قراءات نقدية
بهيج حسن مسعود: قراءة في قصيدة كوثر الضاد للشاعرة سميرة الزغدودي

كوثرُ الضّااادِ
طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ
كي تُمزَجَ الأضدادُ بالأضدادِ
منّي استقى العشّاقُ كوثرَ صفوهِ
والحرفُ أجهض خسّة الحسّادِ
من غيمتي أمطرتُ حتّى أنتجتْ
في الكفّ سُنبلتي حبوبَ حصادِي
من غيمتي انهمرت عِذاب مشاعري
وسقيتكم من منبعِ الأجوادِ
فالعشقُ مثلُ الشّعرِ يصطحبان في
صدري سُلافَ النّبضِ للأكبادِ
الشّعرُ يكتبُني ويكتبُ قصّتي
ولسوفَ يُـهدي الذُّخرَ للأحفادِ
منّي تُرفرفُ رايةُ المعنى كمَا
في الأوجِ تعلُو رايةُ الأمجادِ
في حضرةِ الإحساسِ أمنحُ خافقي
لغةً تُرتّلُ أفضلَ الأورادِ
ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ هدايةً
فالنّورُ منك يزيدُ لي من زادِي
ربّاااهُ هبْ لي من لدُنْكَ رعايةً
في العيشِ تحرُسُني من الأحقادِ
***
الشّاعرة سميرة الزّغدودي - تونس
تقديم:
درست في القيروان التونسية وتخرجت سنة 1990، أستاذة في التعليم، شاعرة معاصرة من مدينة القيروان، تُوقّع قصائدها بـ"فتاة القيروان"، مما يشير إلى ارتباطها بتراث هذه المدينة التاريخية وإرثها الثقافي. رغم عدم توفر تفاصيل كثيرة عن مسيرتها المهنية والشعرية، إلا أن قصيدتها "كوثرُ الضّااادِ" تكشف عن عمق لغوي واهتمام بالهوية العربية، خاصة عبر رمزية "حرف الضاد" الذي يجسّد خصوصية اللغة العربية. يُستشف من شعرها ميلٌ إلى المزج بين الرومانسية والصوفية، مع تركيز على دور الشعر كحافظ للتراث وناقل للأفكار بين الأجيال.
ملخص القصيدة: رحلة العطاء والهوية
تتخذ القصيدة مساراً تأملياً يجسد "كوثر" (أو الكوثر) كمصدر للإلهام والعطاء. تبدأ باستحضار حرف الضاد كرمز للهوية العربية، ثم تتحول إلى استعارة "الكوثر" (النهر الجاري في الجنة) لتمثيل فيض المشاعر والإبداع. تروي الشاعرة كيف يُخصب عطاؤها الفكري (المُمثل بالغيوم والمطر) إنجازاتها (السنابل والحصاد)، وتؤكد أن العشق والشعر قوتان متلازمتان تُخلّدان تجربتها الإنسانية. تختم القصيدة بدعاء يطلب الحماية من الحقد والهداية الروحية، مؤكدةً دور الشعر كـ"ذخرٍ للأحفاد".
قراءة أدبية
من السطر الأول: كوثرُ الضّااادِ تُقدّم الشاعرة ثنائيةً دلالية بين الكوثر الفيض والضاد الهوية، مُستندةً إلى الإطالة الصوتية "الضّااادِ" لتعظيم الرمز. يظهر هنا تداخل الأنواع الأدبية بين الشعر الصوفي والرومانسي، وهو سمة للأدب العربي الحديث.
في السطر الثاني: طلٌّ تروّى منهُ حرفُ الضّادِ تُبرز الصورة البيانية _حرف الضاد_ ككائن حي يُروى، مما يعكس مفهوم تشعير النثر أو تحويل اللغة إلى كيان حيوي.
السطور 3-4: "كي تُمزَجَ الأضدادُ.../... خسّة الحسّادِ" تُعيد صياغة التناقض البشري (الحب/الحسد) عبر جناس "الأضداد/الحسّاد"، وتستوحي منحىً صوفياً في قبول التناقضات كجزء من الوجود.
السطور 5-8: "من غيمتي.../... للأكبادِ" تُجسّد عملية الإبداع كدورة زراعية (غيم > مطر > سنابل> حصاد)، مستخدمةً استعارة مستفيضة تستدعي فيها أسلوب تحويل الصورة الشعرية إلى عالم ميتافيزيقي.
السطور 9-12: "الشّعرُ يكتبُني.../... أفضلَ الأورادِ" تنقلب العلاقة بين الشاعر والشعر: فالشعر هو الفاعل لا المفعول به، مما يُظهر تأثراً بحداثة الشعر العربي في كسر الثنائيات التقليدية. كما تحوّل القصيدةُ الرايات إلى رموز مزدوجة: راية المعنى (فكريّة) وراية المجد (ماديّة).
السطور الأخيرة (13-16): "ربّاااهُ.../... من الأحقادِ" تحوّل المناجاة الصوفية إلى دعاءٍ وقائي، مع إطالة في "ربّاااهُ" لتضخيم الشعور بالتوسل. هنا تتحول القصيدة من خطاب ذاتي إلى رسالة إنسانية جامعة، تجسد المعاناة البشرية وتأكيد الإيمان كملاذ.
خاتمة: الشعر كوصية خالدة
"كوثرُ الضّااادِ" ليست مجرد قصيدة، بل بيانٌ عن دور الشعر كجسر بين الهوية والإبداع، والتراث والحداثة. تكشف سميرة الزغدودي عن رؤيةٍ تُعيد فيها تعريف "الكوثر" ليس كنهرٍ جارٍ في الجنة فحسب، بل كمشروع إبداعي يُخصّب اللغة ويحميها من "خسة الحسّاد" و"الأحقاد". القصيدة، برموزها المتعددة (الضاد، الكوثر، السنابل)، تثبت أن الأدب العربي الحديث قادر على توظيف التراث في صيغ مبتكرة، مستفيداً من "تداخل الأنواع الأدبية" و"جمالية العلامة السيميائية". وفي الختام، تبقى كلمات الشاعرة وصيةً للذاكرة الجمعية: الشعرُ... لسوفَ يُـهدي الذخرَ للأحفادِ.
***
بهيج حسن مسعود