قضايا
مراد غريبي: النقد كممارسة نزيهة!!
مفتتح: يمثل النقد الفلسفي ممارسة معرفية جوهرية قوامها الاستجواب المنهجي والفحص الدقيق للافتراضات الكامنة والبنى المعرفية. غير أن هذه الممارسة تواجه انحرافاً نظامياً معاصراً حيث تتحول من فعل بنائي موجه نحو الكشف عن الحقيقة إلى أداة تفكيكية موجهة نحو الهيمنة والإقصاء.
هنا تتحدد الإشكالية المحورية في السؤال الإبستيمولوجي الآتي: كيف يمكن للنقد، الذي يستمد شرعيته من الرغبة في الاستكشاف المشترك للحقيقة، أن ينقلب إلى آلية للتدمير الرمزي والنفي الكلي للآخر المعرفي؟
هذا التساؤل يعكس توتراً أساسياً يخترق التراثين الفلسفيين الغربي والإسلامي على السواء، كاشفاً عن التناقض بين الحافز المعرفي النزيه والنزعات الذاتية التي قد تفسد المسار النقدي.
حول الانحراف النقدي
لاحظ الفيلسوف والمنطقي ماريو بونج (Mario Bunge) تمييزاً أبستيمولوجياً جوهرياً بين طبيعة الممارسة النقدية في حقل العلوم الطبيعية حيث يسود النقد البنائي التشاركي، وفي الحقول الإنسانية حيث يميل النقد نحو التفكيكية المحضة. هذه الملاحظة، وإن كانت قابلة للمناقشة، تحيل إلى حقيقة بنيوية تتعلق بطبيعة الكائن المعرفي ذاته: في المجالات العلمية يقبل الباحثون مقدمات معيارية مشتركة حول الحقيقة والبرهان، بينما في المجالات الإنسانية يتنازع المفكرون حول المقدمات الأساسية ذاتها، مما يحول النقد إلى صراع إيديولوجي حول الشرعية المعرفية والسلطة التفسيرية.
لقد عرف الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وخاصة عبر منهجية الإمام الغزالي (Al-Ghazali)، نموذجاً متطوراً للرد الفكري يتجاوز هذا الانحراف. في كتابه "تهافت الفلاسفة"، لم يكتفِ الغزالي بتفكيك الموقف الفلسفي، بل سعى إلى استعادة التناسق المنطقي والاتساق المفاهيمي من خلال الاعتراف بقيمة الافتراضات الأساسية للخصم. وهذا يشير إلى أن الانحراف النقدي لا ينجم عن حتمية بنيوية بل عن الانحراف الأخلاقي عن الغاية الأساسية أي تحول الباعث من السعي المشترك للحقيقة إلى الرغبة في الانتصار الإيديولوجي.
وبالتالي ينكشف الانحراف على ثلاثة مستويات متشابكة: أولاً، على مستوى الخطاب الإبستيمي، حيث يفترض الناقد موقع اليقين المطلق دون الانفتاح على إمكانية مراجعة فرضياته الخاصة؛
ثانياً، على المستوى الأنطولوجي، حيث يُقصى الآخر من دائرة الذات المعتبرة، محولاً إياه إلى موضوع مجرد من الكينونة الفاعلة؛
ثالثاً، على المستوى الجدلي، حيث تتلاشى إمكانية الحوار المتبادل وتحل محله ديناميات الخصومة و التسقيط.
تأسيس الممارسة النقدية
لإعادة توجيه النقد نحو مساره النزيه، يتطلب الأمر استعادة المعايير الأخلاقية والإبستيمولوجية التي تحكم الممارسة النقدية الرشيدة. تتمثل هذه المبادئ في:
مبدأ سلامة الباعث الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ افتراضاً أولياً بصدق الخصم وصحة اهتماماته المعرفية، مع السعي الجاد لفهم السياق الإدراكي الذي يوجه فكره. لا يعني هذا التساهل مع الأخطاء الظاهرة، بل تعميق النقد من خلال البحث عن شروط إمكانيتها وأساسها المنطقي. هذا النهج يميز بين رفض الفكرة ورفض الفاعل المعرفي.
مبدأ الاعتراف المتبادل: وفقاً لجدلية الاعتراف عند هيغل (Hegel)، لا يمكن للنقد أن يحقق غايته الحقيقية إلا إذا اعترف بالآخر كذات فاعلة متساوية في الحقوق المعرفية، وليس كموضوع سلبي للمحاكمة. هذا يستدعي قبول قيمة الاختلاف الفكري كفرصة للنقاش المتبادل.
مبدأ التعدد الإبستيمي: يقتضي هذا المبدأ الاعتراف بشرعية التقاليد المعرفية المختلفة والمستقلة. الفكر الإسلامي الكلاسيكي والحضارات الأخرى لم تكن نسخاً ناقصة من الحداثة الغربية بل تمثل رؤى معرفية متكاملة ومستقلة. إدوارد سعيد (Edward Said) في كتابيه " الاستشراق" و "الثقافة و الامبريالية" أظهر كيف أن النقد المنحرف يمارس شكلاً من الاستعمار المعرفي حيث يُختزل الآخر إلى موضوع دراسة يحكمه منطق الهيمنة.
مبدأ المنهج الموضوعي: يتطلب النقد الرشيد الفصل بين الحجة الموضوعية والهجوم الشخصي. إن استخدام حجج وتقنيات الإذلال الرمزي لا يضعف الموقف المعارض فقط، بل يفقد النقد ذاته شرعيته المعرفية. قال كارل بوبر (Karl Popper) إن صرامة النقد الذاتي للعالم يجب أن تسبق أي نقد موجه للآخر.
الممارسة النقدية بين الحقيقة والسلطة
اشار ميشيل فوكو (Michel Foucault) إلى أن النقد المنحرف غالباً ما يكون تعبيراً عن صراع على السلطة المعرفية أكثر من كونه بحثاً عن الحقيقة. عندما يتحول النقد إلى أداة للهيمنة، يفقد صلته بالوظيفة الأساسية للفكر النقدي: تحرير الوعي من الأوهام والتحيزات. والفيلسوف الفرنسي بول ريكور (Paul Ricoeur) أكد على ضرورة ما سماه "الفهم المتبادل" بين التقاليد المعرفية المختلفة، حيث يتعاون الطرفان على توسيع آفاق الفهم بدلاً من محاولة فرض أحدهما رؤيته على الآخر.
ومن الأهمية بمكان ان جوهر الممارسة النقدية الرشيدة في إدراك أن النقد والنقد الذاتي عمليتان جدليتان متلازمتان، ما دام الناقد يتهم غيره بالخطأ دون أن يخضع موقفه هو نفسه للفحص المستمر، فإنه يتجاهل الطبيعة الانعكاسية للمعرفة الإنسانية. هذا هو ما يميز النقد البنائي عن النقد الاستدماري: الأول يعترف بحدود معرفته ويسعى للتعاون، الثاني يدعي المعرفة المطلقة ويسعى للهيمنة.
نحو ممارسة نقدية تعاونية
لابد من تأسيس الممارسة النقدية على أسس معيارية سليمة تتطلب تحولاً جذرياً في الفهم: من النقد كممارسة سلطوية إلى النقد كممارسة تحاورية تعترف بتعددية المسارات المعرفية. هذا لا يعني التخلي عن الدقة أو الصرامة الفكرية، بل إعادة توجيهها نحو البناء المشترك و التعاوني للمعنى.
فالحكمة الفلسفية العملية (phronesis)، سواء أكانت يونانية الأصل أم إسلامية في صيغتها (hikma)، تقتضي القدرة على التمييز بين الحجة الموضوعية والهجوم الإيديولوجي، وبين الاختلاف الفكري والعداء الشخصي.
في ظل واقع يعج بالانقسامات والصراعات الفكرية، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة استكشاف معايير النقد الأخلاقية والإبستيمولوجية.
فكانط (Immanuel Kant) دعا إلى استخدام عقلنا بشجاعة دون موجه؛ لكن هذه الشجاعة يجب أن تقترن بالتواضع المعرفي والاعتراف بأن الحقيقة لا تملكها جهة او مدرسة او جماعة او فرد دون ٱخر، بل هي ثمرة حوار مستمر بين الذوات المعترف بها فيما بينها.
***
بقلم: أ. مراد غريبي






