قراءات نقدية
الإسلاميَّات في صادق أو القَدَر لفولتير.. دراسة مقارنة (11)
رأينا في المقال العاشر من هذه السلسلة الدراسيَّة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)(1)، حكاية البطل مع ذلك الناسك الغريب الأطوار. وقلنا: إنَّ قِصَّة (صادق) مع الناسك واضحة الشَّبَه بقِصَّة النبيِّ (مُوسَى) مع (الخِضْر)، التي قصَّها "القُرآن" في "سورة الكهف". ولَحَظْنا أنَّ (فولتير) قد صاغ القِصَّة كما هي في "القُرآن"، مع بعض التغييرات. ومن ذاك أنه تصرَّف في القِصَّة القُرآنيَّة؛ فجعلَ حَرْق دار الفيلسوف الفاضل بدل بناء الجدار المنقضِّ في الآيات القُرآنيَّة. على أنَّ السبب واحدٌ في القِصَّتَين، وهو وجود كنزٍ تحت دار الفيلسوف وتحت الجدار. غير أنَّ الناسك أراد كشف الكنز لصاحبه، والخِضْر أراد إخفاءه وحِفظه لصاحبَيه، حتى إذا بلغا أشُدَّهما استخرجا كنزهما.
وتُقابِل فكرةُ "قتل الغلام" في قِصَّة (فولتير) فكرةَ "قتل الغلام" في القِصَّة القُرآنيَّة. كما أنَّ تعليل الناسك العجيبَ لعمله المنكَر يُشبِه تعليل (الخِضْر) العجيبَ لعمله المنكَر: بـ"أنَّ هذا الفتَى، الذي قتلتْه القُدرة الإلهيَّة، لو عاش، لقتلَ عمَّته بعد عام، ولقتلكَ أنت بعد عامَين."(2) وفي "القُرآن": ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ، فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ؛ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَـهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا.﴾
ويُشبِه بناء القِصَّة عند (فولتير) بناءها في "القُرآن" جِدًّا. فقد عاهد (صادق) الناسكَ على الإذعان، وعدم السؤال مهما رأى، وكذلك فعل (مُوسَى) مع (الخِضْر). وفي كلتا القِصَّتَين ينطلق المسافران من بلدٍ إلى آخَر، ليقوم الناسك أو الخِضْر بعملٍ يَدْهَش له صاحبُه؛ فلا يُقاوِم نفسه وعقله، ولا يصبر على ما عاهد عليه من عدم السؤال، بل يتجاوز السؤال إلى الإنكار الشديد. ويستمرُّ الاثنان على هذه الحال، حتى إذا بلغ الأوَّلُ من الآخَر عُذرًا؛ فلم يصبر على ما يراه من عظائم الأمور، التي لا يُدرِك لها سببًا أو تفسيرًا بمنطق العقل والحق والخير، أنبأه بتأويل ما لم يَسْطِع عليه صبرًا.
وإضافة إلى هذا فإنَّ رسم الشخصيَّتَين في كلتا القِصَّتَين واحد، فشخصيَّة (صادق) هي شخصيَّة (مُوسَى)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة، وكذلك شخصيَّة الناسك هي شخصيَّة (الخِضْر)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة والسُّلوكيَّة.
يجدر بالإشارة أنَّ قِصَّة (مُوسَى والخِضْر)، الواردة في "القُرآن"، قد تناولها الكُتَّاب القصصيُّون في الغرب والشرق خلال القرون الوُسطَى، كُلٌّ بطريقته الخاصَّة. ومِن الذين تناولوها، مع (فولتير)، الشاعرُ الإيرلنديُّ (توماس بارنل Thomas Parnell، -1718).(3) وتُعَدُّ هذه القِصَّة من ذلك النَّوع من القَصِّ الاعتباري، الذي ليس المقصود فيه بلازم معانيه الحرفيَّة. من حيث تصبح للبناء الوظيفيِّ أوَّلويَّةٌ على البناء الفنِّي، وكذلك على منطق الواقع. ذاك أنَّ هذا الضَّرب من القَصِّ ما هو إلَّا وسيلةٌ تعبيريَّةٌ عن رسالةٍ دعويَّةٍ ما، وليس بغايةٍ في ذاته. ولذا يأتي مرتبطًا بالغَيب، و"الما وراء"، والمفارِق للواقع والمألوف. ومن ثَمَّ لا يُنتظر فيه احتفالٌ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة، بما أنَّ الهدف لا يعدو إيصال رسالةٍ تأثيريَّةٍ إيمانيَّةٍ إلى المتلقِّين، مهما تجافت، آخِرَ المطاف، عن منطق الواقع والإقناع العقلاني.(4)
وفي مقال الأسبوع المقبل سنستقرئ العلاقة بين قِصَّة (فولتير) تلك و"ألف ليلة وليلة". مركزين على العلاقة الملتبسة بين النَّصَّين؛ من حيث إنَّ الكاتب قد أخذ قِصَّةً، أو قصصًا، قديمةً فصاغها بطريقته وأسلوبه، وربما حوَّر فيها؛ ليَصحَّ القول: إنها قد أصبحت قِصَّةً فولتيريَّة، كأيَّة قِصَّةٍ أخرى تُنسَب إلى فولتير.
أ. دز عبد الله بن أحمد الفَيفي
..........................
(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).
(2) م.ن، 126.
(3) غصوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ"صادق أو القَدَر" لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع)، 94- 95.
(4) حول خصائص (النصِّ الاعتباري)، يُنظر بحثنا: (1999)، "في بِـنْـيَـة النصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبأ حيِّ بن يقظان: نموذجًا)"، (مجلَّة "أبحاث اليرموك"، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).