قراءات نقدية
التعايش قيمة منهارة في رواية اللجنة للكاتب صنع الله ابراهيم
يعرّف التعايش في علم الإجتماع على أنه قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الإختلاف واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه. فهو وجود مشترك لفئتين مختلفتين يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف لأي منهما للآخر. وهو من القيم الإنسانية العليا المشتركة بين جميع الشعوب التي تُعدّ ضرورة من ضروريات العيش بسلام.
وفي الرواية التي بين أيدينا لصنع الله ابراهيم، من مطبوعات القاهرة ربيع 1982، نجد الكاتب وقد رصد لنا التقابل الجدلي المتمثل بين الأنا والآخر وما صنعه من أجواء سلبية لأسباب ذات قيمة فكرية وسياسية واجتماعية حيث تصارعت هذه القيم لتفرز للمتلقي جوا تسوده علاقة التوتر والخوف والكراهية والقهر بين الأنا والآخر. وقد وضعنا الكاتب أمام فئتين مختلفين في الفكر.
وحيث أن أهم القيم الداعمة لمبدأ التعايش قيمة الحوار لأنه عنوان التعايش والتعبير الأسمى عن دلالته. ولأنه بالحوار يمكننا استطلاع آراء المتحاورين وتقييمها وتطويرها باستمرار عبر الفكر والرأي والرأي الآخر أي أن العلاقة بين الحوار والتعايش علاقة شرطية يقتضي وجود إحداهما وجود الأخرى. وقد انهارت قيمة التعايش منذ البداية ويتوضح لنا ذلك من خلال حالة الإرتباك التي عانى منها البطل وهو يقف أمام اللجنة بالرغم من أنه قضى عاما كاملا في الاستعداد لهذه المقابلة فعلى لسان البطل ص12 (بلعت ريقي ثم شرعت أتكلم. وخرج صوتي خافتا). وهذا الموقف يعكس لنا صورة مسبقة بأن الحوار لن يكون كأي حوار حضاري، فالبطل الذي وقف أمام لجنة مجهولة الهوية بعض أعضائها وصفهم الكاتب بالعسكريين شعر بخوف لم يظهره حين خاطبه أحدهم بلهجة عدائية منذ البداية (أنا لا أستطيع أن أفهمك. فأنت فيما يبدو قطعت شوطا بعيدا . وها أنت في هذه السن تسعى وراء بداية جديدة. ألا تظن أن الوقت قد فات؟). فالحوار الذي اتسم بالتوتر والخوف من قبل البطل والعدائية من جهة اللجنة لا يعكس وجود تعايشا بين الأنا والآخر بالإضافة إلى ان الحوار قد خرج عن محاوره المعتادة إلى التدخل الصارخ من جهة اللجنة في خصوصية البطل وعدم احترامه كإنسان. ويتضح لنا هذا في عدة مواقف وردت في الرواية نذكر منها موقف السيدة العجوز عندما وجهت له سؤالا فيه إهانة وتحقير للبطل ص14 (سألتني: هل تعرف الرقص؟. سألته: أي أنواع الرقص؟) وقد لمسنا سخرية وتحد بين البطل واللجنة عندما أخبره أحد الأعضاء بأن اللجنة تمتلك ملفا يتضمن كل شئ عنه، وهذا فيه استفزاز واحتقار من قبل اللجنة لذات البطل.
كما أن العجوز رئيس اللجنة لجأ إلى استخدام أسلوب النفي المفعم بالسخرية والتهكم تظهر في عبارة وجهها للبطل ص12 (إني لا أسمع جيدا بإحدى أذني. . فهل لك أن ترفع صوتك).
ومن معوقات التعايش التي تناولها الكاتب انتهاك حقوق المرأة . وقد تناول الكاتب هذا الموضوع عندما قرر البطل ركوب باص صناعة أمريكية من أجل دراسة مواصفات صناعته فلمح رجلا عملاقا يتحرش بامرأة وسط صمت الركاب خوفا من بطش العملاق. ففي ص 143على لسان البطل (وهو ما أثار استنكاري في مسلك العملاق مع السيدة بعد أن أبدت أكثر من مرة وبجلاء ووضوح تامين نفورها من المشروع الذي عرضه عليها بلمسات متكررة من ساقه).
ومن أجل تطبيق قيمة التعايش في أي مجتمع يجب على كل طرف من الطرفين الأنا والآخر احترام حقوق الآخر ومن هذه الحقوق يتحتم على كل من الطرفين عدم التدخل التعسفي في الحياة الخاصة. والمتلقي لرواية اللجنة سوف يلحظ ما فعلته اللجنة من مواقف لاغية لهذه القيمة. ومنها تدخلها في قدرات البطل الجنسية ويتضح هذا ص17(لكن لدينا هنا تقريرا أنك لم تتمكن من ممارسة الجنس مع سيدة معينة).
وعلى لسان العضو القصير في نفس الصفحة (ربما كان عنينا).
وحينما أرادوا التأكد من مدى صلاحيته الجنسية أفرطوا في امتهان إنسانيته حين طلب صاحب الشعر الأشقر من البطل أن يخلع سرواله ص17( أشار إلي صاحب الشعر الأشقر أن أقترب بحيث أقف أمامه، ثم أمرني أن أخلع بنطلوني، ففعلت). وفي نفس الصفحة (فمددت يدي إلى سروالي الداخلي متسائلا: وهذا أيضا؟، أومأ الأشقر برأسه فخلعت السروال فوق البنطلون بينما استقرت أنظار أعضاء اللجنة عى الجزء العاري من جسدي يتأملون باهتمام). وفي صفحة18 (لم يلبث الأشقر أن طلب مني أن أستدير. ثم أمرني أن أنحني. وشعرت بيده على أليتي. وأمرني أن أسعل. وعندئذ شعرت بأصبعه داخل جسدي). وهذا التدخل في حياته الخاصة قادهم إلى إهانته كإنسان بعد تعريه أمامهم بالكامل بل وتفحص أعضاءه الداخلية.
وهنا يتضح لنا بأن الحوار تعدى كونه حوارا حضاريا في مقابله شريفة إلى فعل مشين من قبل أعضاء اللجنة. فانهارت قيمة من قيم التعايش.
ومن القيم الداعمة للتعايش أيضا حرية الرأي والتعبير. وهذه القيمة انتفت أيضا حينما طلبت اللجنة من البطل تغيير شخصية الدكتور. فبعد انتهاء المقابلة بعثت له اللجنة أن يكتب عن شخصية لامعة في الوطن العربي. وخلال هذه المدة التي انشغل بها في البحث عن تلك الشخصية. اكتشف خلال بحثه أمورا خطيرة تخص هذه الشخصية. وقد نقلها الكاتب خلال سرد الأحداث عن طريق الشخصيات وبث للمتلقي مجموعة من الحقائق في تلك الفترة والتي لم يكتشفها البطل إلا من خلال الرجوع إلى الصحف القديمة المحدودة الانتشار التي لم تنتبه لها الرقابة وهي تبيض صفحة الدكتور وتلمعها أمام العامة حال أي فاسد في الوطن العربي حينما يصبح صاحب قرار ومسؤول. فعلى لسان البطل ص46 (فتحت الملف بأصابع مرتعشة من الإنفعال فطالعتني ورقة بيضاء في أعلاها تاريخ يعود إلى الخمسينات ولا شئ عدا ذلك) وفي صفحة أخرى (انتابني الشك في أمر الفقرات المقتطعة.. في اليوم التالي فوجئت بصدور تعليمات تحظر استخدام المكتبة على غير العاملين بالصحيفة). ويتضح لنا هنا أسلوب القمع الذي تمارسه السلطة من أجل التغطية على التاريخ الأسود لتلك الشخصية اللامعة.
وعادت اللجنة لتمتهن حرية البطل عندما اقتحمت بيته وضيقت الخيارات عليه حين طلبت منه تغيير الشخصية اللامعة أو تبديل ما جاء في الدراسة التي توصل إليها البطل من خلال صيغة جديدة ملائمة ففي ص65 (ودلفوا إلى مسكني الصغير، فانتشروا في أرجائه على الفور). وفي ص68 على لسان القصير (يمكنك أن تقرر لنفسك الآن، ما إذا كنت ستستمر في هذا الموضوع أو تنتقل إلى غيره، فنحن لا نقس أحدا على شئ). وهذه العبارة تنم عن أن ما تبطنه اللجنة من مصير ينتظر البطل، فهي لن تتركه بحاله إن ظل متمسكا برأيه. وهنا يظهر تدخل اللجنة في حياة البطل الشخصية عندما أبقت على القصير في الشقة إلى أن يستقر رأي البطل بشأن الدراسة. وهذا الخرق الواضح لخصوصية البطل بحيث أنه عاجز عن التصرف في شقته كما يريد كان من معوقات قيمة التعايش التي انهارت بهذا الفعل، وانهارت أكثر عندما قرر القصير أن يكون كظل للبطل لدرجة أنه لم يتركه يغيب عن ناظريه حتى داخل الحمام وعند قضاء الحاجة ففي ص92 على لسان البطل (تطلع إلي مستهزئا: هل نسيت أني رأيت مؤخرتك العارية في وضع أقل وقارا من قضاء الحاجة؟ قلت: لم أنس لكن هذه العادة جرت أن ينفرد الإنسان بنفسه في هذه الأمور فهذه لحظة خاصة جدا. . قال بشراسة: إن من يتصدى للأمور العامة يفقد حقه في كل خصوصية). وهذا المشهد إنما يلخص لنا السياسة التي تمارسها السلطة في قمع حرية التفكير والرأي لكل من يخالفها بأشد الطرق بعدا عن الإنسانية.
وتنتفي قيمة التعايش بسبب انهيار القيم التي من المفترض أن تكون بين الطرفين الأنا والآخر عندما يقدم البطل على قتل القصير بهدف التخلص من امتهانه له بذلك الشكل الذي أذله. ففي ص117 على لسان البطل وهو ماثل أمام اللجنة يدافع عن نفسه أمام الجريمة التي ارتكبها بحق القصير (قلت: هذا صحيح. لكنه كان يحمل مسدسا. ولهذا فاستخدام العنف كان ورادا منذ البداية. ومن المؤكد أني لو لم أبادر بالقضاء عليه فإنه ما كان سيتركني في سلام.. وما أبغيه هو أن تضعوا في تقديركم حالتي النفسية والعصبية، وكوني لم أنم على الإطلاق أثناء وجوده معي، فضلا عن الحصار الذي فرضه علي).
وما من مشهد يصف انهيار قيمة التعايش مثل مشهد البطل الذي بدأ يأكل نفسه والذي رمز له الكاتب بكل حرفية إلى العجز عن تغيير الواقع ما دامت السلطة تقتل، تقمع، تكمم وصوتها يعلو كل صوت.
كما أن الكاتب بث الكثير من التشوهات الإجتماعية والفكرية والثقافية الناتجة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية المضطربة في الفترة التي كُتبت بها الرواية، وتفرعت منه إلى أحداث ثانوية متعددة. رواية اللجنة تشعر المتلقي عند قراءتها بأنها تلك التي تصلح لأي زمان ومكان في العالم العربي.
وأخيرا فإنه ومن المؤكد بأن رواية كاللجنة لصنع الله ابراهيم ينبني موضوعها على صراع بين السلطة والشعب لن تصمد فيها قيمة مهمة كالتي ناقشناها وهي قيمة التعايش، فأي تعايش سيكون بين فئتين إحداهما السلطة التي تعمل بكل طاقاتها على استغلال شعوبها واضطهادها سيايا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا؟.
***
قراءة بديعة النعيمي