قضايا

غالب المسعودي: التضارب الأخلاقي في عصر التكنولوجيا: مقاربة فلسفية

التكنولوجيا كمرآة للقيم الإنسانية

يُشكّل التقدم التكنولوجي المتسارع في عصرنا الحالي تحديًا فلسفيًا عميقًا، يتجاوز المسائل التقنية ليصل إلى جوهر قيمنا ومبادئنا الأساسية. فبينما تُقدّم التكنولوجيا حلولًا مبتكرة وتُسهّل حياتنا، فإنها تُثير في الوقت نفسه تضاربات أخلاقية معقدة تتعلق بالخصوصية، والعدالة، والمسؤولية، والهوية الإنسانية. هذه القضايا ليست مجرد عواقب غير مقصودة للابتكار، بل هي انعكاسات مباشرة لقيم المصممين والأهداف التي يسعون إلى تحقيقها.

لقد أفرزت التكنولوجيا اليوم "واقعًا عمليًا وثقافيًا جديدًا" يفرض علينا إعادة تقييم المفاهيم الأخلاقية الكلاسيكية. فمفاهيم مثل الحق، والمسؤولية، والكرامة الإنسانية، التي كانت محددة في سياقات اجتماعية سابقة، تكتسب أبعادًا جديدة مع التوسع غير المسبوق للتقنيات الرقمية. ولم يعد مفهوم "البانوبتيكون" للفيلسوف جيريمي بنثام، الذي كان يصف سجنًا دائريًا يتيح لمشرف واحد مراقبة جميع السجناء دون أن يعلموا متى تتم مراقبتهم، مجرد فكرة نظرية، بل أصبح حقيقة رقمية تطال المجتمع بأكمله.

هذا التحول يوضح أن التكنولوجيا لا تخلق مشاكل أخلاقية جديدة من العدم، بل تُصعّد وتُعقّد المشكلات القائمة. وهذا يجعل الأطر الفلسفية أكثر أهمية من أي وقت مضى لفهم هذه المعضلات وتوجيه استجاباتنا لها.

الأطر الفلسفية للتفكير في أخلاقيات التكنولوجيا

هذا الإطار الفلسفي يوفر طريقة واضحة وكمية لتقييم التكنولوجيا، لكن هذا الوضوح قد يكون خادعًا. فالمنفعة تُعرّف بشكل مختلف من قبل الأطراف المختلفة، مما يفسد الحساب الأخلاقي. فعندما تُعرّف الشركات "المنفعة" بالربح، وتُعرّفها الحكومات بالسيطرة، يتحوّل الحساب الأخلاقي إلى تبرير للاستغلال بدلًا من كونه أداة لخدمة المجتمع. هذا التوتر بين الشركات التي تُعطي الأولوية للمنفعة الاقتصادية وبين المجموعات التي تطالب بتعريف أوسع وأكثر عدلًا للـ “خير" يُبرز أن المعركة الأخلاقية الحقيقية ليست حول استخدام الإطار النفعي من عدمه، بل حول من يملك الحق في تحديد معايير القياس داخله. وهذا يقودنا إلى النزاع الأخلاقي بين الغايات والوسائل، وهو ما ستعالجه الواجبية.

على النقيض من النفعية، تقوم الواجبية، المستوحاة من فلسفة إيمانويل كانط، على أن بعض الأفعال صحيحة أو خاطئة بشكل مطلق، بغض النظر عن نتائجها. الأخلاق، من هذا المنظور، تُبنى على "الإرادة الخيّرة" والقواعد الأخلاقية العامة التي يجب على الجميع الالتزام بها. الشمولية، التي تدعو الفرد إلى فعل ما يمكن أن يريده في الوقت نفسه كقانون أخلاقي عام، والإنسانية كغاية، التي تؤكد على ضرورة معاملة الإنسانية، سواء في الذات أو في الآخرين، كغاية في حد ذاتها، وليس فقط كأداة لتحقيق غاية أخرى.

تطبيق "حجاب الجهل" كأداة عملية

التحدي الأكبر هو ترجمة هذه التجربة الفكرية الفلسفية المجردة إلى عمليات تطوير تقنية عملية. ومع ذلك، فإن تطبيق "حجاب الجهل" يُحوّل النقاش من "كيف نصلح الخوارزمية؟" إلى "كيف نصلح البيانات وعملية التصميم؟". فهو يُصبح أداة تصميم عملية للفرق الهندسية، مما يجبرها على التفكير في شكل نظام الذكاء الاصطناعي إذا كانوا لا يعرفون جنسهم أو عرقهم أو وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. هذا المفهوم يشدد على أولوية "العادل" على "النافع"، ويُعد حلًا للقصور النفعي الذي قد يُبرّر التفاوتات الاجتماعية.

معضلة الخصوصية في عصر البيانات الضخمة

لقد حوّلت التكنولوجيا الرقمية، وخاصة البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، مفهوم الخصوصية من امتداد للذات إلى سلعة ثمينة، يطلق عليها البعض "الذهب الجديد". وبنت شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل جوجل وفيسبوك، نماذج أعمالها على جمع وتحليل وبيع بيانات المستخدمين للإعلانات الموجهة. هذا التطور ليس مجرد معاملة تجارية، بل هو تحول جذري في العلاقة بين الأفراد والشركات، حيث لم يعد المستخدم عميلًا، بل أصبح هو المنتج نفسه. هذا التسليع يمس المبدأ الكانطي لـ “الإنسانية كغاية"، حيث يتم اختزال الأفراد إلى مجرد أدوات لتوليد الأرباح، مما يُشكّل انتهاكًا أخلاقيًا عميقًا.

الشفافية والمساءلة

تُبرز الممارسات غير الشفافة لجمع البيانات خطورة هذا الانتهاك. فقد كشف تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس بالتعاون مع باحثين من جامعة برينستون أن جوجل كانت تُسجّل مواقع المستخدمين حتى بعد أن يقوموا بإيقاف خاصية تتبع الموقع. هذا الاكتشاف أدى إلى رفع دعوى قضائية من 40 ولاية أمريكية ضد جوجل، مما أدى إلى تسوية قياسية بقيمة 392 مليون دولار. يوضح هذا المثال أن عدم الشفافية في جمع البيانات، حيث يتم تضليل المستخدمين حول كيفية استخدام بياناتهم، يُعمّق من الانتهاك الأخلاقي الذي يتعارض مع مبادئ "الشفافية" و"المساءلة". هذا الواقع يخلق نوعًا جديدًا من "رأسمالية المراقبة" حيث التتبع المستمر هو الوضع الافتراضي، و"موافقة" المستخدم غالبًا ما تكون خيارًا إجباريًا، مما يجعل الاستقلالية الحقيقية مستحيلة.

التحيز الخوارزمي والفجوة الرقمية

إن الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي محايد هو اعتقاد "غير قابل للاستمرار". فالتحيز الخوارزمي يمكن أن ينشأ من عدة مصادر، مما يُظهر أن المشكلة ليست تقنية، بل اجتماعية في جوهرها. فأنظمة الذكاء الاصطناعي ليست متحيزة في الأصل، بل هي انعكاس للعالم المتحيز الذي نعيش فيه.

مصادر التحيز الخوارزمي

تتعلم أنظمة الذكاء الاصطناعي من البيانات التاريخية التي غالبًا ما تعكس تحيزات مجتمعية قائمة. على سبيل المثال، إذا كانت خوارزمية توظيف تُدرّب على بيانات شركة تاريخية كانت تُفضّل المتقدمين الذكور، فمن المرجح أن تُفضّل الخوارزمية المرشحين الذكور في المستقبل، مما يُرسّخ عدم المساواة الموجود بالفعل. هذا يُنشئ "حلقة تغذية راجعة" تُضخّم التحيز الأصلي بمرور الوقت.

التحيزات الواعية أو اللاواعية للمطورين يمكن أن "تتجمد في الشفرة"، مما يجعل من الصعب فهمها أو تفسيرها. هذا يقلل من الشفافية والمساءلة، وهما من المبادئ الأساسية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.

الفجوة الرقمية كعامل لتعميق التفاوت

تُرسّخ الفجوة الرقمية عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الموجودة بالفعل وتُعمّقها. فهي تُقيّد الوصول إلى التعليم، مما يقلل من فرص الطلاب في المناطق الفقيرة والنائية. كما أنها تُعيق الوصول إلى الخدمات الصحية والخدمات الحكومية الأساسية، مما يزيد من عزلة الفئات المحرومة. على الصعيد العالمي، تخلق الفجوة الرقمية تفاوتًا بين الدول المتقدمة والنامية، مما يُعيق التنمية المستدامة.

إن الفجوة الرقمية ليست ظاهرة سلبية فقط، بل هي قوة فاعلة تُرسّخ الظلم الاجتماعي وتُعمّقه. في "عصر المعلومات"، أن تكون غير متصل رقميًا هو أشبه بأن تكون معزولًا عن المجتمع. هذا يُسلّط الضوء على مسؤولية أخلاقية وسياسية أساسية تتمثل في التعامل مع المعرفة والوصول الرقمي كحق عام، على غرار التعليم أو الرعاية الصحية. فالتغلب على الفجوة الرقمية ليس مسارًا سهلًا، بل هو مسؤولية تتطلب التزامًا جماعيًا لضمان عدم ترك أي فرد وراء الركب في عصر يتسم بالتقدم التقني السريع.

الحدود المتلاشية

أدى التقدم في الذكاء الاصطناعي التوليدي وتقنيات "التزييف العميق" إلى صعوبة متزايدة في التمييز بين المحتوى الذي يُنتجه الإنسان والمحتوى الذي تُولّده الآلة. أصبحت روبوتات الدردشة قادرة على إجراء محادثات طبيعية ومعقدة يصعب تمييزها عن المحادثات البشرية.

على الرغم من هذه المحاكاة المتقنة، تؤكد المصادر على الفروق الجوهرية بين الذكاء البشري والاصطناعي. فالإنسان يتميز بالوعي الذاتي الحقيقي، والعواطف، والإبداع، والبعد الميتافيزيقي أو "الروحي". في المقابل، يعمل الذكاء الاصطناعي "وفق معايير وخوارزميات محددة دون وعي شخصي حقيقي". التحدي هنا ليس تقنيًا فقط، بل هو أخلاقي واجتماعي. فإذا كان الذكاء الاصطناعي يمكن أن يولد معلومات مضللة ويُلاعب الرأي العام، فإنه يمكن أن يقوّض أسس الديمقراطية والثقة والواقع المشترك.

إن الخطر الحقيقي للذكاء الاصطناعي ليس أنه سيصبح واعيًا ويستولي على العالم، بل أنه سيُستخدم من قبل البشر للتلاعب ببشر آخرين. فالمسؤولية الأخلاقية لا تقع على عاتق الآلة، بل على عاتق الفاعلين البشريين الذين يصممون هذه الأدوات القوية ويستخدمونها.

معضلة المسؤولية والمساءلة

عند وقوع خطأ من نظام ذكاء اصطناعي، من يتحمل المسؤولية الأخلاقية والقانونية؟ هل هي الشركة المطورة، أم المبرمج، أم المستخدم؟ هناك "نقص في الرقابة وقبول المسؤولية" في صناعة التكنولوجيا، لا سيما عندما يتم استخدام أنظمة متعددة من أطراف ثالثة.

إن مشكلة المساءلة هي أحد أعراض مشكلة أكبر، أن وتيرة الابتكار التكنولوجي فاقت وتيرة الحوكمة القانونية والأخلاقية. فالنظام الحالي يفتقر إلى الأطر اللازمة للتعامل مع عالم أصبحت فيه التكنولوجيا "خليطًا هجينًا" من أنظمة الطرف الثالث. ويؤكد تقرير اليونسكو على أن أنظمة الذكاء الاصطناعي "لا ينبغي أن تحل محل المسؤولية والمساءلة البشرية المطلقة". وهذا المبدأ يشدد على أن الرقابة البشرية ضرورية لضمان الاستخدام الأخلاقي. الحل ليس في تحديد المسؤولية بعد وقوع الخطأ، بل في بناء المساءلة ضمن عملية التصميم نفسها. وهذا يتطلب الانتقال من نهج رد الفعل إلى نهج استباقي، مع فرض تدقيق إلزامي، وتوثيق شفاف، وإطار قانوني يُحمّل المطورين والشركات مسؤولية الأضرار المتوقعة لمنتجاتهم.

لا يكفي مجرد الاستجابة للمشكلات التكنولوجية عند ظهورها، بل يجب أن ننخرط في عملية مستمرة من التفكير النقدي والتصميم الهادف، لضمان أننا بينما نبني عالمنا الرقمي، لا نفقد القيم الأساسية التي تجعلنا بشرًا. فالتحدي الأخلاقي للتكنولوجيا هو في جوهره التحدي الفلسفي الدائم لما يعنيه أن تكون فاعلًا أخلاقيًا في عالم سريع التغير. الحل يكمن في بناء منظومة حوكمة شاملة، تُدمج المبادئ الأخلاقية في صميم عملية الابتكار، وتضمن أن التكنولوجيا تُستخدم لخدمة البشرية بأسرها، بدلًا من أن تُصبح أداة لترسيخ التفاوت والتحكم.

***

غالب المسعودي

في المثقف اليوم