قضايا
حاتم حميد محسن: الاصول اليونانية لنظرية الانفجار العظيم Big Bang

من المدهش ان مؤسس النظرية الذرية الفيلسوف اليوناني ليوكيبوس Leucippus (500-440 ق.م) أول منْ صاغ مفهوم الانفجار الكوني الكبير الذي يُعرف الآن بـ Big Bang. ومن بين امور اخرى، هو ذكر "ان كل الأشياء في الكون لامتناهية ويتغير بعضها الى البعض الآخر".
ليوكيبوس رائد نظرية الانفجار العظيم
ان أصل الفكر الكوني يمتد رجوعا الى آلاف السنين، حيث كان الفلاسفة القدماء يتأملون طبيعة الكون، ومن بينهم الفيلسوف ليوكيبوس في القرن الخامس قبل الميلاد. هو اقترح افكارا تحمل تشابها مذهلا مع النماذج الكونية الحديثة وخاصة نظرية الانفجار الكبير. هو تصوّر ان الكون تشكّل بفعل حركة فوضوية وتحطّم للجسيمات الذرية. هذه الفكرة المبكرة تبدو مشابهة للفهم العلمي المعاصر لتطور الكون.
الكون الذري لـ ليوكيبوس
ليوكيبوس والى جانب تلميذه ديموقريطس طوّرا أول نظرية عُرفت بالنظرية الذرية. هو جادل بان الكون يتألف من جسيمات (ذرات) تتحرك في الفراغ. وفي مقطع يُنسب له، وصف ليوكيبوس الكون في انه يحتوي على ذرات وهذه الذرات كانت في البدء في حركة فوضوية، ثم تدريجيا اتّحدت الذرات في تراكيب أكبر بسبب ميولها الطبيعية. الجسيمات الأثقل استقرت وشكّلت الأساس للأجسام الأرضية، بينما الجسيمات الأخف وزناً تحركت نحو الخارج وشكّلت السماوات.
هذا الوصف يتشابه بشكل كبير مع المفهوم الحديث لحالة الكون البدائية primordial cosmic state. في هذه الحالة البدائية، كانت المادة في يوم ما مبعثرة بشكل فوضوي قبل ان تتحد في مجرات ونجوم وكواكب.
لننظر لآن الى النص القديم لـ ليوكيبوس الذي احتفظ به المؤرخ المسيحي يوسابيوس Eusebius (260-340.م) في عمله "الإستعداد الإنجيلي":
"الكون الحالي، في شكله المبعثر، كان قد تشكل بهذه الطريقة: بحركة عشوائية، وبدون قصد تحركت الذرات باستمرار وتجمعت بسرعة في مكان واحد بأعداد كبيرة، وهكذا اكتسبت تنوعا في الأشكال والأحجام. الجسيمات الأثقل والأكبر تجمعت في المركز، بينما الجسيمات الأصغر والأكثر حركة وانزلاقاً تحركت نحو الخارج وتجمعت لتشكل الأجسام السماوية. لكن عندما توقفت القوة الضاربة التي رفعت الجسيمات صعودا، و لم تعد تندفع نحو السماوات، عندئذ مُنعت الجسيمات من النزول اكثر، وضُغطت باتجاه مواقع يمكنها احتوائها. وهكذا، كانت كتلة الاجسام المحيطة متناثرة ومتشابكة، وفي هذا التشابك، وُلدت السماوات. ومن نفس الطبيعة، شكّلت الذرات المتنوعة طبيعة النجوم".
الكون وُلد من تصادم وضغط الذرات
تنطوي رؤية ليوكيبوس على ان الكون المنظم برز من حالة الاضطراب الأولية. هذه الفكرة وجدت أصداءً لها في نظرية الانفجار الكبير. هو يقترح ان الذرات اصطدمت وتراكمت في دوامة دائرية، وبالنهاية شكلت هياكلا كونية متميزة. الفيزياء الحديثة تصف انفجارا اوليا. هذا الانفجار قاد الى تكوين تدريجي للمادة من خلال قوى الجاذبية والتفاعلات بين الجسيمات الأساسية.
هذه الفكرة من التطور الكوني تتماشى مع أعمال الفيزياء الحديثة. بما فيها اعمال الفيزيائي البلجيكي جورج لمنيتر Georges Lemnitre الذي هو اول من افترض نظرية الانفجار العظيم. كذلك العالم البريطاني ستيفن هاوكنك الذي استطلع التقلبات الكوانتمية في الكون المبكر، وايضا، النموذج التضخمي للامريكي ألان جوث Alan Guths inflationary model الذي اعتمد على فكرة الكون الفوضوي المبكر حين تعرّض لتوسّع سريع قبل ان يبرد في مادة مركبة.
رؤية سابقة لعصرها
أفكار ليوكيبوس افتقرت الى الدقة الرياضية والصلاحية التجريبية التي تميّز النظريات العلمية الحديثة. مع ذلك، هو فهم تكوين الكون ببصيرة مذهلة. مفهومه للأصل الفيزيائي العفوي للكون الخالي من التدخل الإلهي، وضع الأرضية للتحقيق العلمي اللاحق. فكرة ان الكون لم يكن ساكنا وانما برز من حالة الفوضى الأولية كانت تمهيدا للاكتشافات في القرون اللاحقة.
رؤية ليوكيبوس، مع انها تأملية، لكنها تُظهر كيف ان الفلسفة اليونانية القديمة غرست البذور الاولى للثورة العلمية اللاحقة. نظريته في الكون المنظم ذاتيا الموجّه بتفاعل الذرات، هي السلف الفكري المبكر لنموذج الانفجار العظيم. هذا يجعل ليوكيبوس واحدا من أبرز المفكرين في مجال علم الكون.
***
حاتم حميد محسن
............................
Feb19, 2025, GreekReporter.com