قراءات نقدية
محمد صبي: شكوى الماء في وجدان السماوي

قراءة فلسفية في قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه" للشاعر يحيى السماوي.. وفق قراءة رمزية فلسفية مفاهيمية بمنهج صبَيٍّ متأمل.
حين أقرأ يحيى السماوي، لا أقرأ شاعرًا، بل أستشعر كيانًا يتجاوز اللغة إلى جوهرها، ويجعل من القصيدة كائنًا حيًا يتنفس الرمز، ويُفكر بالفلسفة، ويُحاور الوجود. لا يكتب ليصف، بل ليكشف، لا ليُدهش، بل ليُطهّر. في نصه، لا شيء يُقال كما هو، بل كل شيء يُحيل إلى ما وراءه، إلى ما لا يُقال.
القصيدة عنده ليست بناءً لغويًا، بل بنية رمزية مشدودة، تتقاطع فيها الذات مع الكون، ويتحوّل فيها الخيال إلى وسيلة إدراك، لا إلى زينة. كل بيت هو عتبة، كل صورة هي سؤال، كل استعارة هي محاولة لفهم ما لا يُفهم. السماوي لا يكتب من خارج التجربة، بل من قلبها. يجعل من الألم معنى، ومن المعنى خلاصًا، ومن الرمز وطنًا. قصيدته لا تُقرأ، بل تُعاش، تُحس، وتُفكك كما يُفكك الحلم حين يستيقظ العقل على حقيقته. هكذا يتجلّى الشعر عنده: فعل وجود، لا ترفًا؛ كشف، لا زخرفًا؛ خيالًا، لا هروبًا؛ رمزيةً، لا زخرفة. إنه لا يصف العالم، بل يعيد خلقه، لا يهرب من الجرح، بل يسكنه، ويجعل من القصيدة مرآةً للذات حين تتأمل الكون، وتعيد ترتيب الفوضى بلغة لا تُشبه إلا نفسها.
سرد قصصي رمزي مستلهم من قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه"
لم يكن الماء كما نعرفه.
كان يسير في عروقي، لكنه لا يُرويني.
كنت أشرب، وأشرب، وأشرب، لكن العطش كان يسكن في مكانٍ لا تصل إليه الكؤوس.
سألتُ النهر: لماذا لا تُطفئني؟
فبكى، وقال: منذ مُنِع الحسين، وأنا عطشان.
نظرتُ إلى الغيم، فوجدته يمرّ كئيبًا، لا يُلقي السلام.
الأشجار كانت تُنبت أوراقًا تُشبه الأكفان، والإنسان كان يمشي كأنه يبحث عن شيءٍ ضائع منذ ألف عام.
كل شيء كان يبكي، حتى قبل أن نفتح أعيننا.
الدموع كانت تسبقنا، لأن الحسين لم يكن فقط جسدًا، بل كان عينًا ترى، وهدىً يُهتدى به، وحقًا يُحيا به، وإيمانًا يُصلى به.
رأيت الفرات، ذلك النهر الذي يُغني للحياة، يُلطِم ضفافه، ويجلد نخيله.
الغدران الصغيرة كانت تشقّ زيقها، كما تفعل النساء في المجالس، وكأنها تقول: نحن شهدنا، ولم نمنع.
ثم رأيت رجلاً، لا يُشبه الرجال.
كان يحمل سيفًا، لكن السيف لم يكن للقتل، بل للعدل.
قالوا لي: هذا علي.
ثم رأيت فتىً، لا يُشبه الفتيان.
كان يمشي كأنه لا يمشي، كأن الأرض تُفسح له الطريق.
قالوا لي: هذا الحسين.
ثم رأيت امرأة، وجهها يُشبه الدعاء.
قالوا لي: هذه فاطمة.
ثم رأيت أخًا، عينه تُشبه الوعد، وسيفه لا يُشهر إلا إذا بكى القلب.
قالوا لي: هذا العباس.
كلهم كانوا نورًا، لكن الحسين كان الشمس.
كان لسان الجهاد، لا سيفه فقط.
كان إمام الصراط، لا سالكه فقط.
كان قلب العطاء، وشريانه، ونبضه.
سألت نفسي: لماذا أشعر أنني أبحث عن شيءٍ لا أعرفه؟
فأجابني صوتٌ في داخلي: لأنك تبحث عن الحسين.
ثم رأيت الطوفان.
لم يكن ماءً، بل كان خنوعًا، وكان دخانًا، وكان جمرًا.
رأيت الصحراء تُصبح بحرًا، لكن ماؤها يُحرق، وموجها يُخنق.
سألت: أين نوح؟
قالوا: جاء، لكنه لم يجد بستانًا.
رأيت الأرض تنكمش، والمدى يهرب، والطوفان يستبدّ.
رأيت الناس يُصلّون، لكن لا أحد يسمع الأذان.
رأيت الجيوش تتكاثر، لكن لا أحد يُجير المستجير.
ثم رأيتني، صغيرًا، أقول للحسين:
أنا لم أشهدك، لكني أعيشك.
أنا لم أرك، لكني أراك في كل شيء فقد معناه.
أنا عطشان، لا للماء، بل لك.
وعاهدته، كما يعاهد الطفل أمه حين يخاف:
أن أبقى قائمًا، ما دام فينا للصلاة أذان.
القصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه"
تمثل نصًا شعائريًا احتجاجيًا، يتجاوز البنية الشعرية التقليدية ليصبح خطابًا كونيًا، يتداخل فيه النحو مع الرمز، والعروض مع الفلسفة، والبلاغة مع الوجدان. من الناحية النحوية، جاءت الأبيات الثلاثون سليمة في تركيبها، خالية من الأخطاء الإعرابية، ومتنوعة في أساليبها بين الجمل الاسمية والفعلية، والنداء، والاستفهام، والشرط، مما يُضفي على النص طابعًا حيًا ومتعدد الطبقات. الجمل الاسمية تُستخدم لتثبيت المعاني الكبرى، مثل "الماءُ عطشانُ"، حيث يُشخص الماء ليصبح كائنًا حيًا يفتقد الحسين، في حين تُستخدم الجمل الفعلية لإظهار الحركة والاحتجاج، كما في "أرخصتَ نبضَكَ"، التي تُظهر الفعل الحسيني بوصفه تضحية واعية.
القصيدة مبنية على بحر الكامل، بتفعيلاته الثلاثية المتكررة "متفاعلن متفاعلن متفاعلن"، دون خروج أو زحافات مؤثرة، مما يُعطيها إيقاعًا قويًا يتناسب مع طبيعة الحزن الحسيني. القافية النونية الموحدة تُضفي طابعًا شعائريًا، وتُرسّخ المعنى في الوجدان، مع بعض الخروج الفني في بعض الأبيات لخدمة الدلالة، دون أن يُخل ذلك بالاتساق العام.
من حيث الرمزية، تتجلى في كل بيت تقريبًا. الماء، الغيم، الأشجار، الإنسان، كلها رموز لكائنات فقدت معناها بفقد الحسين. الفرات يلطُم نفسه، والنخيل يشق زيقه، في صور تُجسد الطبيعة بوصفها شاهدة على الجريمة. الحسين يُقدَّم لا بوصفه فردًا، بل بوصفه امتدادًا لعلي وفاطمة والعباس، حيث يُعاد تعريف النسب النبوي بأنه وراثة للمبدأ، لا للدم فقط. السيف، الفتى، الأم، الأخ، كلها رموز تُعيد بناء الهوية الحسينية بوصفها هوية أخلاقية كونية.
القصيدة تُعيد تعريف الزمن، حيث يصبح الصبح داجيًا، والليل هوانًا، والصحراء بحرًا ماؤه جمر، والموج دخان. هذه الصور تُجسد انقلابًا وجوديًا، حيث لم يعد للزمن معنى، لأن الحسين غائب. نوح لا يجد بستانًا، والأرض أبعد ما تكون عن المدى، والطوفان استبدّ بموجه، في صور تُظهر أن النجاة مستحيلة في غياب المبدأ.
في القسم الأخير، يُعاد بناء العهد، لا بوصفه وعدًا شخصيًا، بل بوصفه التزامًا كونيًا، يُربط بالأذان، أي بالوعي، وبالصلاة، أي بالاتصال بالحق. الحسين هنا ليس شهيدًا فقط، بل هو معيار للزمن، ومبدأ للعدالة، ونقطة التقاء بين الدين والتاريخ والوجدان.
القصيدة في مجملها تُجسد خطابًا فلسفيًا رمزيًا، يُعيد تعريف الحسين بوصفه مبدأ كونيًا، ويُعيد تعريف الأمة بوصفها كائنًا حيًا فقد قلبه، ويُعيد تعريف اللغة بوصفها وسيلة للحداد والاحتجاج والرجاء. كل بيت فيها يُمثل طبقة من المعنى، وكل تركيب نحوي يُخدم دلالة رمزية، وكل صورة تُحيل إلى فكرة وجودية، وكل قافية تُرسّخ الحزن في الوجدان الجمعي.
اخوتي اخواتي..
هذا النص لا يُقرأ فقط، بل يُتأمل، ويُبكى عليه، ويُعاد ترتيله كما تُرتل الزيارات، لأنه ليس قصيدة، بل مرآة للضمير.
***
بقلم: د. محمد صبي الخالدي - الكوفة
٣ / ٨ / ٢٠٢٥
........................
شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه
الـمـاءُ مـنـذُ مُـنِـعْـتَـهُ عـطـشـانُ ..
والـغَـيـمُ والأشـجـارُ والإنـسـانُ ..
*
والـبـاكـيـاتُ عـلـيـكَ قـبـلَ عـيـونـنـا
مُـقـلُ الـهـدى والـحـقُّ والإيــمــانُ
*
لَـطَـمَ الـفـراتُ ضـفـافَـهُ ونـخـيـلَـهُ
حُـزنـًا وشَـقَّـتْ زِيـقَـهـا الـغـدرانُ
*
يا ابـنَ الـذي لا سـيـفَ إلآ سـيـفُـهُ
وفـتـىً ولـيـسَ كـمِـثـلـهِ الـفـتـيـانُ
*
وابـنَ الـتـي تُـعـنـى إذا قـال امـرؤٌ :
خـيـرُ الــنـسـاءِ ولـلـتـقـى عـنـوانُ
*
وأخَ الـذي مـا سَـلَّ َ سـيـفَ عَـزيـمـةٍ
إلآ تَــســاقَـطَ حـولَــهُ الــفــرسـانُ
*
أرخَصـتَ نـبضَـكَ للحنيفِ فـأرخَصَتْ
لــكَ نـبـضـهـا وخـلـودَهـا الأزمـانُ
*
فـلأنـتَ مـن فـجـرِ الـشـهـادةِ شـمـسُها
ولأنــتَ مـن ثــغــرِ الـجـهـادِ لِــســانُ
*
ولأنـتَ مـن دِيـنِ الـصــراطِ إمـامُـهُ
ومـن الـعـطـاءِ الـقـلـبُ والــشــريـانُ
*
مـولايَ لـي عـذري فـبـعـضُ تـسـاؤلٍ
فـيـهِ الـجـوابُ إذا اشـتـكـى الـحَـيـرانُ
*
جـاز الـزُّبـى زبَـدُ الـخـنـوعِ فـصـبـحُـنـا
داجٍ ... وأمّــا لــيــلُـــنــــا فــهَــوانُ
*
صَــحـراؤنـا بـحـرٌ ... ولـكـنْ مــاؤُهُ
جَـمــرٌ ... وأمّـا مـوجُـهُ فــدُخــانُ
*
مـن أيـنَ يـأتـي بـالـسـفـيـنـةِ مُـنـقِـذًا
" نـوحٌ " ولـيـس بـأرضِـنـا بُـسـتـانُ؟
*
الأرضُ أبـعَـدُ ما تـكـونُ عـن المدى
وقـد اســتـبــدَّ بـمـوجِـهِ الـطـوفـانُ
*
زمَـنُ ولا كـالـجـاهـلـيَّـةِ .. قُـدِّسَـتْ
فـيـهِ الـعـروشُ وسُــيِّـسَ الـقـرآنُ
*
زمَـنٌ تـصـهـيـنَ فـيـهِ بـعـضُ أرومـتـي
وأُعِــيـدَتِ الأصــنــامُ والأوثــانُ
*
كـم مـن مـؤدٍّ لـلــصــلاةِ وصــائِــمٍ
جَـهــرًا ولـكــنْ رَبُّـهُ الـشـيــطــانُ
*
بـلـغـوا الــتـمـامَ مـن الـفـسـادِ كـأنـمـا
فـيـهـمِ عـلـى شَــرِّ الـخـطـى إدمـانُ
*
شَـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـدَ حُـزنُـهُ
وتـأبَّـدتْ فـي قــومِـهِ الأحــزانُ
*
مـولايَ أشـكـوهـم إلـيـكَ وأشـتـكـي
قـومـي ومـا قـد أضـمَـرَ الـجـيـرانُ
*
ثُـكِـلـتْ عـروبـةُ أمَّـتـي وتـأرمَـلـتْ
فـيـنـا الـسـيـوفُ ودُجِّــنَ الـشـجـعـانُ
*
كُـنّـا نُـجـيـرُالـمُـسـتجيـرَ إذا اشـتـكى
ظُــلــمًــا وطـالَ بــلادَهُ الــعــدوانُ
*
والـيـومَ صِـرنـا نـسـتـجيـرُ ولا فـتـىً
لـو تـسـتـغـيـثُ " سًـعـادُ " أو " نـجـوانُ "
*
لَـيـكـادُ يـخـجَـلُ أمـسُـنـا مـن يـومِـنـا
وتــفــرُّ مـن أحــداقِــنــا الأجـفـانُ
*
لِـمَـنِ الـجـيـوشُ تـنـاسـلـتْ حـتـى لـقـدْ
ضـاقـتْ بـهـا الـثـكـنـاتُ والــمــيـدانُ ؟
*
لا " مازنٌ " مَـدَّتْ لِـ " غـزّـ ةَ " سـاعِـدًا
فـتُـغـيـثُ مـظـلـومــًا .. ولا " ذُبــيــانُ "
*
عـذرًا أبـا الأحــرارِ مـن جـزَعـي فـلا
" قـحـطـانُ " مُـنـصِـفــةٌ ولا " عـدنـانُ "
*
بـئـسَ الـمـصـيـرُ إذا يـسـيـرُ بـركـبـنـا
نـحـو الأمــانِ الـقـادةُ الــعــمــيــانُ
*
فـعـسـى حـفـيـدًا مـنـكَ يـأتـي فـي غـدٍ
بالعـدلِ حـتـى يـسـتـوي الـمـيـزانُ
*
عـهـدًا أبـا الأحـرارِ تـبـقـى قــائِـمًـا
مـا قــامَ فــيــنــا لــلــصــلاةِ أذانُ
***
يحيى السماوي