قراءات نقدية
عدنان حسين أحمد: "ها هي معجزتي" للشاعر الراحل جلال زنگابادي
قصائد تنويرية متألقة تستقطر عسل الكلام
كانت خولة نوري جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا
لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة من حياته
صدرت عن (دار الجمل) في بيروت مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان (ها هيّ معجزتي!) للشاعر جلال زنگابادي. وقد ضمّت هذه المجموعة تحديدًا نصف قصائده المكتوبة باللغتين العربية والكوردية عن ثيمة الحُب الأزلية التي لولاها لأصبحت الحياة أشدُّ وطأة مما هي عليه الآن.
لقد شاء الشاعر المرهف الحس جلال زنگابادي، أو ربما شاءت قصائده أن يكون هذا الديوان برمته مكرّسًا للحُب فقط من دون بقية الأغراض التي قد نجد بعض تشظياتها منثورة هنا أو هناك في متون قصائده العذبة التي تتصف بتجلياتها اللغوية والروحية والفنية على حد سواء. فجلال زنگابادي للذين يعرفونه عن كثب هو شاعر عفوي وصادق بامتياز تأتيه الصور الشعرية " مثلما تأتي الأوراق الى أغصان الأشجار" بحسب ووردزورث، وإنه "صانع أمهر" للشعر بحسب ت.س. إليوت، يعرف جيدًا أسرار هذه الصنعة الفنية، ويتألق فيها دائمًا، مستقطِرًا فيها عُصارة قلبه، فلا غرابة إذا جاءت نصوصه مُستفِزّةً واخزة تهّز المتلقي وتضعه في مثلث الدهشة والسحر والافتتان.
لقد هُمشت التجربة الشعرية لجلال زنگبادي، عن قصد أو غير قصد، على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال، ربما بسبب الظروف العصيبة التي كان يحياها معظم العراقيين في أثناء حقبة النظام الشمولي السابق، أو ربما بسبب كسل النقّاد، ولا أستثني كاتب هذه السطور، أو شلل الحركة النقدية في العراق الذي كان مخطوفًا في وُضُح النهار، وما الى ذلك من أعذار ومسوّغات قد تكون ضعيفة واهنة ولا تصمد أمام التهميش أو الاقصاء المُشار اليه سلفا.
قبل الولوج في أجواء هذه القصائد وفضاءاتها التي تجمع بين الصوفية والرمزية والتعبيرية والرومانسية لابد من الوقوف عند هذا الإهداء الروحي المكثّف إلى زوجته وثنيّة روحية السيدة خولة نوري التي أحبّها من الوريد إلى الوريد وأخلص لهذا الحب طوال حياته ولولا وجودها في سويداء القلب لما جادت قريحته بهذه القصائد الملأى بالحُب واللوعة والشجن، فهي، وأعني خولة نوري، هي التي منحتهُ إكسير الحياة وكانت جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة قبل أن يترجّل من مركب الحياة الفانية ويستريح في أبديته المُلفعة بالصمت والسكينة والخشوع. يقول زنگابادي في هذا الإهداء المطوّل:
"إليكِ يا نِعمَ الحبيبة، الصديقة، الرفيقة، الحليلة، الأخت والأمُ؛ فلولاكِ لما أدركتُ رحموت الحبّ في رهبوت الصلبان المعقوفة وأهوال الحروب والاحترابات، ولما صمدتُ وقاومتُ؛ بل لما كانت هذه القصائد وغيرها.. وأنتَ "يا مانح الحكمة للتراب"* أمنَ العدل والإنصاف أن تُجازيها بالسرطان؟!" {* للشاعر الهندي خسرو دهلوي بتصرف}.
وتعزيزًا لثيمة الحُب التي انقطع اليها الشاعر سنينًا طوالا فقد انتقى الشاعر ثلاثة عشر بيتًا شعريًا معروفًا، جرت على الألسن مجرى الأمثال، لثلاثة عشر شاعرًا مستقرًا في الذاكرة الجمعية للناس من بينهم ابن الفارض وابن الرومي والبهاء زهير والبسطامي والحلاج وغيرهم من الشعراء الذين كتبوا عن الحُب كثيرًا، وترسخت تجاربهم في مضمار الشعر الصوفي وتجلياته المعروفة التي تبتغي الذوبان والتماهي في ذات المحبوب الذي يمثل من وجهة نظرهم امتدادًا للذات الالهية.
سنتوقف في هذه الدراسة النقدية عند بعض من قصائد هذا الديوان علّنا نستجلي أبعادها الفنية، ونكشف عن التقنيات التي اعتمدها الشاعر في صياغة هذا النوع من القصائد التنويرية المتألقة التي تستقر في ذاكرة المتلقي ولا تغادرها بسهولة لأن وقعها على الأذن المرهفة هو وقع الوشم على الأَدَمَة الرقيقة الحساسة.
تجدر الاشارة الى أن قصيدة (ها هي معجزتي) قد أنجزها الشاعر زنگابادي عام 2005م، أي بعد أربعة عقود من كتابته لقصيدة (أوّاه يا قُفل) عام 1965م التي نشرها بعنوان (استعارات) في (جريدة كركوك) في أوائل عام 1968م ووقّعها باسم (جلال ريبوار)، وهو للمناسبة واحد من عدة أسماء مستعارة كان يتخبأ خلفها الشاعر خشية من الأعين المدبّبة التي كانت تتربص به الدوائر. تدور هذه القصيدة العميقة حولَ (معجزةٍ ما) سيؤجلها الشاعر بطريقة ذكية محسوبة لأنه يراهن في بنائه الفني للنص على عناصر الشدّ والترقّب والتشويق التي تأخذ بتلابيب المتلّقي العضوي الذي يتوفر على شروط القراءة الابداعية. تحفظ لنا الذاكرة الجمعية للبشرية معجزات أنبياء وأناس صالحين وعباقرة لم يَجُد الزمان بمثلهم كثيرًا، فمنهم منْ يُشفي الأبرص، ومنهم من يعيد المجنون الى رشده، ومنهم من يلقي عصاه فإذا هي حيّة تسعى وهلّم جرّا من الأعاجيب التي تُدهش العقل البشري وتضعه في دائرة الحَيرة والذهول. استهل الشاعر قصيدته بكلمة (أبدًا) وهي ظرف زمان مبهم لوقتٍ غير متعيّن تفيد التأكيد نفيًا وإثباتًا، ثم يستعمل أداة الجزم (لمْ)، وهي حرف نفي لما مضى من الزمان (احدى عشرة مرّة) بشكلٍ متتالٍ لأنه يريد من المتلقي أن يفهم بأن كاتب النص ومبدعه، وهو الراوي العليم هنا، لم يتوفر على أية معجزةٍ يمكن له أن يتشدّق بها أمامَ الآخرين، فهو (لم يشعوِّذ، ولم يسحر، ولم يعرف أسرار الغيب، ولم يمشِ على الماء، ولم يحلِّق في الهواء، ولم يستمطر السماء حلوى، أو منًّا وسلوى، ولم يطوِ الأرض طيًّا في رمشة عين، ولم يحوّل التراب الى تبر، ولم يفهم لغة الطير والوحوش، ولم يسخِّر الجن والغيلان) وما الى ذلك من معجزات ومواقف عجائبية. فما هي معجزته التي يتفاخر بها بين الأنام؟ ثمة معجزات كثيرة يتذكرها الكائن البشري على وجه البسيطة، لكن المعجزة التي اجترحها شاعرنا جلال زنگابادي هي معجزة من طراز خاص، ذلك أنه عشِقَ فتاة وهام بها حُبًّأ فاجتثتْ معه (ر) الحرب لتؤسس مناخًا صحيًا للحُب الذي يقترب من نزعته الصوفية المجنّحة. وتلك الفتاة هي دونما شك خولة نوري.
الأُس المعرفي
تحفِّز معظم القصائد التي يكتبها الشاعر جلال زنگابادي قارئه على تثوير خلفيته الثقافية وتغذية ذهنه بمختلف أشكال الثقافة والمعرفة الانسانية المُتاحة. ففي النص السابق الذي توقفنا عنده طويلاً كان على المتلقي أن يكون عارفًا ومُلِّمًا بالمعجزات الإحدى عشرة كي يتمتع بالنص ويتلذذ بأبعاده المعرفية التي تفتح أمامه سجلاً عريضًا من المعلومات التاريخية ذات الشأن الديني والروحي على حدٍ سواء. أما في هذا النص الذي انضوى تحت عنوان (قلبكِ.. يا له من لغزٍ مؤبّد!) فثمة أربع إحالات رئيسة على القارئ أن يكون مُطلِّعًا عليها كي يستوعب النص بشكل دقيق ولا تفوته شاردة أو واردة من بنيته الشعرية المكثفة التي اعتمدت على تقنية (استقطار المعلومة) ووضْعِها في السياق الفني الصحيح. وهذه الإحالات بحسب ورودها في النص هي (الفاتح) و(الإسكندر) و(هانيبال) و(كوكب فينوس) وإذا لم يتمترس القارئ المتفاعل مع النص وراء معلومات تاريخية تضيء الإحالات الثلاث الأولى، وفلكية تكشف عن طبيعة هذا الكوكب الذي أسرَ المخيلة البشرية منذ عصورٍ موغلةٍ في القِدم، فإن قراءته للنص لن تكون قراءة معرفية أحفورية. وأن طبيعة الاضاءة الداخلية للنص ستكون ضعيفة واهنة تفوّت على المتلقي العديد من جماليات الخطاب الفني الذي أبدعته المخيلة الفذة للشاعر المرهف جلال زنگابادي. يضعنا الشاعر أمام ثلاث أمنيات هي في واقع الحال مستحيلة، ولكنه يراها ممكنة وغير عصيّة على الإطلاق. لابد من الأخذ بعين الاعتبار أهمية الكلمة التي استهّل بها النص وهي (ليتني)، و(ليت) كما هو معروف كلمة تمنٍّ متعلقة بالمستحيل كأن تقول:
(يا ليْتَ أيامَ الصبا رواجعا!).
وأنتَ تعرف حدّ اليقين أن أيام الصبا أو الشباب لن تعود مطلقًا لأن عمر الكائن البشري محكوم بالتقدّم الى أمام. ومع هذه الاستحالة الواضحة التي تقترن دائمًا بكلمة (ليْت)، إلا أنّ زنگابادي يصِّر عليها ضمن سياق لعبته الفنية القائمة في نهاية المطاف على فعل الإدهاش الذي سينير عتمة النص المستغلَق. ففي الأمنية الأولى يقول:
(ليتني،
كنتُ "الفاتح"،
إقتحِمَ القسطنطينة).
وهذا الفاتح هو القائد المسلم والسلطان العثماني السابع محمد الفاتح الذي عرفت مآثره الناس ومنها اقتحامه للقسطنطينة وقضائه المبرم على الامبراطورية البيزنطية. وعلى الرغم من الصعوبات الجمّة التي واجهت هذا القائد الاسلامي الكبير إلا أنّ الشاعر جلال زنگابادي يتمنى من أعماق قلبه أن يكون هذا الفاتح بنفسه، لأن فتح القسطنطينة أو غيرها من حواضر الأرض هي مهمة سهلة ويسيرة عليه قياسًا بالمهمة المستحيلة التي سيلقيها على عاتقه بعد أن تنتهي أمنياته الثلاث التي يسردها لقارئه الذي تحوّل الى مجموعة من الآذان الصاغية. في الأمنية الثانية يقول:
(ليتني،
كنتُ "الإسكندر"،
بلغَ "آريانا").
والمقصود بالإسكندر هنا هو الإسكندر الأكبر أو المقدوني الذي حكم الإمبراطورية المقدونية، وقهر الإمبراطورية الفارسية، وجملة مآثره معروفة للقاصي والداني على حدٍّ سواء. ويورد زنگابادي هنا كلمة (آريانا) التي تعني أفغانستان الحالية التي وصل إليها المقدوني ذات يوم. ولاشك في أنّ الصعوبة التي يواجهها ستكون كبيرة جدًا لو أنه حلّ محلَّ الإسكندر المقدوني. ومع ذلك فإنه يصِّر على أن يلعب هذا الدور الذي يعده بسيطًا قياسًا بالدور العظيم المُلقى على عاتقه. أما في الأمنية الثالثة والأخيرة التي ستضعنا على مشارف نهاية النص التنويرية فيقول:
(ليتني،
كنتُ "هانيبال"،
قهَر "الألب").
وهانيبال، كما هو معروف، قائد قرطاجي عُرف بحيله وتكتيكاته الحربية العديدة، وقد قهَر جبال الألب، وإحتل معظم الأراضي الإيطالية. وعلى الرغم من صعوبة قهر هذه السلاسل الجبلية الشاهقة، إلا أن الشاعر يقبل بهذا التحدي لأنه أيسر بكثير من الواجب المُلقى على عاتقه، والتحدّي الذي سيخوصه في نهاية النص. ثم يصف الشاعر غزوات أولئك القادة العظام بأنها في غاية السهولة واليُسر، بل أنهم سعداء جدًا، فيما يتمرّغ هو بحزنه وتعاسته. ولكي يُقنع المتلقي بسبب يأسه وتعاسته فإنه يطرح على نفسه هذا السؤال الاستفهامي العسير الذي يقول:
"أمّا أنا فيَالَتعسي!
كمْ قرْناً آخرَ عليَّ
أن أغزو قلبك الطلّسم؛
حتّى...يؤويني كوكبُ"فينوس؟!"
هنا فقط يستوعب القارئ طبيعة التحدّي المُلقى على عاتق الشاعر جلال زنگابادي، لأن كل الغزوات المُشار اليها سلفًا هي سهلة فعلاً، إذا ما قيست بغزوته هو لقلبها الطلّسم، هذا القلب المُلغِز والأسطوري الذي خلق المعجزات التي توازي معجزات الأنبياء والعباقرة وأصحاب الكرامات، وربما تبزّهم جميعًا لأنها أسقطت (راء) الحرب، وحوّلت الحياة الى فردوس للعاشقين. فإذا ما غزا الشاعر قلب الفتاة التي يحبها فإنّ كوكب فينوس سيؤويه ويمنحه الأمان الذي يبحث عنه وهو غارق في تحدياته وغزواته المستحيلة. ولا شك في أنّ القارئ الكريم يعرف جيدًا بأن كوكب (فينوس) إنما سمّي كذلك لأن هذه الأخيرة هي إلهة للحب والأنوثة والجمال. وما لم يُحِط القارئ نفسه بهذه المعلومات التاريخية والفلكية فإن النص سيظل عصيًا ومستغلقًا ومليئًا بالشفرات الغامضة التي تحتاج الى منْ يفكّ طلاسمها مثلما يفّك العاشق قلب معشوقته الطلّسم.
بنية التوازي
تعتمد قصيدة (ما وراء الأحلام) على بنية التوازي القائمة بين العاشق والمعشوق في هذا النص، فهو لم يفارقها، ولم يتخلَّ عنها، بل أنه مازال يبحث عنها وراء سبعة بحار. وغالباً ما يرتبط هذا التوصيف بالبُعد والنأي وإشتطاط المزار، غير أن مفارقة هذا البحث الدؤوب تنتهي بأنها موجودة في أعماق روحه، بينما هو منهمك في البحث عنها فيما وراء البحار. أما المعشوقة التي تمثل الطرف الآخر من هذه المعادلة أو هذه البنية فهي الأخرى لم تزل تبحث عنه فيما وراء سبعة جبال غير أنه موجود في قلبها. وطالما أنها موجودة في روحه، وهو موجود في قلبها، فما الذي يمنع لقياهما في عنوان هذه القصيدة في الأقل، (ما وراء الأحلام) كي يتخلصا من لعنة ( الاغتراب المستديم)، وينيرا ديجور حياتهما في الأقاليم السبعة التي أصبحت رمزًا لغربتهم واغترابهم. وما الذي يحول دون اقترانهم كي تصبح (عروس لياليه وأصباحه؟)
قد تبدو بعض قصائد هذا الديون على أنها قصائد حُب لا غير، تتناول أحوال العاشق والمعشوق ولا تخرج عن فلكهما إلاّ لماما. وعلى الرغم من صحة هذا التوصيف إلا أن قصائد زنگابادي تتوفر في معظمها على نَفَس صوفي واضح، ورؤيا فلسفية وجودية، أي أن التأويل الظاهري لا ينفع لوحده لملامسة البنى الداخلية العميقة لهذه النصوص متعددة الأبعاد والمستويات. لنمعن النظر في قصيدة (يا لكِ من بحر!) التي تتضمن مستويات عديدة، كما أنها تحتمل قراءات مختلفة. فمن المعروف كمُسلّمة بديهية أن كوردستان العراق لا بحر فيها، غير أن شاعرنا الولهان متيّم بحب امرأة ستكون صنّواً لهذا البحر الذي ابتكره الشاعر، أو على الأصح البحار التي أوجدها الشاعر بواسطة مخيّلتة المتوهجة التي تعوّضه دائمًا عن خساراته الكبيرة وعن الأشياء التي يفتقر إليها. يا تُرى، ما هي طبيعة البحار التي استدعتها مخيّلة زنگابادي؟ واعتمادًا على بنية النص الفنية نقول: يمكن للقارئ الكريم أن يتلمّس ضنك الشاعر ومحنته اليومية من خلال قساوة الحياة التي يمر بها، فوقته "بحرٌ من القار!" وأكثر من ذلك فإن عِشقه هو (بحر بلا ضفاف) فما أشقى المُحِّب الذي يعوم في بحر لا ضفاف له؟ ومما يزيد الطين بلّة فإن (بحره أو محبوبته لا فرق!) عميق جدًا بما لا يتحمله العقل البشري، فهو أعمق من أي بحر آخر! ثم يعقِد الشاعر مقارنة بين معشوقته التي أحبها وكرّس حياته لهذا الحُب، وبين البحر العميق، الواسع، الذي لا ضفاف له. ثم يخلص الى القول بأنهما صنوان لبعضهما بعضًا (في الجمال والمكر والبخل والاختيال) فقلبها يهتاج مثل أغوار البحر وأعماقه المضطربة النائية، ووجهها يغضب مثل وجهه الذي تتشكّل على سطحه الأمواج العاتية. قد يسأل البعض سؤالاً منطقيًا مفاده: هل أنّ صفات البحر تكمن في الجمال والمكر والبخل والاختيال فقط ؟ أليس البحر كريمًا وهادئًا ووديعًا في بعض حالاته؟ الجواب، نعم، لكن الشاعر تناول حالة المّد والغضب والاهتياج فلابد أنه يتلقّف كل ما يصادفه في طريقه عندها يصبح انتزاع أي شيء منه ليس أمرًا يسيرًا. دعنا نتأمل الأبيات التالية التي تكشف عن سعتها وعمقها واصطخابها، فهي كما أشرنا سلفًا صنّو للبحر، فلا غرابة إن زخرت أعماقها بالكنوز والأهوال.
"ياه!
ما أخطرك!
لكَمْ
يروّعني
وسعك، عمقك وتصخابكِ !
أيتها الزاخرة بالكنوز والأهوال!"
وعلى الرغم من كل معالم الخشية والرعب والأهوال التي يتوفر عليها هذا البحر القُلّب إلا أن القلب الغرير للشاعر قد اختطف سحرها وانخطف بها، فمن الصعب على قلب الشاعر المتماهي بالحبيبة أن ينتزع شيئًا من القرصان الذي اعتاد أن يسرق ويختطف، لا أن يمنح أو يبذل العطاء. وكعادة زنگابادي في صياغة النهايات التنويرية لقصائده دعونا نتأمل هذه النهاية الفنية التي يقترحها علينا لوصف حالته النفسية التي جاءت بصيغة استفهامية ممضّة.
{فحتّى مَ يظلّ قلبي المسحور
يغرق في أغوارك ظمآنًا
أما تشهدينه يغطّ
يستغيثُ:
" وكيف منجايَ وقد حفّ بي
بحرُ هوىً ليس له شطُّ؟!"}
إذًا، لقد انتهى قلب الشاعر غريقًا، غاطًا، مٌستغيثًا يحفُّ به (بحرُ) هوىً لا شاطئ له. وهو ذات البحر العميق، الواسع، المصطخب الذي كان يبحر فيه الشاعر نحو ضفاف لا مرئية !
الروح والجسد
تشترك معظم قصائد هذا الديوان، كما أشرنا سلفًا، بثيمة الحُب التي تربط بين العاشق والمعشوق، فلا غرابة إذًا حينما يهيمن ضمير المتكلم، ويرتفع النَفَس الأنوي. ففي قصيدة (قدّاس للجسد) التي كتبها زنگابادي عام 1969م التي تتحدث عن الحُب وتجلياته ضمن طقس خاص جدًا خصّ به الجسد تحديدًا. لا يخفى على القارئ الأسلوب الذي اعتمده زنگابادي في بناء هيكل النص الذي يقوم أيضًا على ثنائية المحب والمحبوب. فثمة عالمان منفصلان، الأول يمثل عالم الجسد بحسب بنية النص الشعري، والثاني يمثل عالم الروح. فالشاعر أو المحب لا يزال يلهج بأن كل ما هو مادي زائل (لهمو) وكل ما هو (روحي) خالد هو له على وجه التحديد.
لنقرأ هذه الأبيات المعبِّرة التي تكشف عن بنية التوازي التي يعتمدها زنگابادي كثيرًا في نصوصه الشعرية.
"مابرحت ألهجُ:
- كلّ القطعان لهمو، ولي أنت وردة عبر العصور.
كلّ البنوك لهمو، ولي قبلاتك
كلّ المرايا لهمو، ولي عيناك الوسيمتان"
لا شك في أنّ ثنائية العاشق والمعشوق قد توضحت في قصائد زنگابادي، كما سلّطنا الضوء غير مرة على بنية التوازي التي تعين النقاد والدارسين على تتبع مسارات القصيدة منذ الاستهلال، مرورًا بالذروة حتى الوصول الى النهاية التي يقترحها الشاعر. أودّ الاشارة فقط إلى أنّ قصيدة (قدّاس للجسد) تتميّز عن باقي قصائد هذا الديوان بمنحاها الشكلي المتفرِّد الذي يجمع بين نمطين وهما، الشكل العادي المتبّع في كتابة قصيدة النثر، والشكل الذي تكتب فيه أية مادة منثورة كأن تكون صفحة من رواية أو من مقال نقدي حيث تغطي الأسطر مساحة الصفحة كلها من اليمين إلى اليسار، ومن الأعلى الى الأسفل. والغريب أن هذه القصيدة مكتوبة في أواخر الستينات من القرن الماضي في حين ادعى بعض شعراء السبعينات والثمانينات من القرن الماضي أنهم حققوا قصب السبق في كتابة هذا النمط الشكلاني من قصيدة النثر. ونورد فيما يلي الأنموذج التالي:
" تجتازين أسلاك القلق الشائكة محبوسة الأنفاس، ساطعة كبروق لا تحدّ، تتحلقك آفاق الصمت الزاهية طيورًا تكتسح مفازة دمي؛ فيرفرف قلبي خارطة تموج بالمروج، وتتصاعد سارية الوجد في هذي القصيدة، إذ نتخاصر، نستنشق عيوننا الظمأى نافثين أغوارنا السحيقة، يخفق شراع قلبينا بعنف الهمس، وتنسبل جفوننا المشدوهة كلما نغرف قبلة شاسعة، وبأنامل تختلج بالبعاد نمسّد جسدينا، تعصف أغوارنا بموسيقى تجتاح الرياح، ونحن نمرّغ كلّ المنافي على صدرينا المتساحقين بألف غصة ".
ثمة قصيدة أخرى تحمل عنوان (هيولي حرفين) سنتوقف عندها لأكثر من سبب: الأول هو رغبتنا في الاشارة الى الكلمات الغريبة (الحوشية تحديدًا) التي يوظفها زنكابادي في قصائده، هذا اضافة الى اشتقاقاته اللغوية الفريدة التي لم يسبقه اليها أحد والتي وردت، ليس في هذا النص، وإنما في نصوص أخرى أثرتْ المناخ العام لهذه القصائد، ودحضَ من خلالها ما يصطلح عليه البعض بـ (الكلمة الشعرية) التي تستجيب لسياقات النص الشعري، على افتراض أن هناك كلمات غير شعرية لا يمكن استعمالها في كتابة نص شعري متوهّج.
فكلمة (هيولى) التي ترِد هنا تعني بالانكليزية (Nebulous, Nebular, Chaotic) وهي لاتينية الأصل، غير أن الشاعر زنگابادي الذي أتقن هذه اللعبة قد طوّع هذه الكلمة الأجنبية وكيّفها لسياق نصه الشعري المكثف الذي يشبه الأحجية التي تحتاج الى منْ يفّك ألغازها وطلاسمها. فكلمة (Nebula) تعني باللغة العربية (الهيولى) أو (السديم) أو (المادة غير المتشكِّلة). وهذا التعريف يخدم النص، ويثريه لأن الحرفين (ح) و(ب) ظلا مفترقين لآلاف السنين وكأنهما في سديم متواصل، ثم انتبه زنگابادي إلى امكانية توظيف هذه الحالة الفلكية المُلغزة، على الصعيد الفني في الأقل، فاستحال قلبها نقطة تحت الـ (ح) وقلبه نقطة فوقها، فيما اندمجت النقطتان تحت الـ (ب)، ثم راح هيولى الاسمين يجهر بكل اللغات معلنًا اكتمال ملحمة الحُب على ضفاف (سيروان). وربّ سائل يسأل عن معنى هذه الكلمة الكوردية، فهي تعني بالعربية (نهر ديالى). وعلى الضفة الشرقية لنهر ديالى، وتحديدًا في قرية (زنگاباد) وُلِد شاعرنا المبدع جلال نگابادي لكي يدوِّن لنا هذه الملحمة الإنسانية المباركة.
التعالق النصّي
لابد من الاشارة الى أنّ زنگابادي قد بدأ القراءة والتثقيف الذاتي بوقت مبكر جدًا، وربما كان أوفرنا حظًا لأنه كان يقرأ بخمس لغات: العربية،الفارسية،الكردية، التركية والإنكَليزية (وتعلّم الإسبانية لاحقاً)، بينما نحن أدباء مدينة جلولاء كنا نقرأ باللغة العربية والإنكليزية التي درسناها وتعلمناها لاحقًا. ومَفاد هذه الاشارة أن قراءات زنگابادي لابد أن تجد طريقها الى نصوصه الإبداعية على شكل إشارات وإحالات أو اقتباسات كما هو الحال في قصيدة (يدُكِ) أو غيرها من القصائد التي آثر مبدعها أن تتلاقح بنماذج كونية معروفة. ثمة مقتطف قصير جدًا، لكنه عميق الدلالة، اقتبسه زنگابادي من قصيدة (يدا جان ماري) لرامبو ليكون جزءًا مهمًّا من سياق البنية الداخلية العميقة لنصه الشعري؛ وهذا المُقتبَس يقتصر على الـ (يدين مقدّستين) لجان ماري لا غير! ولكن لننظر إلى حذاقة الشاعر ودربته في هذا المضمار؛ فيدُ المحبوبة التي أخذت القصيدة شكلها ومضمونها هي يدٌ مباركة تنطوي على معجزة ما ؛ فأنامل هذه اليد، المليئة بالأسرار، هي (أنامل عاشقة معشوقة) في آنٍ معًا، وأكثر من ذلك فهي (ترى وتسمع وتتذوق... وتُحيي وتُميت ثم تخلّد هذا الشاعر!). لقد استعمل زنگابادي في هذا النص الشعري المكثّف (27) فعلاً تنطوي جميعها على حركات السماع والرؤيا والتذوّق والمُحاوَرة والصدّ والدعوة والإطعام والتعرية والإكساء وما الى ذلك من أفعال حميمه تصب في مصلحة الشاعر، وتكشف عن حجم الرعاية الكبيرة التي يلقاها من هذه اليد المقدسة الحانية التي بات يعرفها القارئ الكريم وهي يد خولة نوري. ثم يختتم قصيدته بالتساؤل التالي:
{فواحناناه!
" يا يدين مقدّستين"
أأنتما من معجزات الطبيعة أم ربِّ العالمين؟!}
هكذا يكون التعالق النصّي الذي يسهم في إثراء القصيدة وتعميق مضمونها الذي اعتمد على تلاقح البنية الأساسية لمبدع النص وخالقه مع جينةٍ نابضة مُستأصَلَة من نصٍ آخر ينبئ كلاهما بأنهما قادران على الحياة في النص الجديد الذي اقترحه الشاعر الأمهر جلال زنگابادي.
تشترك قصيدتا (هلالُ وقتي) و(حلُم لا يذوي) وقصائد أخرى لاحقة، بمناخ عاطفي واحد؛ إذ يحتل القلب مكانة مهمة في هندسة البناء النصي الرصين الذي يعتمده الشاعر دائمًا في نصوصه الشعرية الآسرة. ولو توخينا الدقة المنظورية لوجدنا أن الشاعر الولهان محاصرٌ من (الجهات السبع)، غير أن هذا الحصار ليس ممضًا طالما أن هلال وقته (يهِّل) من عينيها، ويحدب عليه مثل أم رؤوم، وكلنا يعرف بأن الأم أو العاشقة الحادبة عليه إنما تُظهِر أعلى درجات الحنّو وتكشف عن ذروة عاطفتها الإنسانية النبيلة تجاه الكائن الذي تعلّقت به وتماهت بكينونته الرقيقة، لذلك فهو واثق مطمئن، ولا يخشى الافتراق طالما أنّ (هالة قلبه تحبسُ قلبها). تتكرر هذه الثيمة في مطلع قصيدة (حُلم لا يذوي)، فـ (قلبهُ العفريت) الذي يجرح الاشواك! تجرحه (وردتُها بطيش كنوزها) ومع ذلك فهو يناجيها، ويناغيها لأنها تهبه كل شيء تقريبًا في عالمه العاطفي الذي قد يأخذ شكل النظرات أو البسمات أو العناقات أو القبلات أو الأحلام الى أن يقول في خاتمة النص:
"لا أسعدَ منّا
إنْ استحالَ حلمُنا
في بحبوحةِ المستقبلِ
كوكبًا لا يذوي!"
إذا كان الحُلم قد تحول الى (كوكب لا يذوي) في النص السابق فإن القلب، في قصيدة (ما أجهلني)، الذي يخاله الشاعر فولاذًا سيتمغنط هو الآخر بفعل سحرها الغاوي، وسيتحوّل الى شحّاذ، مرتعد الأطراف في حضرة سلطان جائر! وفي قصيدة (أيّ زمهرير) سيتحوّل قلبه إلى (فريسة) لأن عِشقها (الصقر) قد انقضَّ عليه من شاهق السماء، لكنه أراقَ في عروقه سُمًّا يحيي عظامه الرميم!
كنا قد أشرنا سلفًا إلى أن غالبية قصائد هذا الديوان تتوشح بغلالة صوفية شفافة؛ فزنگابادي يتحرك دائمًا في المساحة المجازية أو الرمزية التي تلي المنطقة الواقعية أو الحقيقية في علم الكلام. وهو لا يميل الى اللغة المُباشِرة التي توثِّق ما تراه بعين تسجيليه؛ فالشعر من وجهة النظر الإبداعية لابدّ أنّ يهّز مشاعر المتلقي، ويحلّق به الى المصاف التي يرتقي اليها الشاعر في أويقات الخلق والإبداع. دعونا نحلل هذا النص الشعري القصير الذي إنضوى تحت عنوان (تالعِشقِ لو...) الذي يرد فيه (القلب) ككلمة محورية وثيقة الصلة بالثيمة الرئيسة للنص الشعري. وقبل الولوج في تفاصيل هذا النص المشذَّب لابدّ من الاشارة إلى أن (التاء) في (تالعِشقٍ) هي حرف جرَ للقَسَم.
بدأ زنگابادي نصه بسؤال صريح لا لبِسَ فيه:
"أليسَ قلبي
أقسى من الحجر
إنْ ينبضَ دون آلاءِ روحِكِ الساحرة؟"
والجواب، نعم، إن أصبح قلبهُ أقسى من الحجر إذا نَبَضَ من دون نِعَمِ روحها الساحرة! فكيف ينبض هذا القلب، وحبيبة قلبه قد فارقته أو نأت عنه لسبب ما؟ ثم يقسم هذا الشاعر الصوفي المدَنَّف بالعِشق صارخًا:
{تالعشقِ لوْ مسّ فراقُك أيَّ صخرة
لَصَرخَ قلبها الأبكم:
-"أغيثوني"
وإلاّ
لِمَ انتحبَ قلبُ الغيمِ
مع قلبي إذْ
ودّعك
في مهبّ الضيم
ذات افتراق؟!}
أشرنا في قصيدة (يدُكِ) الى أهمية التضمين حتى وإن كان عبارة أو صورة شعرية أو بيتًا من الشعر، غير أن هذا التضمين أو الاقتباس يجب أن يكون مدروسًا كي يتم توظيفه بطريقة فنية تخدم النص وتثريه كما هو الحال في قصيدة (أي عجب) التي كتبها الشاعر وهو مسكون بأسطورة (شيرين وفرهاد) الغنية عن التعريف. والذي يطلع على النص سيكتشف أن زنگابادي لم يأخذ من هذه الأسطورة سوى كلمة واحدة وهي (بيستون)، ولكنه يحيل إليها كلها، ولا يمكن فهم القصيدة واستيعابها ما لم يكن القارئ مطلعًا على تفاصيل هذه القصة الأسطورية التي وظفها مؤخرًا المخرج الايراني المبدع كياروستمي فيلمه الجميل (شيرين) ونال استحسان النقاد والمشاهدين على حد سواء. تتمحور قصيدة (أي عجب) على مناشدة قلب المحبوبة، الفكرة التي تكررت كثيرًا، غير أن المعالجة الفنية تختلف من نصٍ الى آخر. ففي منتصف هذه القصيدة نسمع الشاعر وهو يترحّم من خلال كلمة (ويْحكَ) التي تنمُّ عن الوجع الذي يشعر به. ثم يردف تساؤله الأول بصيغة استفهامية ثانية مفادها (أيَّ صخرٍ تكون؟)، أو بمعنىً آخر: من أي صخرٍ قُدَّ قلبك الصلد هذا؟ ثم يلعن هذا القلب حينما يخاطبه قائلا:
"تبّاً لك
حتّى لو كنتَ جلموداً أصمَّ
لَشقّكَ شعري
فأيّ عجبٍ
إنْ رثاني"بيستون؟!"
وإذا كانت أشعار زنگابادي قادرة على أن تشّق هذا الجلمود الأصمّ الذي لا يختلف كثيرًا عن جبل (بيستون) الذي شقّه العاشق فرهاد تلبية لطلب معشوقته شيرين " فأي عجب أو غرابة إذا رثاه هذا الجبل محوّلاً إيّاه الى أسطورة تتناقلها الألسن على مرّ الأزمنة.
سنكتفي بهذا القدر من التحليل المنهجي لبعض قصائد ديوان (ها هي معجزتي!) لجلال زنگابادي آملين أن تُتاح لنا فرصة أخرى لاستكمال هذه الدراسة النقدية التي خففت عن كاهلي وطأة الاحساس بالمسؤولية والتقصير تجاه شاعر مبدع ووفي لتجربته الشعرية التي تمتد إلى أربعة عقود بذل خلالها جهودًا أسطورية في القراءة واكتشاف الذات والعالم قبل الولوج إلى مملكة الكتابة التي أمدّته بإكسير الحياة.
نخلص إلى القول إن قصائد جلال زنگابادي لا تقتصر على الحُب بوصفة ثيمة شعرية أو بؤرة ارتكازية للنص الشعري الذي يكتبه، وإنما هناك طبقات أُخرى؛ إذ يمكن تلمّس النَفَس الصوفي كما أشرنا. وليس عصيًا على القارئ الحصيف الذي يستطيع تفكيك النص إلى عناصره الأولية المكونة له، أن يفهم الصياغات والبنى الشعرية التي اجترحها الشاعر بما تنطوي عليه من رموز وإشارات ودلالات سياسية واضحة خصوصًا وأن الشر في قصائده يأخذ شكل الطغاة والجبابرة أو الصلبان المعقوفة ذات الدلالة النازية الصريحة التي كانت تطمح في السيطرة على العالم بحجة الحكاية المزعومة التي تدعي بتفوق الجنس الآري.
***
عدنان حسين أحمد