قضايا
عبد الأمير الركابي: "الوطن كونيه العراقية" حين تظهر (3)
بعد عشرة الاف عام من المجتمعية بلا ادراك للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، ظل العقل بحالة سعى للخروج من قصوريته الحائله بينه وبين اكتمال مقومات حقيقته الوجودية، وها هي الساعه الفصل العظمى تلوح في الافق بعد انتهاء الزمن اليدوي، وما تبعه من لحظة احتدام توهمي قصوى كافتتاح مثقل بوطاة متبقيات ماقبله، طغت على الانتقالية العقلية المجتمعية الاليه الابتدائية، مولدة اختلالا مضطربا مشحونا بالعنف والاحتكام للتخيلات باسم العلموية والعقلانيه، الى ان وصل محطته الاخيرة الافظع، الاقرب الى التدميرية التناقضية المتاتية عن اختلال العلاقة بين الحقيقة الواجبة الضرورة المتزايدة الحاحا بما لا يقبل التاجيل، ومتبقيات التوهمية التصورية المختلة والمصرة على معاكسة مسار التاريخ وحكم الزاميته التحولية الكبرى المنتظرة.
ترى هل ثمة على امتداد الكرة الارضية من احتمالية نطقية مواكبه للحدث الالي غير تلك الاوربية؟ ومن اين تاتي هذه، وفي اي موضع يمكن ان يتناسب والحالة وما تتطلبه من مقومات التفاعلية مع الحدث الانقلابي الكوني المادي النوعي، هنا ندخل حكما عالما اخر ظل كما سبق وكررنا خارج الانتباه، ومقصيا عن الادراكية للاستحالة القصورية العقلية، مع ما يضاف لها من اسباب الاستحالة مع ركام المنجز التوهمي الاوربي وقد صار متصدرا للمشهد التحولي الالي واقعا ورؤية، ما قد تولد عنه لدى الالتقاء مع بدايات القرن العشرين حين حضر الانكليز محتلين ارض مابين النهرين، حال من الاستثنائية التصادمية المتعدية لعنصريها كما كانا لحظة اللقاء المباشر بينما، ساعة انبثقت وقتها آليات من النوع الافنائي للكينونه والنموذج على الجبهتين.
ولو ان الحملة البريطانيه عام 1914 وصلت للعراق وهو في حال انهيار انحداري او انقطاع كلي كما هو القانون الناظم لتاريخه، لاختلفت سياقات الاصطراع بين الطرفين وقتها، ولم تتخذ الشكل الذي اتخذته ارتكازا للحضور التشكلي العراقي الحديث الراهن، المبتدء قبل اكثر من ثلاثة قرون، مر خلالها بفترتين رئيستين، الاولى "قبلية" تبدا مع القرن السادس عشر مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، والثانيه "انتظارية" نجفية اخذت بالتبلور ابتداء من القرن الثامن عشر بعد "الثورة الثلاثية" التي حررت العراق من المماليك العثمانيين، من[U1] [U2] [U3] [U4] [U5] [U6] بغداد الى الفاوعام 1787 مترسما طبيعته التاريخيه، حيث التبلور والنشاة تبدا من الجنوب كصيغة مجتمعية نوعيه مصطرعه مع البيئة الطارده، كما كان عليه الحال في الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، وفي الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية التي نشات ابتداء في ارض السواد مجسدة في الكوفة التي منها هرب العباسيون ليبنوا مدينتهم/ الامبراطورية بعيدا عن المجتمع اللاارضوي الاسفل المستمر بالثورة بلا توقف، ناهيك عن البصرة.
وتطرا اليوم ابان الدورة الاليه او المواكبه للزمن الالي، اختلافات نوعية عن التي عرفتها الدورتان السالفتان، الاولى الموكوله الى التفاعلية الذاتيه، والثانيه المتداخله فيها الفعالية الذاتيه مع التحفيزية الجزيرية الابراهيميه النبوية العائدة الى ارضها ومنطلق تشكلها، في حين تنشأ الدورة الراهنه تحت وطاة وثقل البرانيه الشرقية ابتداء من 1258 مع سقوط عاصمه الخلافة الازدواجية بغداد على يد هولاكو، وصولا الى العثمانيين، قبل الطبعة البرانيه الاليه البريطانيه، لنتعرف على نوعين من الاصطراعية مع البرانيه المتركزة في العاصمه المنهارة سلالات ودول واشباه امبراطوريات، هي في الطبيعة "يدوية"، يواجههاالتشكل الحديث العراقي يدويا بحكم وضعه على هذا الصعيد ساعتها، الى ان تنقلب المعادلة ويتحول الصراع الى طرف نشوئي يدوي، واخر آلي محتل غير مسبوق التعامل معه، او التعرف على نوعه.
والمميز الواضح اليوم ان اشتراطات التشكل الكياني الازدواجي ماكانت واردة ولا متاحه بالاصل لان التبلور الحالي الراهن يبدا محكوما للاصطراع مع البرانيه من جهه، وللانقلابيه التاريخيه العالمية الالية، مامن شانه وضع ارض الازدواج والكونيه امام اختبار فريد نوعي يقارب اشتراطات ومتطلبات البدئية الثانيه الالية، بعد تلك الاولى اليدوية حيث تحددت في حينه خاصيات المكان ونمطيته، فاذا بارض الرافدين تواجه التحدي الاكبر الافنائي متمثلا في النموذج "الكياني / الوطني" و ( الدولة/ الامه) على النمطية الاوربية الغالبه، لنصبح فجاة وبين ليلة وضحاها امام عراق حديث له دولة، اضطر المحتل لفبركتها كحاجة لامعدى عنها لضمان استمرار نفوذه بعد الثورة الكبرى اللاارضوية غير الناطقة التي هبت بوجهه، وجعلته يقرر الانسحاب عام 1920 ، ردا على دخوله غير المسبوق من نقطة الامان التاريخي من جنوب العراق، المكان المرتكز الوجودي الوحيد الذي لم يعرف الاختراق على مر تاريخ هذا الموضع، مقارنه بالشرق والغرب والشمال حيث الانصبابات السلالية، ما قد جعل الدخول الاستثنائي المشار اليه يتخذ مع الطبيعة المستجدة الاليه للجيش المحتل، معنى الافنائية الوجودية، ما اقتضى ردا من نوعه في حينه، وان بلا نطقية.
وهكذا كان الغرب قد تعرف للمرة الاولى على الحالة التصادمية النقيضة لنوعه كما لم يحدث في اي مكان من قبل ومنذ الساعات الاولى، فالاحتلال الاوربي والبريطاني يصل عادة بجيوشه ليحتل البلدان ويخضع حكوماتها القائمه لسطوته كما الحال في مصرمثلا، في حين هو اضطر هنا لاقامة "حكومة من اهل البلاد" تكون واجهه لنفوذه المتعذر بذاته وبلا وسيط، جاء به وركبه من العاصمة المنهارة نفسها، مركز التعاقب البراني .
واذ كان الامر يستوجب مروية انبثاق "العراق الحديث" فلقد نهض بالمهمه ضابط ملحق بالحملة البريطانيه هو فيلب ويرلند، موجد سردية العراق المعروف على قاعدة الالتحاق بالسوق الراسمالية العالمية، وبالتحديد مع 1831 خلافا لواقع البدئية التشكلية الفعلية المعاشة المستمرة من القرن السادس عشر بحسب قوانين التشكل التاريخي البنيوي العراقي، اي قبل بداية الثورة الالية الصناعية، لندخل من يومها تاريخيا من الهيمنه المفهومية الاخطر من العسكرية والسياسية المباشرة، حيث العراق محكوم وجودا ورؤية للوطنيه الويرلندية، بظل غياب ولانطقية العراق التاريخي العراقي الازدواجي اللاارضوي .
ولم يسبق بالطبع بحسب اجمالي الاشتراطات المنوه عنها، ان عرف في التاريخ او في الاراء المتعارف عليها مفهوم من نوع "سياسة الاستعمارين" فمفهوم " الاستعمار الجديد" عرف لاحقا في الستينات، بينما كانت الكولونيالية والاستعمار القديم غالبة وسائده منذ وجد الاستعمار بينما كان الحال في العراق وقتها عام 1920/ 1921 حال ازدواج "مفهومي" وآخر "مباشر"، فلا احد في العراق الى اليوم انتبه الى انه من موضع في العالم لم يعرف على الاطلاق في مجمل تاريخه الاطول بين التواريخ، مفهوم "الكيانيه الوطنيه" ولا "المجتمعية الاحادية"، وهو مايشمل القوى او التيارات الحديثة الايديلوجيه التي ظهرت في العراق على قاعدة مناصبة الاحتلال الرفض والعداء على قاعدة مفهوم الغرب نفسه، حيث المطلوب "طرد النموذجية الغربية باسم النموذجية الغربية ومن اجل الالتحاق بها"، مثل اليسار والقومية والليبرالية، فالمفاهيم التي اعتمدتها وتاسست عليها القوى المشار اليها مستعارة وتنتمي للغرب وموضوعاته التي احتوت عليها المعروف ب"حركة التحرر العالمية" المخالفة جوهرا لكينونة العراق وبنيته، ودوره المفترض اليوم، ونوعه، بعد ماكان له وتميز به عالميا في الطور اليدوي من التاريخ البشري.
***
عبد الأمير الركابي