قضايا

محمد البطاط: موقف باروخ اسبينوزا من الحركة الصهيونية

سلسة مفكرون يهود ضد الصهيونية (1)

ترتكز السياسات العنصرية التي تمارسها اسرائيل في فلسطين وغيرها من دول المنطقة على مجموعة من المقولات التي تتبناها الحركة الصهيونية، وتسعى بشتى السبل أن توهم الآخرين بصحتها على ما فيها من تهافت وهِنات، كما أنها تهدف الى تصوير أن ما تؤمن به يعبر عن المقاربة اليهودية الوحيدة التي يؤمن بها اليهود في العالم، وهذا غير صحيح إطلاقاً، من هنا سنسعى في هذه السلسلة الى تسليط الضوء على المقاربات النقدية للحركة الصهيونية، والمنظومة الفكرية التي تستند إليها، فضلاً عن السياسات والجرائم التي تنتج عنها، وهي مقاربات قدّمها مجموعة من المفكرين والفلاسفة اليهود نقداً للحركة الصهيونية.

ومن وجهة نظري لا يمكن الإبتداء بهذه السلسلة دون الإنطلاق من الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا (1632-1677م)، وطبيعي أن يُثار تساؤل تحقيبي يتعلق بأن المدة التي عاشها اسبينوزا سبقت الحركة الصهيونية بكثير، فكيف يكون ناقداً لها؟ وهذا صحيح تأريخياً، إذ أن الحركة إنطلقت بشكلها الفعلي عندما تمكن ثيودور هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897م، أي بعد ما يربو على القرنين على وفاة اسبينوزا، إلا ان ذلك لا يمنع من تأكيد محورية الأخير في هذا السياق، فمن جهة هو من أبرز ناقدي السردية اليهودية الرسمية التي قامت عليها الحركة الصهيونية بعد ذلك، كما انه أثرّ في العديد من المفكرين اليهود الذين نقدوا الصهيونية لاحقاً كحنة أرنت وإسحاق دويتشر وغيرها، فضلاً عن أهمية اسبينوزا في السياق الفلسفي الغربي، ودوره في تشكيل فلسفة الحداثة والعقل النقدي والفلسفة التأريخ، وليس من قبيل الصدفة أن يشير الفيلسسوف الألماني فردريك هيغل في محاضراته حول فلسفة التأريخ إلى أن (لا يمكن أن تكون متفلسفاً لما لم تكن أسبينوزياً)، وهي إشارة مكثفة الى مركزية الفكر الفلسفي لاسبينوزا وأثره في الفلسفة الغربية الحديثة من خلال مؤلفاته الكثيرة، والتي من أهمها (رسالة في اللاهوت والسياسة).

وقد ولد اسبينوزا في مدينة امستردام لعائلة يهودية هربت من البرتغال جرّاء الاضطهاد المسيحي الكاثوليكي لليهود، وبدأ التعلم في مدرسة يهودية، ودرس التوراة وشروحات التلمود، ثم بدأ يدرس خارج السياق التعليمي اليهودي، وعبر تفكيره النقدي ينطلق في رحلة التشكيك في المقولات التي ترتكز عليها السردية اليهودية، طارحاً مجموعة من الإشكالات والتساؤلات التي سبّبت له الكثير من المشاكل، ولم تنفع معه محاولات الإقناع، ومساومات الترغيب والترهيب التي مارسها الحاخامات اليهود معه، وبين محاولة قتل فاشلة أقدم عليها أحد اليهود المتعصبين، إلى رشوة مالية كبيرة لشراء سكوت عقله النقدي، وغيرها من السبل التي أعجزت كبار اليهود ورجال الكنيس، وكلها لم تجد نفعاً مع الشاب الشكاك النقّاد، الأمر الذي قادمهم لاحقاً الى تطبيق قانون (الحرم) ضده عام 1656م من قبل مجلس الحاخامات البرتغالي في مدينة أمستردام، أي جعله عرضةً للحرمان الديني وإخراجه من الجماعة اليهودية، وإنزال اللعنات عليها، ومقاطعته ومنع تقديم المساعدة له، ونبذه ملعوناً في الحياتين الدنيا والآخرة، وهو لعن وحرمان مستمر حتى اللحظة الراهنة، وقد كانت ثمة محاولات لإخراجه من اللعن، كانت ابرزها محاولة ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق ومؤسس الكيان الصهيوني الذي حاول أرسل طلباً إلى مجلس الحاخامين البرتغالي من اجل إلغاء قرار الحرمان عام 1953م ، إلا أنه قوبل بالرفض القاطع.

وإذا كانت الحركة الصهيونية تقوم على مقولات إلهية المتن التوراتي، وأبدية الشريعة الموسوية، وخصوصية اليهود كشعب الله المختار، وأن لديهم خصوصية التفوق على غيرهم من الشعوب، فإن أسبينوزا لديه رأي آخر، وهذه أبرز إشكالاته:

أولاً: يعتقد اسبينوزا أن التوراة الموجودة عند اليهود ليست نصاً إلهياً، ولم يقم النبي موسى (ع) بكتابتها بنفسه، وإنما كتبها آخرون بعده بكثير، ولاسيما الكتب الخمسة الأولى منها، إذ كيف يعقل أن يكون النبي موسى قد كتبها وهي تتحدث عن وفاته فتشير إلى أن عندما توفي موسى عبد الله حزن العبرانيون عليه لمدة ثلاثين يوماً!، ويرى أسبينوزا أن التوراة لم تظهر ككتاب واحد إلا بعد قرون عدة، كما أنها تعبر عن نص متناقض يكشف عن أن من جمعه ليس شخص واحد، بل مجموعة من الأشخاص.

ثانياً: يرفض أسبينوزا الدعوة التي يطلقها الحاخامات اليهود من أن شروحات التلمود ترجع الى النبي موسى، وأنهم حصروا عملية تفسير الشروحات بهم فقط، وهي محاولة لاختزال تفسير النصوص الدينية بهم من أجل تحقيق المركزية السلطوية، كما ينتقد موسى بن ميمون الذي كان يعتقد أن نضص التوراة حمال أوجه، إذ يرى اسبينوزا أنه نص متناقض، وليس حمال أوجه، ما دامت الاحتمالات متناقضة مع العقل لا يمكن القبول بها، وكل تعارض توراتي أو تلمودي مع العقل فإنه يجب أن يخضع للتفسير المجازي.

ثالثاً: إنطلق أسبينوزا في تحليله للطقوس والشعائر اليهودية من منطلق الرؤية التاريخية، فهي كانت مفيدة للجماعة اليهودية في وقتها، أي في مدة تأريخية محددة؛ لأنها ساعدت في تنظيم حياتهم، والحفاظ على هويتهم، وبعد زوال تلك المدة، وتبدل الأوضاع، وتطور الحياة، لم تعد هناك حاجة لتلك الطقوس والشعائر، ومن الخطأ بمكان النظر إليها بطريقة تأبيدية دائمة، ويرى أنه بعد تهديم الهيكل إنتهى دور شريعة موسى، لأنه بمجرد أن أضبح اليهود مواطنين في بابل، فإن مملكة الرب إنتهت، وأن العهد الذي على اليهود الالتزام به قد نُسخ وإنتهى، وهذا خلاف ما تؤمن به اليهودية الآن، وترتكز عليه السياسة الصهيونية في التثقيف لطقوس وشعائر في أرض فلسطين المحتلة.

رابعاً: تتحجج الصهيونية بأرض الميعاد، وأنهم شعب الله المختار بالمعنى الميتافيزيقي، وهو ما يرفضه اسبينوزا، فلا ميزة لليهود على غيرهم من الشعوب، إذ يرى أن اليهود لا يتميزون عن الآخرين برجاحة العقل، وليس لديهم مؤهلات خاصة، وأنهم الموعودون بأرض الميعاد التي خصهم الله تعالى بها، وأسبينوزا بهذا يرفض ما تقوم عليه السردية اليهودية، ويستند إليها الجهاز الإيديولوجي الصهيوني، ويشتغل عليها ويثقف ليلاً ونهاراً.

خامساً: يعتقد اسبينوزا أن الدين يهدف الى بناء الفضيلة، وإقامة الحياة الفاضلة في المجتمع الانساني، وليس إلى أقامة دولة ثيوقراطية قائمة على المقولات الدينية التي تؤمن بها الجماعات اليهودية، فهذه خلاف غائية الدين من وجهة نظره، لأنه أكثر رحابة من السياسة الصهيونية الهادفة الى إقامة دولة عنصرية على أساس إقصائي متقوم على قراءة دينية متعصبة.

***

د. محمد هاشم البطاط

في المثقف اليوم