آراء
ثامر عباس: حرية التعبير بين حدود القول وقيود الفعل
كثيرة هي عبارات وكلمات القاموس السياسي الرائجة التي سحرتنا معانيها وألهمتنا دلالاتها، للحد الذي أضحت فيه بمثابة ثيمة، بلّه تعويذة من تعاويذ خطاباتنا السياسية وانتماءاتنا الإيديولوجية المعبرة عن طبيعة التوجهات التي تتبناها هذه الجماعة أو تلك، وماهية الممارسات التي ينتهجها هذا الطرف أو ذاك. ولعل كلمات من مثل (حرية التعبير) و(حقوق الإنسان) و(العدالة الاجتماعية) و(المساواة أمام القانون) و(مبدأ المواطنة)، فضلا"عن مفاهيم مثل (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الاشتراكية)، الخ. من أكثر تلك الكلمات والعبارات شيوعا"في الخطابات وتداولا"في الشعارات، سواء أكان على صعيد (المجتمع السياسي) بمختلف مؤسساته، أو على صعيد (المجتمع المدني) بمختلف قطاعاته.
وبقدر ما يتم تواتر استخدام الكلمات والعبارات التي من هذا النمط بين عامة الناس وخاصتهم، بقدر ما تستقبلها عقولهم ويتمثلها كما لو أنها حقيقة من حقائق الوجود الطبيعي والاجتماعي، بحيث يصبح من الصعب حملهم على الشك في صحة مضمونها، أو حضهم على نقد مقارباتها، طالما أنها أضحت شائعة بينهم ومقبولة لديهم. وفي خضم مثل هذه الحالة الملتبسة، لا يعود مهما "بالنسبة لأولئك الذين لا يتخطى مؤشر وعيهم إطار مشاكلهم اليومية ومصالحهم الآنية، طبيعة الجهة التي تسوق وتروج لمثل تلك العبارات الجذابة؛ سواء أكانت حكومة دكتاتورية أم ديمقراطية، حزب ديني أم علماني، إيديولوجية يمينية أم يسارية، جماعة أصولية أم مدنية.
وبصرف النظر عن الطبيعة السياسية للجماعات والحكومات والإيديولوجيات، فإنه ينبغي النظر الى (حرية التعبير) بالمعنى النسبي والمجازي وليس بالمعنى المطلق. أي بمعنى أن هذه (الحرية) - بالنسبة لبلدان العالم المتقدمة – هي حرية (مشروطة) بجملة من الضوابط السياسية والقواعد الاجتماعية، التي ليس في وراد تلك البلدان السماح بتجاوزها أو تخطيها مهما كانت الأسباب أو الدوافع التي تحاجج بها الجماعات المتضررة من السياسات الاقتصادية والإجراءات الاجتماعية. فرغم ان (حرية التعبير) هنا مكفولة للمواطنين بموجب دستور الدولة القائمة، ولكن ضمن (الحدود) التي تشرعها الحكومات المهيمنة بما لا يلحق الضرر بوجودها ومصالحها. ولذلك فقد شهدنا - في الآونة الأخيرة - كم (ضيقت)، لا بل قمعت، هذه الحكومات الليبرالية من هامش (الحرية) المزعومة، حين تعلق الأمر بحق التظاهر للجماعات المعنية بحقوق الإنسان ضد ممارسات الدولة الصهيونية حيال الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
وإذا ما حاولنا مقاربة (حرية التعبير) من وجهة نظر بلدان العالم المتخلف، فإن الطابع (المجازي) في استخدام هذه العبارة سيكون هو سيد الأحكام، وبلا منازع. فبرغم ان حكومات هذه البلدان المتصدعة والمتشظية تنام وتصحو على إيقاع تلك العبارة المستهلكة، إلاّ أنها لا تخرج عن كونها (ستار) يخفي فساد هذه الحكومات وانحطاطها. ومع أن دساتيرها وتشريعاتها المفبركة تبيح للأفراد والجماعات (حرية التعبير) عما يرونه إجحافا"بحقوقهم السياسية، وإضرارا" بمصالحهم الاقتصادية، وتجاهلا" لخصائصهم الثقافية، إلاّ أنها لا تكتفي بوضع (الحدود) الضرورية – كما في حالة الحكومات الليبرالية - التي تدرأ من خلالها ما يتعارض مع سياساتها ومصالحها الفئوية، وإنما، علاوة على ذلك، تسن جملة من (القيود) الرادعة ذات الطابع الأمني والبوليسي، التي من شأنها ليس فقط الحدّ من تلك (الحرية) والتضييق عليها فحسب، بل وجعلها (مصيدة) للإيقاع بكل من يعارض تلك السياسات ويناهض تلك المصالح. ولعل ما أفضت إليه (حرية التعبير) - في عراق ما بعد السقوط - من مآس وفواجع لا نزال نحصد ثمارها المرة مرارة العلقم، كفيل بحملنا على التعاطي مع هذه الحرية من باب كونها ممارسة تتراوح ما بين (الوهم) في الحالة الأولى، و(الاكذوبة) في الحالة الثانية.
***
ثامر عباس






