قضايا

علي حسين: اليوم العالمي للفلسفة

أنا اندهش إذن أنا اتفلسف

كانت تنظر إليه وهو يسير في طريقه لا يلتفت الى أحد، لم يكن يسير كما يفعل معظم الناس ممن يعرفون هدفهم ويتأكدون من مواضع أقدامهم. فقد كان رافعاً رأسه الى السماء ومشغولاً بتأمل النجوم. وما هي لحظات إلا ويجد نفسه قد وقع في حفرة لم ينتبه إليها، هذا المشهد الغريب استهوى المرأة التي تتابع " طاليس المالطي " الذي اشتهر في بلاد الإغريق قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام بتنبوئه بحدوث كسوف للشمس، يكتب برتراند رسل ان حكاية طاليس المالطي لا يستحق من خلالها لقب اول فيلسوف وانما ايضا لقب " اول الاساتذة شاردي الذهن "، وتقول الحكاية ان المرأة عندما رأت الشيخ المهيب يقع في الحفرة أطلقت ضحكة عالية وهي تقول له:" أنَّى لك أن تعلم كل شيء عن السماء يا طاليس وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟".

ماذا تعني ضحكة المرأة التي يقال إن بها بدأت قصة الفلسفة؟ أكان بمحض الصدفة أن يجد طاليس نفسه موضع سخرية؟ هل نفهم إن التفلسف يخالف المألوف في الحياة؟، وإنه في بعض الأحيان يصبح موضع استنكار وسخرية، يخبرنا افلاطون ان هذه الضحكة هي الجواب الذي يردُّ به " العاقلون" و" العمليون" في الحياة اليومية على كل سؤال فلسفي.

كان طاليس المولود عام " 624 ق.م " اول من تساءل عن الحقيقة القائمة وراء الاشياء الطبيعية، وحاول تفسيرها لا على غرار المؤمنين بالاساطير والخرافات، بل على غرار العلماء، فبفضل هذا الرجل الذي كان قصير القامة، على شيء من الوسامة، عكس سقراط كان يهتم بمظهره الخارجي، انتقل الفكر من الاسطورة إلى المنطق، ونجد ارسطو في كتابه " ما بعد الطبيعة " يؤكد ان طاليس خطى بالفلسفة خطوة الى الامام، ذلك انه اسس مبدأ الدهشة، وكيف كانت هذه الدهشة باعثا على النظر، ولهذا نجد ان اول الاشياء التي اثارت الدهشة عند طاليس هي حركة القمر والشمس والنجوم، ثم نشاة العالم، ويضيف ارسطو ان " طاليس مؤسس نوع من الفلسفة يرى ان المبدا الاول للاشياء هو الماء " ويقال ان هذه الفكرة استمدها طاليس من البابليين حيث تحكي احدى الاساطير البابلية بأن " كل شيء كان بحرا.. وقد وضع الإله مردوخ حصيرا من القصب فوق سطح الماء فتراكم عليه الطين "، لكن طاليس استغنى عن الآلهة واستبدلها بعمليات طبيعية، وفي هذا يكون طاليس انتقل بنا من التفسير الاسطوري الى التفسير العقلي للاشياء، وهو في محاولة بحثة عن مادة طبيعية تكون اصل العالم، كان يسعى الى تبسيط ظواهر العالم وتوحيدها، والأهم كان يسعى الى المعرفة، عوضا عن الاستعانة في تفسيره بكثير من الآلهة.

يكتب برتراند رسل ان قدرة الإنسان على الاندهاش هي قدرته على البقاء إنسانًا، طالما بقي في استطاعته أن يسأل مَن هو الإنسان؟ إن دهشته نابعة من إحساسه بوجوده، في محاورة " المأدبة " لافلاطون – ترجمها الى العربية مجدي عبد الحافظ - تقول ديوتيما موجهة حديثها إلى سقراط: ما من أحد من الفلاسفة يتفلسف، والحمقى كذلك لا يتفلسفون، ذلك لأن ما يفسد في الحمق أن يتوهم الإنسان أنه مستغنٍ بنفسه." ويمضي سقراط قائلًا: " سألتها مَن هم الفلاسفة إذن يا ديوتيما، إن لم يكونوا هم الحكماء ولا الجهلاء؟ " عندئذٍ أجابت قائلة: " إن هذا لأمر واضح حتى للطفل، إنهم أولئك الذين يشغلون من الفئتين مكان الوسط "، هذا الوسط هو الذي قال عنه باسكال عبارته المشهورة: " نحن لسنا شيئًا، نحن نأمل أن نكون".

في كتابها " الدهشة الفلسفية " – ترجمه الى العربية محمد آيت حنا – تكتب جان هرش ان الدهشة هي الخصيصة المميزة للانسان، فالدهشة اساس الشرط الانساني، وربما يقول البعض: هل ما يزال بوسع الانسان المعاصر ان يندهش وهو يعيش في عصر التكنلوجيا المتطورة، ويعتقد على الاقل ان العلم كشف له كل شيء؟، هل يمكن أن تساعد نصائح فيلسوف مثل ابيقور عاش في اواخر القرن الرابع من الميلاد، على ان يستمد منها شاب يعيش عام 2020 النجاح؟، وهل يصلح فيلسوف الماني مثل ايمانويل كانط، اثار الجدل بحياته الغريبة، ان يصبح معلما ويشير لنا نحنن أبناء هذا القرن والحروب، الى اهمية بناء مجتمع ديمقراطي يحمي حريات الافراد، وينشد السلام، صحيح ان تاريخ الفلسفة يخبرنا ان ايمانويل كانط عاش حياته من خلال الالتزام بنظام حياتي صارم،كان يستيقظ في الخامسة صباح كل يوم، يخصص ثلاث ساعات للكتابة، وبعدها يذهب الى الجامعة يلقي محاضرات لمدة اربع ساعات فقط، لاتزيد ولا تنقص، يتناول الطعام في مطعم واحد لم يغيره لمدة اربعين عاما، بعد الظهر يذهب في جولة رياضية، ثم يعود الى البيت ليقرا وينام الساعة العاشرة مساء بالضبط ..وكان جيرانه يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه وعودته، كان كانط يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة، فهو يعتقد ان من المهم ان يطول عمر الإنسان، وكان يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها، وظل مدير الشرطة يوافيه شهرياً بحالات الوفاة التي تقع في المنطقة القريبة من بيته.

ما الذي فعله هذا الرجل الذي عاش حياة نمطية مستقرة، بحياتنا نحن ابناء هذا القرن؟.. يعتقد الكثير من القراء أن الفلسفة تقول شيئا لا يفهمه الناس، ويهتم به النخبة فقط . ولكننا ياعزيزي عندما نتعرف على سيرة المرحوم إيمانويل كانط سنكتشف ان الرجل تدخل في معظم شؤون حياتنا، فمن بيته الصغير في مدينة كونيغسبرغ عمل بجدارة وتصميم على تهديم لأفكار قرون مضت، وساهم في توجيه العالم اكثر مما ساهم الاباطرة وزعماء الدول، فاذا كنت تنعم بالديمقراطية لا بد ان تعرف ان كانط كان قد اعلن في كتابه " ميتافيزيقيا الاخلاق " والذي ترجم الى العربية باكثر من ترجمة اشهرها قام بها عبد الغفار مكاوي، والاخرى ترجمها محمد فتحي الشنيطي، وفيها يقول ان لكل انسان كرامة اصيلة ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها، وكان اول شخص يتصور تاسيس هيئة عالمية قادرة غلى ضمان السلام في العالم وكانت هذه الفكرة التي طرحها في كتابه " مشروع للسلام الدائم " ترجمه ال العربية عثمان امين، هي التي اوحت بتاسيس منظمة الامم المتحدة، وستساهم شروحه العميقة عن المكان والزمان في ان يتوصل آينشتاين الى تحقيق نظريته النسبية.. وتقول جان هرش في كتابها " الدهشة الفلسفية " ان كانظ سيظل يشغل العالم اكثر من غيره من الفلاسفة، فهو وحده الذي استطاع ان يغير زوايا نظر الفكر الفلسفي ومفاهيمه تغييرا جذريا، ولهذا تتفق هرش مع مارك مانسون صاحب كتاب " خراب " الى انه اذا اهملنا كانط لن يكون بمقدورنا ان نفهم شيئا عن التطور الفلسفي الذي حصل بعده.كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا.

كانت الفلسفة في العقود الماضية تعد مجالا معرفيا معقدا لا يقصده إلا المتخصصون، فلماذا خرجت في السنوات الاخيرة من الفضاء الأكاديمي الخاص والمحدود إلى الفضاء العام الرحب ولاقت رواجا بين القراء؟

يعزو الفرنسي ميشيل اونفري، رواج الفلسفة إلى الأزمات العالمية الحالية، ويقول إن الفلسفة الأخلاقية والعلاجية ازدهرت أيضا في العصر الهلنستي الذي شهد تحولات كبرى، تزامنا مع انهيار الدويلات اليونانية، وصعود قوى عظمى مثل الإمبراطورية المقدونية والإسكندر الأكبر.

ويرى آلان دو بوتون أن القرن العشرين كانت تسوده روح التفاؤل والإنجاز، وزاد الناس ثراءً، ومن ثم زاد الإقبال على المبالغة في الشراء بلا اكتراث. ثم فوجئ العالم بأزمة الائتمان، وتلاشى هذا التفاؤل. وتساءل الناس عن دوافعهم وأهدافهم في الحياة، ومن هنا ظهر الشغف بكتب النصح والإرشاد. ويقول دو بوتون إن أعلام الفلسفة القديمة دأبوا على تقديم هذا النوع من الحكم والنصائح، بمعنى أن هذه الكتب تركز على جوهر الفلسفة كما كانت في أول عهدها.

لجأ الناس للفلسفة بحثا عن نصائح تساعدهم على مواجهة تحديات الحياة ووجدنا روائية مثل سارة بكويل تؤلف كتابا بعنوان " كيف تعاش الحياة او حياة مونتاني " – صدرت مؤخرا الترجمة العربية للكتاب عن دار التنوير " حيث ترشدنا الى ان مونتاني يرى أن الحياة فنّ، وعملية بدهيّة للاكتشاف والتفكّر وإيجاد المتعة خلال رحلتنا فيها.. وكانت كتابات مونتاني التي اختار لها عنوان " المقالات " محاولة كما يقول لان يُمنح الانسان فرصة، وان يجرب الحلول للمشكلات التي تحيط به، كان مونتاني يقرأ كثيرا، ويعلق كثيراً على ما قرأه، متطرقاً الى معظم أوجه المعرفة يكتب:" إن أعظم ما في العالم أن يكون المرء نفسه "، وقد تجمعت له من مقالاته اكثر من كتاب حيث نشر عام 1580 كتاب " المقالات " بجزئين ثم أضاف لهما جزءاً آخر. كان ياسبرز اول من اطلق صفة الدهشة على الفلسفة حيث اكد ان الفلسفة تمثل الدهشة، وهذه الدهشة تدفع الانسان الى المعرفة:" حين اندهش، معنى هذا انني اشعر بجهلي فانا ابحث عن المعرفة بغية المعرفة ذاتها، فالتفلسف يقظة "، ويبدو ان هرش استمدت العنوان من استاذها الذي تنقل من دراسة الطب الى ممارسة العلاج النفسي، الى التفرغ للفلسفة، وقد كان لهرش لقاءات مع هايدغر وسارتر، وتولت رئاسة قسم الفلسفة في منظمة اليونسكو وقد توفيت عام 2000، بعد ان تركت عددا من الكتب المهمة كان " الدهشة الفلسفية " واحدا منها.. في الكتاب، تاخذنا هرش في سياحة فكرية ممتعة مع كثير من الفلاسفة تبدأ من طاليس وتنتهي عند استاذها كارل ياسبرز

" الفلسفة مغامرة مدهشة " هكذا يضع لها كارل ياسبرز تعريفا في كتابه " مدخل الى الفلسفة "..وهي شكل غريب من الحوار بدأ في اليونان القديمة قبل ما يقارب الألفين وخمسمائة عام.. حيث بدأ الفلاسفة تُحركهم تجربة ما او احساس ما يعصف بهم فضولاً واهتماماً وشغفاً، وهو لا حقا ما يدفعهم لطرح الاسئلة..اسئلة تبدأ بـ " لماذا؟ ". يريدون اجوبة لاسئلتهم، اي يريدون ان يفسروا لِمَ هي الاشياء على ما هي عليه؟.. فالفلاسفة يأسرهم التساؤل والبحث عن الاجابة دائما.

كان كانط يعتقد بأن ما يجعلنا بشرا، على خلاف الحيوان، هو قدرتنا على التفكير بطريقة نقدية في اختياراتنا. سنشبه آلات إذا لم نكن نفعل الأشياء عن قصد ووعي، وظل كانط يؤمن هو أنه لا يجب على الشخص استعمال الناس بل معاملتهم باحترام، والاعتراف باستقلالية الناس الآخرين و قدرتهم كأفراد على اتخاذ قرارات معقولة لأنفسهم. هذا الاحترام لكرامة وقيمة المخلوقات البشرية الفردية، هو أصل السؤال الفلسفي وغاية الدهشة التي جعلت طاليس يقع في الحفرة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم