قضايا

مجدي إبراهيم: استثمار النفاق

ولاء أكثرنا للتفكير المادي هو سبب المصائب والكوارث التى تضج مجتمعاتنا تحت سطوتها صباح مساء، ولا تزال هنالك هوة وسيعة بين ما يُقال وما يُفعل، أو بين النظر والتطبيق، أو بين الخطاب الأيديولوجي والممارسة العمليّة. ولن يخلو مجتمع قط من أوْضَار وآفات تقدح فى كل قيمة وتسقط معها كل فضيلة، ويعلو فيها الإجرام والاستغلال وترقية الباطل والوصول بغير استحقاق.

يتغلغل التفكير المادي فى أوساطنا الاجتماعية حتى ليكاد يخنق ما تبقى منها من أنفاس، الأمر الذى جَرَّد المجتمعات من إنسانيتها وأسقطها فى أتون الغفلة والجهالة والشرور والانحطاط.

عقمت إرادة الأفراد فعقمت معها إرادة الشعوب، ففقدت روح المقاومة وخضعت للزيف والخذلان، واتصفت بالسلبية والاستكانة، لكن أخطر آفات التفكير المادي فى الدين والأخلاق هو النفاق، يقضي على البقيّة الباقية من قيم الوجود الروحي والسكينة النفسية، ويضرب إنسانية الإنسان فى مقتل ليحيله إلى حيوان أعجم تقوده الشراهة والطفاسة إلى أخس من سلوك الحيوان : إجرام تعجز عنه الشياطين.

ربما وجدت من حولك أسوأ خلق الله ممّن يجيدون حيل النفاق، وأسوأ منهم من يستثمرونه، يتنافسون على من يختص منهم بأكبر عدد من المطبلاتية، لا حباً فى التطبيل بل حباً فيما وراءه من حطام الفوائد والمكاسب. فالذى يفوز بعدد كبير منهم هو يعرف جيداً كيف يستثمرهم لنفسه، لأنه يعرف أنهم ينافقونه للوصول إلى مصالحهم، وبمجرّد أن تنتهي المصلحة يتحول التطبيل إلى سب وقذف علناً، إضافة إلى لعن اليوم الذى رأى فيه كل واحد منهم الآخر.

أذكياء هؤلاء الذين يستثمرون المنافقين، يعرفون كيف يستفيدون منهم، ويعلمون أن المنافق ضعيف، وله فى الضعف نسبٌ عريق، بمجرَّد الضغط عليه ينهار أمام مصلحته، فيستسلم لمطالب المستثمرين،  فهو لا يطلق لسانه بالكلمات المعسولة، ولا يلح بها على أسماع من هم فوقه إلا لأنه ضعيف، ويتصوّر أنه بما يجيد من هذه الكلمات أو تلك، وبما يوظف منها فى سبيل ما يحتاجه، يمكنه الوصول، بما يجيد ويوظف، إلى هدفه مباشرة، لكن الأذكى منه هو من يعرف كيف يستخدمه، ويستثمر نفاقه فى تحقيق أكبر فائدة تعود عليه من الربح المضمون.

إذا عُرفَ المنافق بضعفه، فهو معروف أيضاً بجهله، فليس أجهل ولا أشر ممّن يكتم الحق ويداري؛ لتكون قبلة الباطل طريقه، وما ترك من الجهل شيئاً من أراد يقدّم الكذب والتطبيل على الصدق والأمانة. والمنافق ذليل مقهور بالضعف والجهالة، والذين يستثمرونه، يعرفون منه هذا الخُلق الوضيع، وما ضاعت فضيلة قط إلا تحت مطارق النفاق، أليسوا سواء فى وضاعة الخلق : من ينافق ومن يستثمر النفاق؟

النفاق آفة دالة على مرض نفسي عقيم فوق دلالته على اعوجاج خُلق قلما ينصلح صاحبه إذا اعتاد على النفاق وأسس حياته عليه، والنفس الضعيفة عرضة للانهيار النفسي والخلقي وإهدار الكرامة، وموت الضمير، واصطناع الحيل المعوجة، والتلاعب بالقيم والأخلاق، وفقدان القدرة على العمل الجاد المنظم.

فى حديث شريف يقول سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (اطلبوا الأشياء بعز الأنفس فإنّ الأمور تجرى بالمقادير) يجعل الحديث للمرء كرامة إذا هو طلب الأشياء بعزة النفس لا بحيل النفاق المعوجة، فما من سبب يخلق مظاهر الاستغلال إلا إهدار الكرامة فى سبيل طلب الدّون من المنافع والمكاسب غير المشروعة، إذا عرف المنافق أن الأمور تجري بالتقدير الإلهي ولا سبيل لجريانها بالحيل المعوجة والألاعيب الصبيانية وأساليب النصب والاحتيال، لم يعد بحاجة إلى اصطناع حيل النفاق مع رؤسائه فى العمل، ولا مع من يصطاد منهم منفعة أو يكتنز مغنماً تافهاً مصيره الزوال.

وربما يعرف هذا كله جيداً، ولكنه مع ذلك يسلك سلوكاً يناقضه، كمن يعرف طريق الخير ولا يأتيه، ويعرف سبيل الشر ويقع فيه، الأمر الذى يؤكد أن المعرفة فى مجال الأخلاق ليست شرطاً فى استقامة السلوك. فالمنافق يعرف أن مآل نفاقه إلى احتقار، ومع ذلك ينافق، ويجيد من النفاق حيله الكبار، فلم تعد المعرفة تستقيم به إلى سلوك قويم؛ لأن قوام الخلق القويم مرهون بالإرادة، والمنافق يعجزه تقرير الإرادة فى نفسه كما تعجزه تقريرها فيمن حوله، وبفقدان الإرادة ينهار صرح الأخلاق.

***

د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم