آراء

أكرم جلال كريم: الإمام الحسين ومشروع الفتح المُبين

لا شكَّ أنّ مشروع الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلامُ) هو مشروع هجرة مطلقة نورانيّة نحو عالم القرب الإلهي وإدراك مقام الخلود، فالإمام (عَلَيْهِ السَّلامُ) قد طوى في سفره هذا أبعاداً كثيرة تفوق كونها هجرة إنسان مجاهد اتخذ الشهادة طريقاً من أجل رفض الحكم الظالم، وهذه الهجرة لا يجوز التوقف عندها وقراءتها من بعدها التراجيدي حصرًا، والتي تصوّر مقتل القائد وأهل بيته وَأَسْر عياله وسبيهم من بلد إلى بلد على يد مجموعة من الوحوش الذين تجمّعوا، يقودهم العمى والجهل، بل لا بدّ من تقديم قراءة موضوعيّة تتحلّى بالشموليّة في مضمونها الفكريّ والروحيّ، وهذه القراءة تتلخص في أنّ المشروع الفكري والمنهج الحسيني في المسير نحو كربلاء إنَّما هو في حقيقته حركة إختراق لحدود الزمان والمكان، ولأنّه مشروع السماء فقد كان للمدد الغيبي دوره في التطابق والانسجام المنقطع النظير بين الوجود المادي مع الغيب السّماوي، فكان لهذا المشروع أبعاداً ومضامين متعددة، لعلّ أحدها هو القتل في سبيل الله من أجل إصلاح الدين وحفظ جوهر الرسالة المحمديّة، لذلك نرى أنّ المنهج الذي اتّبعه الإمام في تعامله مع حالة الخنوع والاستسلام التي كان يعيشها المسلمون وكيف أنّ الدين أصبح مُعرّضاً للتّحريف والضياع، كان منهجاً يسعى لإيقاض الأمة وتهيئتها لمرحلة تغيير شاملة، فكان التّخطيط يجري ضمن مسارين؛ الأول هو المنهج الحركي النّهضوي الذي تعامل من خلاله الإمامُ مع عامّة المسلمين، حيث كان لا يَخرج ولا يتخطّى البُعد الواقعي أو الوجودي في سلوكه وتبنّياته، فعمل بظواهر الأشياء وطرق أبواب الأسباب، وهذا المسلك يتماشى مع المنطق الطبيعي لنمط الحياة وتفكير عموم المسلمين، حيث لم يعمل سلام الله عليه بالولاية التكوينيّة ولم يتّخذ من المعاجز ولا الأسرار الإلهية سبيلاً من أجل استنهاض الأمّة، إنَّما كانت تحرّكاته في عمومها مُنسجمة مع الحوادث والأسباب والمواقف، فلقد تعامل سلام الله تعالى عليه مع العوام من الناس بما يوافق العقل ويتفق مع المنطق السائد وينسجم مع الأسباب والمُسبّبات التي تجري على الأرض، ولكنّه سلام الله عليه قد أتّبع في الوقت ذاته منهجاً ومساراً مختلفاً في تعامله مع الخواص من أصحابه وأهل بيته، من أهل البصائر والأفهام، حيث انتهج مساراً معرفياً أساسه الارتباط الغيبي الروحي بالله تعالى، وهو المنهج الذي لا يَصل إلى حقيقة فَهمه ولا يُدرك علوّ مقاماته إلّا أولئك الذين ارتقوا مراتب المعرفة وَتَمكّنوا من الالتفاف حوله سلام الله عليه مؤمنين بيقين أنّه إمام مُفترض الطاعة وأنّه واسطة الفيض الإلهي، فساروا معه بقلوب واثقة ونفوس مطمئنّة مِنْ أجل أن يدركوا الفَتْح الذي أشار إليه الإمام في كتابه الذي بعثه إلى بني هاشم، فكانت تلك الرسالة العظيمة التي تركها الإمام لتقرأها البشرية أجمع في كل زمان ومكان:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم استُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام)1، كلماتٌ ما أروعها وأروع معانيها، كلماتٌ اختَصَرت منهجَ ومشروعَ مُفكّر فهيم وفيلسوف عظيم، أسَّس لمدرسة أهدافها قد أوجِزَت بكلمات واسعة المعنى وعميقة المغزى، حيث أوضح الإمام من خلالها أنّ مَن لَحِق به استُشهد ومَن لم يَلحَق به لم يُدرك الفَتْح. بكلّ وضوح ألقى الإمام سلام الله حجّته ولم يُبق لذي عذر عذراً، فأشار إلى أن مَن يَبغي اللّحاق به فإنّ مَصيره الشّهادة والقَتل، ثُمّ أردف قائلاً ومَن لم يَلحَق بي لَن يَبلُغ الفَتْح وسوف يفوته الانتصار. فعن أي فتح كان يتحدّث الإمام وأي أنتصار كان يقصد؟

إنّ مَن لا يَتَدبّر في جوهر الأبعاد والمضامين الفكرية والروحية لمشروع الإمام سلام الله عليه يجد أنّ المعنى الظاهري في رسالته يوحي بالتناقض، فالقتل لا ينسجم مع الفَتْح والانتصار، وحاشى للإمام وهو المعصوم والمُنَزّه عن اللّغو والعبث أن يقولَ شططاً أو أن يَدعُوَ عَبَثاً، وهنا ومن أجل الوقوف على المَعاني الحقيقية لهذه الرسالة لا بُد من استيضاح الأمور التالية: ما هو المُراد من كلمة اللّحاق؟ وهَل اللحاق مُقتصر على زمان الإمام أم أنّ الباب مفتوحٌ في كل زمان ومكان؟ وما المقصدود بكلمة الفَتْح؟ وكيف جَمَع سلامُ الله عليه مَعنَيين مُتَغايرين في جملة واحدة وفي مسعى واحد وهما النَّصر والشّهادة؟ تلك الأسئلة وأمثالها تشكل قطب الرحى لهذا البحث وهي بذلك تستدعي منا التوقف قليلًا لتسليط الأضواء على تلك القضية الجوهرية، ومن دون ممارسة عملية وتفكيك حفرية المفاهيم المتعلقة بالقضية الحسينية لا يمكن الوصول لبعض الحقائق الجوهرية والتي هي بمثابة المقدمة للوصول نحو الهدف المنشود.

إنّ التّمعن بمُفردات رسالة الإمام وهي: اللّحاق والشهادة والتخلف والفَتْح، ومن خلال الأحداث التي رافقت الإمام والتي كانت تُنذر بمؤامرة خَطيرة تحاك من أجل تمزيق دين الله وهدم شرائع السماء، سندرك كيف أنّ الإمام كان يُخَطّط لتنفيذ مشروعٍ هُوَ أملُ الأنبياء والمُرسلين، وهذا المشروع توجزه رسالة الإمام سلام الله عليه وتلك الكلمات الأربعة والتي حينما نقرأ عُمق الترابط بينها سَندرك قدسيّة وعظمة ثورة الإمام سلام الله عليه.

إنّ كلمةَ اللّحاق تَعني إدراك الشيء أو الوصول إليه أو الانضمام إليه وإنَّ السّعيَ الجّاد من أجل اللّحاق يستلزم بطبيعة الحال السبب الحقيقي والرّغبة الصادقة لإدراك الشيء والانضمام إليه، لذا فنداءُ الإمام كانَ موجّهاً لأصحاب القلوب المُبصرة، القلوب التي أمتلأت عشقاً لله فَمَلأها الله عِشْقَ الحُسين (عليه السلام)، فاستَرخَصوا الأرواح وَشَرَوا صحبته، فلأجل الحسين وأهدافه يرخص كل شيء، كما أن الإمام أراد إلقاء الحجّة وتبيان جوهر هذه النهضة وأساسها ومنطلقها الفكري والعقائدي، وأنّه سلام الله عليه لم يترك الباب مفتوحاً لأولئك الذين تقاعَسوا عن نُصرته ولم يرغبوا باللحاق به مِنْ أن يُحاولوا تَبرير عدم خروجهم بأعذارٍ وذرائع قد تصل حد اللجوء لتشويه حقيقة أهدافه، أمرٌ قد ينطلي على السذّج من عامة الناس.

وكلمة الشّهادة تعني الاحتجاج أو الإخبار عن الحقيقة قولاً أو فعلاً، قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾ [البقرة: 282]، ومن هذا المعنى يُستَدلّ به على أنّ الشهيد هو المقتول في سبيل الله، أي عندما يسعى صادقاً لنيل مرضاة الله قولاً أو فعلاً فينال كرامة القتل، وسيكون حينها شاهداً أو شهيداً على الحقيقة التي قدّم لأجلها نفسه في سبيل الله جلّ وعلا.

وأما الفَتْح فهو في اللّغة نقيض الإغلاق، فـ "فَتَحَ" "ضد أَغْلَق، كفَتَحَ الأبواب فانفتحت. والقرآن الكريم أورد العديد من الآيات فيها كلمة الفَتْح، وهنا نكتفي بذكر موردين فقط من سورتي النصر والفَتْح، حيث يكون فيهما معنى الفَتْح أكثر وضوحاً، ففي سورة النصر يقول الباري جل وعلا: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْح * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر: 1-3]. لقد أشار السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان لأكثر من معنى قيلت في تفسير كلمة الفَتْح في سورة النصر ولعل أهمّها هو فَتْح مكة الذي هو أمّ الفتوحات، وهو النصر العظيم الذي مَنَّ الله به على رسول الله والمسلمين، فَبِه انكسرت شوكة المشركين وتهدم بنيانهم.

وفي سورة الفَتْح يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ [الفَتْح: 1-2]، ولكلمة الفَتْح في هذه سورة معانٍ عديدة، لكنّ أغلب تلك المعاني تشير إلى أنّ المُراد هو النصر العظيم، وبالتالي فكلمة الفَتْح في كلا السورتين تشير بشكل أو بآخر إلى معنى واحد، هو النصر الذي منَّ الله تعالى به على نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم. ويُقسِّم أهلُ التفسير والعرفان معنى الفَتْح إلى قسمين: فَتْحٌ مادي، وَفَتْحٌ مَعنوي، (والبعض يطلق عليه الفَتْح القريب والفَتْح المبين وهما يتيسّران للأنبياء والأولياء والعرفاء. والفَتْح المُطلق والذي هو من المقامات الخاصة بالمرتبة الختمية (خاتم النبيين) وإذا حصل ذلك لشخص، فإنَّما هو بالتبع وبسبب شفاعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم 2)، والفَتْح المادي أو الفَتْح القريب هو ما يُدرَك بالحَواس الجسمانية، فمثلاً يُقال أنّ فُلاناً فتح الباب أي أزال إغلاقه، وهذا الأمر يمكن إدراكه بالعين المجردة، فالانتصار في معركة بدر ومثله فتح خيبر على يد أمير المومنين علي (عليه السلام) أمثلة على معنى الفَتْح المادي.

لقد كان الإمام في مشروعه الإلهي ينتهج أسلوباً فريداً بكل أبعاده من حيث التخطيط والإعداد والتهيئة والتنفيذ، فالفَتْح الذي عَناهُ الإمام سلام الله عليه كان يحمل مفهوم الجمع بين النصر العسكري (الميداني) وبين الشهادة التي أراد من خلالها ومن خلال الدماء التي سالت أن يخترق بها محدوديّة الزمان والمكان ليلتحق بهذا الركب من أراد في كلّ زمان ومكان فينال بذلك الفَتْح المبين، فتحٌ أراد به الإمام سلام الله عليه الجمع بين الحُسنَيين، النّصرُ والشهادة معاً، وهذا ما لم يُدركه أحد، ولقد أدركهما الإمام معاً، بل يمكن القول إنّها دعوة مستمرة من الإمام سلام الله عليه لمن أراد اللّحاق به في أن يكون ضمن مشروع السماء، مشروع إعادة الرّوح لرسالة الإسلام المحمدي العلوي والذي خَطّطَ لتمزيقه شياطين الإنس أمثال أبن آكلة الأكباد وسليلهم الخمار ومن اتّبَعَهم وَسَارَ على نَهجِهِم إلى يومِ الدين، فلقد كشفَ بذلك الإمامُ الحُجُب عن هذا المشروع الإلهي (مشروع الفَتْح المبين) لأصحابه يوم الطف وأراهم منازلهم ومقاماتهم الرفيعة في الجنان، فتسابقوا فرحاً وشوقاً لِنصرة الدين .. فَنصرهم الله.

***

د. أكرم جلال كريم

.....................

المراجع

1. بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج 44، ص330. وكامل الزيارات - إبن قولويه - ص75، بـاب 24، حـديث 15. واللهوف في قتلى الطفوف - السيد إبن طاووس - الصفحة 25. ومثير الأحزان - ابن نما الحلي - ص27.

2. الأربعون حديثاً - الإمام الخميني - الحديث الحادي والعشرون ص317.

 

في المثقف اليوم