته بلا قيد. وعلى هذا الأساس، يبدأ فهم معنى الوجود عبر الدخول بالتجربة الوجوديّة الفرديّة الداخليّة القائمة على التخيل والأحاسيس الداخليّة المشبعة بعواطف ورغبات بحت ذاتيّه، لذلك فالفرد الوجودي يقوم بمعايشة الواقع وجدانيّا أكثر من معايشته عقليّا، ومن خلال هذه المعايشة مع الواقع للذات المقهورة والمشيئة والمستلبة أصلاً، يبرز عنده اكتشاف المعاني الأساسيّة في الوجود الإنساني، وهي معانٍ تمثل: العدم، والفناء، والموت، والخطيئة، واليأس، والعبثية، والعنف، ثم القلق الوجودي. إنها بتعبير آخر، فلسفة العدم.
راجع دراستنا (الفلسفة الوجودية. د. عدنان عويّد) على العديد من المواقع الالكترونية. مثل: موقع تللسقف – صحيفة الثورة السوريّة – صحيفة المثقف – وساحة التحرير.. وغيرها.
.........................
(تفاصيلُ حب أسمر)
تنسيم حومد سلطان
قرأتُ وجهك في موالِ شاعرةٍ
في صوت أنثى دعاها المنبرُ الوعرُ
في طفلةٍ تتلوى مثل داليةٍ
في كل بقعةِ ضوءِ خانها المطرُ
بيني وجلدكَ أنفاسٌ سأقطُفها
على جناح براقٍ أسمه الخطرُ
كأني منك بدءُ الكون َأزمنةٌ
سحيقةٌ في مدى الأشواقَ تختمرُ،
أحتارُ في لغتي، أرنو ولا لغةٌ
تجيدُ وصفك ... لا يعلو لها خبرُ
مددت ظلكَ في عينيّ فانبجستْ
كلَ الحقولِ، رؤىً بالخصب تزدهرُ
وصار جسمي على كفيك أغنيةً
تدور في البالِ
غنى لحنَها وترُ
دعوتُ ثغركَ في لقيايَ
من عطشٍ
فاستسلمَ الجسمُ
وانحازتْ له النذرُ
أنوثة صرخت، تسري مَعاجِمها
كأنهرٍ سبعٍة من حولها سدرُ
وأشعلتْ مريمُ العذراءُ
ضِحْكَتَها
مِن تحتِ نخلتَها
واستيقظَ الشررُ
تهزَّ رمحاً إلى التِنِّين،
تصرعهُ
وتفتحُ الثغرَ، عُد للماءِ يا نهرُ
على الشِّفاهِ دعاه الوصلُ
نلفظُهُ
كأنهُ الوحيُ أو أنَّاتنا
السورُ
أسرابُ أنفاسِه تهوي على عُنقي
فتستفزُ دمي، والنارُ تنتشرُ
فالجيدُ مني صلاةُ الضوءِ
إذْ طلعت،
وفي رُبا كفهِ الأعنابُ
تُعْتَصرُ
والماءُ من نَبعه يطفو على جَسدي
والغيمُ من قبضَتي يروي
ويَنحدرُ
كأن نهديَ باب الزيحِ
مفتتحٌ
بهمسِ أنثى يناغي بوحَهَا السَّحرُ
أنا الحَريقُ وأنتَ الماءُ
مُعجزتي
ينشقُ – إذا ما اقتربنا-
ذلك القمرُ.
***
القصيدة على البحر البسيط