قضايا
جودت العاني: الحصاد.. وإشكالية الوجود والعدم!!

الحصاد (قصة توضيحية)
ودعته زوجته الجميلة عند باب منزله الخشبي الصغير بأطراف الريف وكان يعتمر(يشماغ) يلفه حول رقبته الكالحة من شدة الشمس وسلمته (صرة) من القماش وهي بقايا فستان قديم وضعت فيه (طماطه وخيار وبصل وقطعة من الجبن مع رغيف من خبز التنور)، غدائه اليومي وهو خال من اللحم الذي لم يتذوقه منذ اسابيع.
توجه صوب مزرعة الإقطاعي الواسعة ليحصد له ما تبقى في الجهة اليسرى من الحقل لكي ينال حصته القليلة من الحنطة تكفيه لاقل من اسبوع والباقي ملك لصاحب الارض، شريطة ان يحمل المحصول الى المخزن اولاً ويعود ليستكمل باقي الحصاد في الجهة الأخرى من الحقل. حمل خمسة اكداس من الحنطة الى المخزن ولم يتبق له سوى نصف كيس.. وكان هذا هو الاتفاق.
وحين عاد الى الحقل منهكاً، افترش الأرض فشعر بالنعاس ووضع (صرة) الغداء إلى جانبه، وحاول أن ينام على العشب رغم نعيق الغربان التي تحيطه اسرابا تحوم وتتحسس مكان الحبوب وهو (يكشها) كلما اقتربت منه بطريقة لا فائدة من طردها لأنها ستعاود الرجوع وهي مصرة على اخذ حصتها من غدائه، وخاصة قطعة الجبنة.
فتح عينيه بعد قيلولة خاطفة، وجد نفسه محاطاً بالغربان، إلا انه لم يجد في (صرة) غدائه سوى البصل وقطعة صغيرة جداً من الخبز أما كيس الحنطة فلم يتبقى من نصفه سوى بضع حبات متناثرة حوله، التهمته الطيور والعصافير الجائعة.
تمتم مع نفسه:
يا لهذا الحظ العاثر لا طعام لي ولا لعائلتي.. يقولون إنها (القسمة)، فهل هذا هو السبب الحقيقي؟ ولكن، أين هي الحقيقة؟ وتساؤله لم يكن سهلا، رغم ان السؤال ينطوي على شيء من السذاجة، ومع ذلك قرر ان يخوض اسباب اتهام نفسه بان حظه عاثر وهو في غاية الياس والعصبية، إنها (قسمته)!!.
لماذا يلوم نفسه وهو يعرف ان للنوم (سلطان) كما يقال، لا يستطيع التحكم بإرادته، ولكن كان بإمكانه أن يشغل نفسه ليمنعها من النوم ليتناول غدائه، ومع ذلك فقد فضل النوم وخسر ما لديه وعرض نفسه لخطر الإفتراس وهو نائم في العراء.. أين هي حقيقة (قسمته)؟ هل هي في الخارج أم مع ذاته؟
الغربان التي تحوم فوق رأسه حقيقة مادية ماثله.. والعصافير والطيور التي أكلت زاده حقيقة مادية أيضاً.. والعشب الذي نام عليه في الحقل كذلك.. ولكن كيف يثبت هذه الماديات التي عاشها او شاهدها او تحسسها وحفظها في ملف ذاكرته؟ وكيف سيتصورها ليخرجها ويعرضها على زوجته بعد رجوعه الى منزله الريفي عند الغروب؟
ملف الذاكرة يضم صور الغربان والطيور والعصافير والعشب والطعام، هي حقائق مادية التقطها العقل، فهي ليست أفكار وتخيلات وحوارات ذاتية وتداخلات فكرية ومنهجية تقوم على التحليل والاستنتاج؟ الصور المادية الواقعية هي ليست أفكار ذاتية مجردة إنما صوراً واقعية اقتنصها العقل وجمعها في ملفه.. ومن هنا يمكن التفريق بين الفكر والمادة، فالفكر ليس مادياً، إلا أن الواقع الذي تكرست فيه الصور الواقعية هي في حقيقتها مادية نقلها العقل المجرد.
إشكالية الوجود والعدم..
ولما كان الأنسان واقعاً مادياً في كليته، فهل أن الفكر الأنساني ماديا هو الآخر بحكمً ان (الفكر إنعكاس للواقع المادي)؟
يقول رينيه ديكارت الفيلسوف الفرنسي في مبدأ الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود)، وهذه المقولة الفلسفية تشير إلى الآتي - لولا تفكيري بوجودي لما كنت موجوداً - وبالتالي يخلص الى نتيجة (أن الفكر يسبق الوجود).. ولكن ديكارت ذاته موجودا حتى لو لم يفكر.. بمعنى، هو موجود قبل أن يفكر بأنه موجود !!
والذي يقصده ديكارت في تلك الأزمنة المتشابكة المرتبكة هو مجابهة ميتافيزيقية فكر الكنيسة وإحتكارها بالغيبيات دويلات المدن الأوربية، أي ان الفكر يسبق غيبيات الإيمان الديني وبالتالي العمل على فصل الدين عن الدولة.
يقول الكاتب اليساري الوجودي الفرنسي جون بول سارتر في كتابه (الوجود والعدم) ان العدم ينبثق من صميم الوعي الانساني بالوجود ذاته، لأن الوعي يفجر الطاقات، وبهذا يسطو سارتر على مضمون ما قاله استاذه الفيلسوف الالماني مارتن هيدجر في كتابه (العدم والزمان).. والمعنى في الكوجيتو هو أن الفكر يسبق الوجود، والإشكالية هنا أنت موجود حتى لو لم تفكر، فأيهما أسبق إذن الفكر أم الوجود؟ طبعاً أنت موجود أولاً ثم تفكر ثانياً.. فمن الصعب أن تلغي وجودك عندما لا فكر.. إن وجودك وجوداً مادياً قبل أن تفكر.. والإشكالية هذه، التي ربما تتفرع إلى مقاربات وجودية، هي أن وجود الإنسان وجوداً مادياً في كينونته، وتفكير الأنسان هو إنعكاس لهذا الوجود وهو جزء منه.. فهل الفكر هو وجود مادي ايضاً لكينونة الأنسان ما دام يعتبر إنعكاساً متلازما لوجوده؟
ديكارت يرجح الفكر على الوجود لأسباب تتعلق بإحتكاكات مع الكنيسة لها طابع ديني ميتافيزيقي ولغايات فصل الدين وغيبياته المطلقة عن الوجود المادي لدويلات المدن الإيطالية، أي فصل الدين عن الدولة المدنية، كما أسلفنا.. ولكن متلازمة الفكر لا تنفصل عن الوجود المادي للإنسان.. كيف يمكن أن نتصور إنسان لا يفكر؟ وكيف يمكن أن نتصور إنسان يفكر ولا وجود له ؟
إذن، إن أسبقية الفكر على الوجود المادي - كما تشير إليه مقولة ديكارت - تعد فلسفة إيهامية محضه، لأن متلازمة الفكر ليست لها أسبقية ولا أولوية لكون الوجود المادي قائم في كينونتة المطلقة.
نظرية جون بول سارتر..
(الوجود والعدم)، دعونا نفكر في هذه النظرية أيهما الأولي الوجود أم العدم؟ مَنْ يسبق مَنْ؟ يقول البعض أن العدم يلازم الوجود الأنساني الى العدم، بمعنى (عدم، وجود، عدم) أي أن الوجود بدايته العدم وينتهي إلى العدم.. وبما أن وجود العدم حتمية في ذاته، فإن الوجود متلازم بحتمية العدم.
فإذا وضعنا الوجود بين عدمين فإن الوجود في ذاته يصبح حقيقة (مؤقتة) كوجود الأنسان المادي فيما يصبح العدم حقيقة (دائمة).. ومن ذلك يكتسب العدم حتمية لها بعد الديمومة، فيما يكتسب وجود الإنسان ذاته حتمية مؤقتة.
ولكن الإشكالية في هذا الفرز الفلسفي، كيف يمكن أن يُخلقَ الوجود من العدم؟ فإذا كان الشيء عدماً، فكيف يخلق وجوداً مادياً في كينونة وجودية من العدم؟ ثم، من أين يبدأ العدم؟ وإلى أين ينتهي؟ يتحدث هيدجر الفيلسوف الالماني عن متلازمة الفناء للوجود وإن هذه المتلازمة مترافقة مع الخلق (خلق، فناء، خلق، فناء) حيث تصبح هذه المتلازمة حتمية، ولما كان الفناء يلازم الخلق من بدايته حتى نهايته، فهو حتمية مطلقة ونسبية في آن. أما العدم فهو حالة مطلقة لا نسبية تلازمه.
ويكرس هيدجر معنى ان تكون انسانا إذ تقوم فلسفته على ثلاثة اسس هي القلق الوجودي والاغتراب والموت، وان معطيات القلق تنبع من حتمية الموت.. فالقلق الوجودي الذي يسيطر على الكائن البشري هو الذي يكشف عن معنى العدم، وسبب القلق هو الخوف على الوجود من العدم حيث ينشأ من ذلك اللامعنى من الحياة ولكن الانسان حقيقة هو الذي يعطي معنى للحياة ويصنع عالمه ومن الصعب الوصول الى هذه الغائية الا اذا كان الانسان حرا حيث اثبات الذات الوجودية يمنح الحرية. فيما تعد ثلاثية الفيلسوف باروخ سبينوزا ممثلة (بالله والعقل والفكر) حيث يعتقد ان الله عقل لانهائي موجود في كل شيء، الكون والطبيعة والفكر وان المنطق العقلي يوصل الى معرفة الله.. فهو في هذا المنحى ليس ملحداً.
وحينما لا يكون الانسان ذاته، يهرب من القلق الوجودي عن طريق السقوط في بحر الاشياء الصغيرة، التي تستعبده وتبعده عن إثبات ذاته.. ويمثل بحر الأشياء الصغيرة (الثرثرة اللامعنى لها - الفضول الهروب من الذات - الالتباس الوصول الى مرحلة الابتذال).
فالخوف يختلف عن القلق.. لأن الخوف من شيء قد يكون حيوانا مفترسا او أفعى سامة.. ولكن القلق ناجم عن العدم والعدم هو الموت والموت حتمية وجودية تعكس قلقاً وجودياً والقلق الوجودي يكشف عن الفناء.. والمحصلة ان الانسان امام معضلة العدم وإشكالية اللآجدوى من الحياة كما يراها سارتر.. ومن هنا يتجلى إلحاد الفيلسوف الفرنسي ونكرانه الله خالق الكون والمتحكم في توازناته الكونية وخالق البشر على عكس مارتن هيدجر الذي يؤمن بوجود الخالق سبحانه وتعالى.. ويتضح من ذلك، ان البعض من الفلاسفة ينتهون بالايمان بالله وبوحدانيته والبعض الآخر ينكرون وجوده معاذ الله ويظلون يطوفون في ظلال مبين،
***
د. جودت صالح
22/ شباط 2025