آراء

وسام العبيدي: فتنة القول ومآلاتُه في ظل التحوُّل الرقمي الراهن..

من نافلة القول أن نذكر قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) بما يؤكد أن الإنسان محاسَبٌ شرعًا على قوله، مثلما هو محاسَبٌ على عمله، وهنالك آيات أخرى وردت في القرآن الكريم أشارت إلى مذمومية القول وأثره السلبي على فئة من المجتمع بتألبيه لهم على الشر بشتى مجالاته أو ترويجه، وقوله تعالى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) لَدليلٌ على ذلك الذم القرآني.. والأحاديث النبوية والمأثورة عن عترته والصالحين كلها تؤكد هذا الجانب.. وحين تؤكد أهمية القول وأثره وترتيب الأثر عليه في حال أدى إلى الخير من نفعٍ في مختلف المجالات، أم أدى إلى الشر من إضرار في مختلف المجالات، إنما تؤكد لنا بوضوح قيمة الإنسان وما يصدر عنه وأثره في مختلف الأحوال.

ولذلك فلا بد للإنسان - الذي يستشعر فعلاً واقعا إنسانيته - من مراعاة نفسه أولا قبل الآخرين بما يصدر عنه من قولٍ يعلي شأنه ويرفع مقامه في نظر الآخر، حتى حينما ينتقد ظاهرةً سلبيّةً في نظره، لا بدّ له من إيلاء الاهتمام بهذا القول الذي يصدر منه، فيحسب ألف حساب له من إيصاله للآخر - الظاهرة التي ينتقدها أو الشخص المنتقَد - بطريقة ذكيّة ولمّاحة في طرحها بما يُشعِر المنتَقَد بقيمته واحترامه من قبل الآخرين وأهميته لهم..

ونصل إلى عصر التكنولوجيا، عصر الازدهار الرقمي، عصر الذكاء الاصطناعي، الذي ينبغي أن يساوقه ازدهار أخلاقي من بني الإنسان صانع التكنولوجيا، والذي تحقق على يديه ما نشهده من ازدهار رقمي، وذكاء اصطناعي يفترض أن يعادله فطنةٌ في الطبيعة الإنسانية تؤتي أكلها عليه بأن يحسب لقوله الصادر عنه، ما يحسبه من تأثير مضاعف في الآخرين، فإن كان القول في السابق يذهب مع الريح فور انطلاقه من الفم، وتتناقله الألسن ولا يملك صاحبه في حال انتشاره بين الناس إلا الندم لما فيه من إساءة أو تشهير أو تشويه سمعة بالباطل، مثلما كان للشاعر في العصر الجاهلي أن يصرح بذلك في قوله:

نَدِمْتُ على شَتْمِ العشيرةِ بعدَما

     مضَى واسْتَتَبّتْ للُرواةِ مَذاهبُهْ

*

فأصبحتُ لا أسطيعُ رَدّاً لما مضى   

     كما لا يَرُدّ الدَرّ في الضِرعِ حالبه

فإن التقنية الرقمية في عصرنا الحالي تُضاعف ذلك الأثر السلبي على القائل قبل المقول فيه، فلا يمكن - والحالة هذه - إلا أن يرتقي الإنسان في خطابه الذي يُطلقه من خلال منصّته الرقمية، بمراعاته الآخر فيما لا يمسُّ جوهر إنسانيته، ولا يقدح بأمور أخرى لا تمت بصلة إلى أصل الظاهرة معرض الانتقاد، وإلا انكشف قوله ذاك، عن حقدٍ دفين يمارسه بعنوان "الانتقاد" ففي كبسة زر واحدة يمكن أن تسقُطَ في مروئتك، قبل أن تُسقِط الآخرين بحُبالة ذلك القول، وبمنشورٍ واحد غير منضبط في انتقاده يمكن أن يُتيح الفرصة لمن هبَّ ودَبَّ من أشخاص يشاهدون ذلك المنشور، بالتمرُّغ في وحلٍ من القذارات اللفظيّة عبر تعقيبهم عليه في خانة التعليقات، علمًا أنَّ المسيء من هؤلاء، إذا أراد الإساءة وأضمرَها في سِرِّه، قد لا ينتظر المنشور المنفلت عن الذوق الرفيع، بل لديه الاستعداد الكامل أنْ يُلقي قمامته اللفظية في أينع المنشورات وأبهاها منظرًا وجوهرًا، بمعنى أن لا يكون فعلُ مثل هؤلاء المُسيئين في كل الأحوال، حُجّةً تُسوِّغُ للمعترضين على هؤلاء بالامتناع من نشر النقد الهادف والبنّاء، أو تدفعهم لنُصحِ الآخرين من عدم التصريح بانتقاداتهم الهادفة بحُجّة أن هؤلاء المسيئين سينتهزون الفرصة السانحة؛ ليمزِّقوا المنتَقَد - شخصًا كان أم جماعةً أم ظاهرةً - شرَّ مُمزَّق، فهذا ما يعني السكوت المُطبِق عن ما يستحقُّ الحديثُ عنه أو تسليط الضوء عليه، ويدفع ذلك إلى تفاقم مثل تلك الظواهر، أو بمرور الزمن تندرج ضمن المعايير الأخلاقية أو الأعراف المُتّبعة في هذا المجال او ذلك السياق؛ وذلك بسبب السكوت عنها، وعدم تنبيه الغافلين على خطورتها...!

وإذا تمّ لنا تشخيص أهمية القول وأثره في الآخرين، سلبًا كان أم إيجابًا، فإنه في الوقت نفسه - على أي حال - يمثِّل مسبارًا يكشف مصداقية صاحبه من عدمها، ومن ثراء ثقافته من فقرها؛ هذا لأن الثقافة بوصفها "مجموعة من الصفات الخُلُقية، والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته، وتصبح لا شعوريا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه" بحسب تعريف المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي لها، موجودة على أي حال عند الجميع، ولكنها تكشف من يدّعي هذا الوصف اللطيف في مدلوله العُرفي بين الناس، ومن يُمارسه في سلوكه ومواقفه مع الآخرين، إذ يمكن لأي مُنصفٍ إدراك زيف ادّعاء هذا الوصف، لمن يكشف قوله - نشرًا أو تعقيبًا على الآخرين في أقوالهم في الواقع وفي العالم الافتراضي عبر منشوراتهم - عن نزعة أحادية تقوده إلى التعميم في إطلاق الأحكام بحق من يختلف معهم، فيسرد مصفوفةً من الأوصاف الجاهزة بحقِّهم في كلا الحالين - الرضا أو السخط - أو تنحدر به الخصومةُ غير النبيلة، إلى القدح في الأعراض، ورمي الجماعة كلِّها في خانة الإساءة وتشويه السمعة وطمس الحقائق.

أقرأ يوميًّا وبشكلٍ مستمرٍّ، ما يتداوله الناس عبر منصّاتهم الافتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت بديلا عن المقاهي والنوادي والملتقيات التي كان لها حضورها الواضح في المشهد الاجتماعي لا العراقي فحسب، بل العالمي، بفعل تطور التكنولوجيا الحديثة في ميدان التواصل الرقمي، فلا أجدُ إلا النادر من بين تلك "المنشورات" ما يُدلِّل على فهم جيد لخصوصية الآخر في نقد منجزه أو موقفه، إذ الأحكام الجزافية التي تجنح إلى لغة الإطلاق والعموم بما فيها من حمولة ساخطة تضع الجميع - سواء أكان جميع الأفراد في هذه الدولة أو هذه المنطقة أو هذه الجماعة أو تلك الشريحة، أم كان جميع المنجز من دون تخصيص أو حصر مدة زمنية أو موضوع معين ينتمي إليه ذلك المنجز - في سلّةٍ واحدة، وعنوان واحد، وحكمٍ واحد، ومعيارٍ واحد، وتشخيصٍ واحد، كل هذه الأحاديات، تكشف بصورةٍ أو بأخرى عن ضيق ذرعنا بالآخر، وعن نرجسيّتنا التي تُملي علينا هذه التصوّرات الأحادية، وقليلٌ جدًّا من ينفلت من خندق التفكير الأُحادي الذي بمقتضاه يدع فرصةً للآخر أن يختلفَ عنه، أو يسوِّغ له اختلافه عنه في ذلك الموقف، أو ذلك المنجز الذي بحسب تلك الظروف ما كان له أن يكون كذلك. لا سيّما اذا كانت تلك الظروف ضاغطةً بشِدّة تُملي على صاحبها ذلك الاختلاف، أو ذلك النشوز في نظرنا، وبما أدّت إليه من نتائج على ذلك الموقف لذلك الشخص أو لتلك الجماعة.

كتبتُ يومًا منشورًا يسلّط الضوء على خطاب أحد كبار علماء الدين والفلسفة والدراسات العقلية في زيارته للمشاهد المُشرّفة في العراق، يتحدّث فيه مع جمعٍ غفير من طلبة العلوم الدينية، وبعد ترحيبي بهذه الزيارة، قلت إن كلامه فيما يخص توجيه طلبة العلم أن يستلهموا كل المعارف والعلوم من تراث النبي وآله الطاهرين لا الدينية والأخلاقية فحسب، بل كذلك في مختلف المجالات من علوم فلك ومجرّات، وعلوم إنسانية تطبيقية أخرى، في هذا الخطاب إجحاف بحق الآخر الغربي الذي نختلف معه في الدين مثلا وفي بعض العادات والتقاليد التي لا تنسجم وطبيعة الدين الذي نعتزّ بالانتماء إليه، ولكن لا يعني ذلك أن نتقاطع بصورة مطلقة مع منجزه في علوم التكنولوجيا التي لولاها لما كان للمسلمين من مختلف المذاهب يتواصلون الآن فيما بينهم عبر تلك المنجزات، فلا بأس من الاستفادة ممّا توصّلوا إليه من منجزات ترتقي بواقع المسلمين في ديارهم، ولا بأس من نقل تلك الخبرات التي توصّلوا إليها في بلادنا التي تئنّ من الخراب في مختلف المجالات، وليس تلكم المنجزات المعرفية التي توصل الغرب إليها حكرًا عليهم في ظل انفتاح السوق العالمية على مختلف بقاع الأرض، وانفتاح جامعاتها لكل من يريد أن يستفيد من علمائهم وما توصلوا إليه من نتائج مبهرة في مختلف المجالات العلمية، فهل مثل هذا الخطاب الذي يُطلقه هذا العالم الكبير المُبجّل في منجزه، بضرورة الاكتفاء الذاتي من تراث النبي وآله في كل المجالات المعرفية ومن دون تخصيص، ينسجم وروح المدوّنة الدينية التي لو تأمّلنا فيها بتدبّر، لما وجدناها تنهج هذا المسلك، فالنبيُّ في معركة الأحزاب، قد استحسن فكرةً أتى بها الصحابي سلمان استلّها من ذاكرته حين كان في بلاد فارس، وهي فكرة الخندق، هذه الفكرة ليس عليها مسحة دينية، أو لم تخرج من بودقة تراث النبي وآله الطاهرين، ولكنها فكرةٌ عمليّة أدّت أثرها الستراتيجي لجماعة المسلمين وحفظتهم من الإبادة الجماعية التي يمكن أن تحصل لهم على يد جموع الأحزاب من الكفرة المناوئين لهم، لم يتردد الرسول في استحسانها، بل سارع إلى تنفيذها، ولم يقل إنها فكرةٌ خرجت من عقلٍ مجوسيٍّ يعبد النار والعياذ بالله.. ! وفعلُهُ هذا إنما يُترجم لنا مدى انفتاحه لمنجز الآخر الذي يصبُّ في نفع الناس ومصلحتهم العامة، وحفظهم قدر الإمكان من الهلاك، وهو ترجمةٌ عملية لأخذ الحكمة أنّى كان مصدرُها، وأيًّا كان صاحبُها. وانتقادي فقط انصبَّ على هذه الجزئية من خطابه، وعلى قضية أخرى طرحها تتصل بهذا الشأن وهي: "أسلمة المعرفة" التي لم تُثبت الوقائع العملية ولا التاريخية ولا العقلية مصداقية هذه القضية، فهي ليست إلا تعبيرٌ عن متخيّل الجماعة التي ترغب أن تكون للمعرفة الإنسانية هويةٌ بنكهة الانتماء الديني الذي تعلنه إزاء الديانات الأخرى.. وهذا لا يعني بخس قيمة منجز هذا العالم الجليل في المجالات المعرفية التي طرقها وألّف فيها، فأحسن وأجاد، ولكن في هذا الموضع من خطابه لا أتفق معه بحسب ما أراه ولعله هنالك توجيهٌ آخر يفنّد ما توصّلتُ إليه، وهو أمرٌ طبيعيٌّ أنْ أُحسِنَ في التقاطي هذه الجزئية فأُسلِّطَ عليها الضوء، أو لا أُحسِن بوقوعي مثلا في استدلالٍ خاطئٍ أدّى بي إلى الوهم أو اللبس، كذلك الأمر يمكن أن يقع فيه أيُّ شخص، وليس هنالك كمالٌ عند الإنسان بصورة مطلقة في جميع المجالات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) ولكن ما يؤسف أن أَجِدَ بعض الذين عقّبوا على هذا المنشور، إما أن يُعمِّمَ في نظرته "التقديسية" لهذا العالم الجليل القدر، فيُمعن في تخطئته لي من دون أن يكشف لي بدقّة موضع الالتباس الذي يدّعيه في كلامي الذي ينتقد هذا الموضع من خطابه، وإما أن أجد في التعليق على هذا الموضوع، من يُعمِّم في نظرته "التدنيسية" لهذا العالم الجليل القدر، منطلقًا إما من عقدةٍ طائفية تضادّه بالتوجه المذهبي، وإما من عقدة من الدين أصلاً، إذ لا يعترف أمثال هؤلاء بشيء اسمه دين ناهيك عن لواحقه، من قبيل: رمز ديني، عالم دين،.. الخ فيُمعن هؤلاء بإطلاق الأحكام الجزافية انتقاصًا لا بهذا الموضوع الذي تمّ تشخيصُه، بل بكل ما يتّصل أو يمثّل أو يعبّر عن المجال الذي ينتمي إليه أو يشتغل فيه، والحال نفسه أجده بأقدار قد ترتفع أو تنخفض من التطرُّف في إطلاق الأحكام على أي مجال أو ظاهرة تنتمي إلى أي مجال من المجالات الحياتية المعيشة، فحين يتم التعرُّض من قبل أحدهم إلى ظاهرة في الميدان السياسي، تجد الأغلبية ممّن يتفاعل حول هذه الظاهرة، لا يملكون زمام عقولهم، في تشخيص من المتسبب في هذه الظاهرة..؟ وما العوامل التي أدت إليها..؟ وما الآثار التي تؤول إليها فيما بعد..؟ ولكنهم لم يقصِّروا في تقصير الجميع، ووصف الجميع بوصفٍ واحد، وهذا الشأن نجده أيضا في الحديث عن ظاهرة مجتمعية، أو ظاهرة ثقافية، فمثلا تجد الذين يكتبون قصيدة النثر دائما ما يُطلقون أحكامل عامة حول الشعراء الذين يكتبون القصيدة ذات الشطرين - المُصطلح عليها عرفًا وليس واقعًا بالقصيدة العمودية - بأنّ هؤلاء منبريّون وأن قصائدهم قصائد سلطة، وأن شعرهم هو الذي أتاح للسلطة من التغطرس والعنجهية، وأن قصائدهم ما هي إلا تقليد واجترار لمن سبقهم، ...الخ من أوصاف جاهزة، في قبال اتّهامات جاهزة يُردّدها الكثير من ممثلي الشعر بشكله الموروث، أن هؤلاء - شعراء قصيدة النثر - لعجزهم عن مجاراة الشكل التقليدي للقصيدة كتبوا هذا الهراء - بحسب وصفهم - وأن أكثرهم - وبعضهم يرى الجميع - يعجز عن كتابة جملة مفيدة صحيحة من حيث التركيب النحوي، وأنهم يقلدون الغرب في كتابتهم هذا النمط من الشعر، ..الخ وهكذا الحال في من يشخص ظاهرة في الشأن الرياضي، أو الشأن الاقتصادي، أو الشأن الترفيهي، ..الخ تجد الذين يتطرّفون في تعقيبهم إما بالذمِّ والقدح والانتقاص، أو بالمدح والتنزيه وتصويب المُتحدِّث بأي طريقةٍ وإن كانت على حساب الحقيقة والوضوح..!

وختامًا أقول ما بدأ الجاحظ به كتابه "البيان والتبيين": اللهم إنّا نعوذُ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذُ بك من التكلُّفِ لما لا نُحسِن كما نعوذُ بك من العُجب بما نُحسِن، ونعوذُ بك من السلاطة والهذر كما نعوذ بك من العِيِّ والحَصَر".

***

د. وسام حسين العبيدي

في المثقف اليوم