قضايا

الحسين بوخرطة: المجتمع والجامعة

في يوم 21 فبراير 2025 على الساعة الثامنة ليلا، تتبعت عن بعد ندوة هامة بمحاورها ومضمونها من تنظيم "المبادرة الوطن أولا ودائما" تحت عنوان "الجامعة والمجتمع". تتبعتها بتركيز واهتمام تامين نظرا لأهمية الموضوع وراهنيته. فالجامعة هي العقل الأكثر نضجا بالنسبة للأمة الواحدة لإنتاج المعارف وكشف الحقائق الجديدة في كل مجالات الحياة. فكلما ارتقى الوعي والإيمان بالمستقبل باستحضار التزايد الديمغرافي العالمي وتفاقم حاجيات الشعوب اليومية، تتحول الجامعة ومراكز أبحاثها بمختلف مجالاتها المتنوعة إلى ذاك العقل المتنور المؤهل لكشف الحقائق المطلقة التي يختزنها الكون، والتي لم تحقق منها البشرية إلى يومنا هذا سوى مقدار نقطة في بحر. وبذلك يبقى تعميم فحوى واستعمالات المعارف والكشوفات الجامعية في المجتمع ذا أولوية قصوى بالنسبة للدولة بمؤسساتها والمجتمع بمنظماته الرسمية وغير الرسمية. الحاجة إلى الرفع من الكشوفات العلمية وتحويلها إلى منافع يومية للأفراد والجماعات تزداد حدة مع مرور الزمن. لقد تحولت البنية الزمنية في التعاطي مع المعرفة والبحث العلمي في الألفية الثالثة إلى إشكالية فائقة التعقيد لكون قيمة الوقت فاقت كل القيم بما في ذلك قيمة الذهب. الإلحاح يشتد اليوم على واجهتين: واجهة الاستجابة لضغط الحاجيات المجتمعية المتفاقمة بسرعة كبيرة، وواجهة عقلنة استغلال الإمكانيات الطبيعية والحفاظ على شروط العيش الصحي أرضا، وبالتالي العمل على استغلال الطبيعة بالمنطق الذي يستحضر سلامة عيش الأجيال المستقبلية.
والحالة هاته، تحول اليوم انشغال رفع التعاون إلى أعلى المستويات الممكنة بين الجامعة والمجتمع إلى مطلب إنساني عالمي مشروط بتحقيق التنمية المستدامة وبناء المجتمعات على أساس المعارف الفعالة والناجعة. لقد تجاوزت الجامعة وضعية أن تبقى مجرد مؤسسة تعليمية تهدف إلى تخريج الكفاءات الأكاديمية فحسب لتغذية المؤسسات العامة والخاصة بالموارد البشرية الكفأة والمتخصصة، بل فرضت ضغوطات سرعة التطورات في كل مجالات الحياة تحويل المؤسسات الجامعية إلى مراكز للبحث العلمي والابتكار الدائم، والتي يجب أن تنشغل ليل نهار بإيجاد الحلول النافعة لمشكلات المجتمع وتعزيز رفاهيته. فأمام سرعة المتغيرات، ارتقت مكانة الجامعات على مستوى الدولة الواحدة، ولم يعد هناك من منفذ لحل المشاكل المتفاقمة سياسيا وثقافيا واقتصاديا إلا توفير الشروط والظروف الملائمة لجعل الجامعات فضاء دائما لإجراء البحوث التطبيقية المستهدفة للقضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والتقنية، إلى جانب انشغالها المؤرق بقضايا البيئة، والطاقة، والصحة العامة.
لم يعد مجديا أن تبق الجامعات تلعب أدوارها التقليدية منعزلة عن المجتمع. روح الأمة الواحدة لن يستوي بدون تدخل الجامعات بالقوة والفاعلية المطلوبتين داخل المجتمعات ببرامجها التطوعية وأوراش عملها التوعوية ومحاضراتها المفتوحة مع الحرص التام على تشجيع نشر المعرفة وتعزيز الوعي في قضايا مثل حقوق الإنسان، والصحة النفسية، والبيئة. بهذا المنظور الجديد، أصبح العمل الجامعي مضطرا لتجاوز أسوار مؤسساته ليمتد داخل نبضات الفئات المجتمعية. الجامعات مطالبة اليوم بتوفير برامج تدريبية ودورات مهنية لأفراد المجتمع، خاصة في المجالات الواعدة التي تغزو الوجود اليومي للإنسان، وعلى رأسها المهارات الرقمية، وريادة الأعمال، واللغات، ... كما تبقى المراهنة على النجاح في تأهيل الأفراد لسوق العمل من أعقد الرهانات المتزامنة مع الانبهار الذي أحدثه تطور الذكاء الاصطناعي. إنها الثورة العالمية المحاربة للهدر الزمني الذي ميز البحث العلمي الأكاديمي والتدبير الإداري في القطاعين العام والخاص لعقود مضت. لقد تحول الذكاء الاصطناعي إلى منصات لتوفير مضمون تاريخ الأفكار والمعارف بتقديم أشكال نموذجية جذابة، بارزا أهمية التركيز على المستقبل بإبداع المعارف وكشف الحقائق النسبية الجديدة.
إن النجاح في رفع تحديات العصر لا يمكن أن يتحقق بدون استثمار الجامعات بالقوة اللازمة في استقطاب الفعاليات الثقافية المجتمعية، وتنظيم المعارض والندوات مستهدفة تعزيز الحوار الثقافي والاجتماعي بين فئات المجتمع المختلفة، وبالتالي تيسير اندماجها في روح العصر بتأهيلها في مجال تطوير مشاريع تنموية وبحثية تخدم الذات والجماعة وتوفر فرص عمل قارة للشباب. الجامعة مطالبة اليوم بتكثيف التعاون مع المجتمع من أجل ضمان ديمومة تطوير المهارات العملية للطلاب من خلال الانخراط في مشاريع حقيقية، وتنمية كفاءة الجماهير للمساهمة في حل المشكلات اليومية باستخدام أساليب علمية مبتكرة، وبالتالي تعزيز المسؤولية الاجتماعية لدى الأفراد والمؤسسات بالرفع الدائم من مستوى الوعي الثقافي والعلمي في الروح الجماعية.
وعليه، إن رهان تحقيق التنمية المستدامة بالمغرب في سياق عالم شديد التطورات العلمية والتكنولوجية والتقلبات السياسية لا يقتصر فقط على حماية البيئة، بل يشمل أيضًا تحسين جودة الحياة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إن الوقت لا يرحم. التعليم والتوعية هو المنفذ الوحيد لتدارك الخصاص المهول الذي يميز ارتباط التنمية بالرأسمال البشري. على الجامعة أن تتشبث بأدوارها الحضارية. عليها أن تلعب دور الزعامة لتعميم مبادئ التنمية المستدامة في المناهج الدراسية لتوعية التلاميذ والطلبة في مختلف الأسلاك التعليمية بقضايا البيئة، والاقتصاد الأخضر، والتكنولوجيات الحديثة. على الحكومات المغربية أن توفر الوسائل لتمكينها من تنظيم أوراش عمل ومحاضرات دائمة حول التغير المناخي، واستهلاك الموارد، ومعالجة وتطهير المياه وإعادة تدوير النفايات، وتطبيق ممارسات صديقة للبيئة داخل المؤسسات التعليمية والأحياء السكنية على غرار استخدام الطاقة الشمسية، وترشيد استهلاك المياه والكهرباء، والتشجيع على استخدام وسائل النقل المستدامة مثل الدراجات الهوائية والمواصلات العامة بين الطلاب والموظفين، وإنجاز مشاريع المساحات الخضراء ولو اقتصر الأمر بزرع شجرة أو نبتة واحدة أمام كل بناية سكنية والعناية بها، وإعطاء الأولوية لتشجيع الشراكات مع المجتمع المدني لترسيخ المسؤولية الاجتماعية والبيئية،.... إلخ.
لقد أصبح من واجب الجامعة المغربية اليوم، بنسائها ورجالها، النضال من أجل أن ترتقي بأدوارها التاريخية لتصبح المسؤولة الأولى تجاه المجتمع والبيئة. إنها على مستوى الأمم المتقدمة المنصة الخبيرة في تحقيق التغيير الإيجابي وبناء مستقبل أكثر استدامة. على الدولة ألا تدخر جهدا من أجل تجاوز خلل امتداد المعرفة والابتكار ما بين الجامعة بمراكز بحوثها والمجتمع. عليها كذلك أن تضعف بآليات قانونية وتدبيرية شفافة وواضحة التنافر بين الجامعات والإدارة العمومية بمستوياتها الترابية، والوحدات الإنتاجية للسلع والخدمات. الأمة المغربية في حاجة ملحة إلى مجتمع يتجاوز افتقاره لثقافة القراءة والكتابة والإبداع والابتكار. الجامعة لا يمكن أن تستمر في أدوارها التقليدية التي انحصرت لعقود في إنتاج الأطر الإدارية والتقنية لفائدة القطاعين العام والخاص التي لا يستخدم في مجال وظائفها إلا نسب ضعيفة من معارفها المتراكمة. عليها أن تستعجل بلورة الخطط الدامغة لكيلا تتجول إلى هيكل منبوذ لإنتاج العطالة. في نفس الآن على الدولة أن تعي الحاجة الملحة لتجاوز منطق ممارسة السلطة التقليدي لدواليبها. التطور الذي أحدثه التعليم الجامعي الخاص في تواصله وامتداداته إلى القطاع الخاص المنتج يمكن أن يتحول إلى تجربة نافعة تمتد بآليات ناجعة إلى التعليم الجامعي العمومي، وبالتالي تحويل التعليم العالي في مجمله إلى فضاء وطني لإنتاج التميز. البلاد تحتاج لربح الوقت في مجال ترسيخ المقاربة التشاركية تحت إشراف الجامعات والمعاهد العليا المتخصصة في بلورة وتنفيذ المشاريع التنموية.
***
الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز

في المثقف اليوم