نصوص أدبية
عادل الحامدي: ميّتة دراماتيكية لحصان المولدي
سيقول هذا الرجل إذا دُعِيَ للشهادة،.. إلا إذا عنّ له أن يتراجع فيها لإقتناعه أنها قضية تافهة، أو لغوران فجئي للمعين الذي تغرف منه شجاعته للشهادة وقول الحق.. أن حصان المولدي، الذي أوقفه صاحبه عند الناصية في الصباح وولج إلى المقهى، لم يسقط على الأرض من فرط الإنهاك، ولا بفعل سكتة قلبية داهمته على حين غرة.. ولا بفعل أي عارض مرضي أصابه، فهو حصان نشيط وقوي، وليس في سجله وقائع سقوط مشابه لسقوطه هذا.. كان سقوطا غريبا مدهشا احتار في تعليله كل من مر من هناك وشاهد الحصان ممددا على الأرض والعربة المشدودة إليه متقوضة فوق ظهره، دون أن يفلح المولدي في فكه عنها إلا بعد لأي.
مرت برهة وهو لا يكاد يصدق عينيه.. كان قد أنهى تراتيل التملق الصباحي المعتادة لصديقه وغادر محله عائدا إلى حيث ترك الحصان والعربة عند الناصية.. وصاحبه يلاحقه من مسافة بهز رأسه مؤكدا على كل ما قاله.. هاله أن يرى الحصان على غير الصورة التي اعتادها منه؛ ساكنا مطيعا مطأطأ الرأس منتظرا عودته بذلة.. لا يتحرك إطلاقا ولا يغير وضع وقوف العربة التي شُدَّت إليه.. وذلك ما يطمئن المولدي دائما، الذي لا يخشى أبدا حركة غير محسوبة من حصانه الوديع قد يتسبب بها في اصطدام مع سيارة أو شخص مار لو تحرك وحده عندما ينزل عنه ويتركه.
هذا الصباح بدا الحصان قلقا يحرك ٍرأسه يمينا ويسارا لأن المولدي نسي أن يضع عند طرفي عينيه تلك القطعة من القماش التي ستمنعه من رؤية ما حوله، وتجنبه ذعرا غير مبرر.. المولدي لم يرغير حصانه ساقطا على الأرض.. والعربة باركة فوقه.. أدهشه ذلك فعلا. لكن لم تعتوره الخشية من شيء خطير أصاب الحصان ولا داخله شك في قدرته على الوقوف مجددا أو إجباره على ذلك إذا عاند.. وقدّر أن الأمر كله يعود إلى نزوة غلبت على الحيوان فقرر أن يبرك ويتحكك، رغم غرابة ذلك منه لو حصل وبعده عن طباعه المطيعة وعوائده المستقيمة التي ألفها منه المولدي. يلوّح تلويحا خفيفا بالسوط فينطلق الحصان بالعربة مع الريح. ويشد المولدي اللجام فيفهم الحصان المطلوب منه حسب قوة الشد. إذا جذب المولدي اللجام جذبة خفيفة خفف الحصان من سرعته. وإذا شده بعنف تجمد الحصان في مكانه في الحال، ولازم وضع التحجر كأن ساقاه غاصتا فجأة في الأرض، وغدا لا شيء ينبيء بوجود حياة فيه غير عرفه الذي كانت تحركه الريح ونشات صغيرة من ذيله يذود بها عنه الذباب، حتى لو غاب عنه المولدي دهرا.
لكن لم يمر دهر قبل أن يرى ذلك الرجل، الذي سيكون شاهدا على الحادثة، سيارة "باسات" ضخمة قادمة من الإتجاه المقابل، يقودها مراهق يكاد يكون طفلا، نحيلا فارغ الوجه ممتقع السحنة.. شاهده يتوقف على مقربة منه. يطلق زمارته ويمسك هاتفا فاخرا، يتكلم و ينتظر قليلا.. يخرج صديقه المراهق الآخر من باب منزل قريب.. ممسكا هو الآخر بهاتفه.. يفتح له باب السيارة. فيلجها فخورا مزهوا. ثم يستدير استدارة عنيفة في استعراض لمواهبه في القيادة،.. وفي استدارته تلك يصك الحصان على جبينه تماما. ضرب جانب السيارة وجه الحصان، دمغه دمغة لم يحسب أنها كانت ضربة مميتة.. حتى الحصان لم يصدق للوهلة الأولى ما حصل له، تلقى الضربة في رأسه.. وللحظات تلت ذلك حافظ على ثبات وقفته و استقامة عنقه.. فلم يتمايل ولم يهتز ولم يترنح، بل رفع رأسه أكثر مما اعتاد أن يفعل. وفي عينيه سرى احمرار، ثم مشت رجفة في جسده وسقط على جانبه على الأرض.
لم يحرك رأسه وهو ساقط بعدها أبدا. تجمع حشد من الناس حوله في محاولة منهم لإنهاضه.. بالركل والشد والرفس بالقدمين، لكنه لم يتجاوب مع أحد ولم يأت بأي حركة تدل على أنه مازال حيا.. سقط ميتا في الحال، حتى قبل أن يستوعب ما حدث له أو يدير رأسه متعقبا بعينيه أثر ضاربه. الآن على المولدي أن يتخلى عن لامبالاته ويفهم أي كارثة حلت به وبمورد رزقه.. ماذا حدث للحصان ليسقط هكذا؟ ضربته سيارة باسات عرضيا في رأسه ومضت في طريقها لامبالية.
قال ذلك للمولدي.. عندما كان لا يزال متحمسا للإدلاء بشهادته بإخلاص ودون خوف.. فالتفت نحوه محنقا: وعرفتها باسات تحديدا ؟؟ لم ليست رينو أو كيا أو سيتروين.. فهي تملأ الشوارع. وبصق بصقة طويلة وغليظة على الطريق.
ظل الحصان ممددا في موضعه. والمولدي لا يصدق ما تراه عيناه، أن حصانه الغالي لن ينهض مرة أخرى أبدا. يمدّ يده ويشدّه من رأسه كأنه يحتضنه.. يشد أذنيه محاولا إيلامه ودفعه لرد الفعل، فتغوص أصابعه في الجانب الأيمن من جمجمة الحصان المهشمة. تحسس المولدي الأنسجة الممزقة والعظام المهشمة تحت الجلد الذي ظل متماسكا، ثم صرخ بذعر:
- الحصان ضُرب في رأسه....
- هل قلت باسات؟
تذكر أن المرهق الثاني الذي امتطى السيارة جاره. وأنه إذا أصر على شهادته فعليه أن يقول أي باسات يقصد، فيورطه ويتلقى الإتهام بالخيانة والجحود.. وعداوة ذلك الجار.. وخسارة آشياء كثيرة.
لهذا بدا عليه التردد.. ومال للعودة في شهادته. حتى المولدي المتضرر الرئيسي، لم يبد عليه تشبثا كبير بما قاله..وغلبت على سؤاله السخرية
- لا أذكر.. ولست متأكدا.
- ومن سيحاسب سيارة على أنها ضربت حيوانا؟
لقد مات الحصان يا مولدي.. ارتفع صوت من الحشد الذي كلّ من محاولة انهاض الحصان ويأس أخيرا من إعادته للوقوف.. لنحمد الله أن الضربة جاءت في حيوان ولم تحيء في إنسان..
- إنها حافلة النقل العمومي.. لا شيء غير الحافلة قد يصيب الحصان بضربة مميتة.. فهي تحتاج إلى دورة كبيرة. قال صديق المولدي الذي كان يجالسه قبل قليل في المقهى.
نظر المولدي حوله مفجوعا.. ودارت في رأسه كلمة الباسات مثل اللسعة.. لصديقه الذي اعتاد أن يتملقه كلما جالسه في المقهى سيارة باسات فعلا.. ويعرف أن من يقودها هو ابنه المراهق فارغ الوجه ممتقع السحنة. لكن هل من أجل حصان؟ بهيمة بكماء غبية، يتعين عليه خوض معركة وخسارة صداقة تعني له الكثير.. وقليل من ذلك الكثير هو حلمه أنه قد يكون هو بدوره يوما صاحب باسات. ويلقي بظلال سخيفة من الشك على إخلاصه؟ سيكون مريحا أن نصدق أن الحافلة هي التي صدمت الحصان وهشمت رأسه.. من سيحاسب الحافلة؟
الحافلة لا يمكن محاسبتها... والباسات خارج نطاق السؤال. والمولدي يدور والحقد يفريه والجبن يقعده، بعد أن تأكد ان حصانه مات ولن ينهض ثانية، باحثا عن فاعل يتهمه بقتل حصانه ويفرغ فيه غلّ حقده، دون أن تنكشف عورة جبنه.
ووجد الفاعل سريعا.. بمعية صديقه الذي لا يعسر عليه أبدا معرفة السبب وإيجاد فاعل.. ذلك الرجل القميء الذي يدور النهار بأكمله بشاحنته الشبيهة بحطام صديء " ايسوزو 37 ".. يجمع نشارة الخشب من النجارين ليبيعها لأصحاب المداجن. ولا فرامل لشاحنته، ذلك القميء عندما يقود شاحنته كانت مهمته العسيرة هي الـتأكد أن الطريق أمامه خالي من البشر على الدوام، فذلك كان السبيل الوحيد ليتجنب دهس أحدهم وقتله. صحيح هو لم يسبق له أن صدم إنسانا، رغم أن حالة شاحنته تؤكد أنها تقريبا تسير دوما بلا فرامل.. لكن لن يعسر عليه، ولا كان سيبالي لو ضرب حصانا، أو نطح كلبا أو أردى قطة.
لم يكن أحد من الحشد الذين تجمعوا حول الحصان الميت يعبأ بميتة كلب أو قطة أو حصان. ما جمعهم كان الإثارة وحسب، تكدسوا أمام المقهى أولا، والمقهى يقدم القهوة ولا يسمح بالجلوس. وهم كانو يبحثون عن أي شيء ليملئوا به الوقت، فوفر موت الحصان بتلك الصورة الدراماتيكية ما يريدونه من إثارة. وبما أن الـتأثر بموت أي من هذه الكائنات لا ينبغي أن يعادل أبدا الـتأثر بموت كائن بشري، وهو ما لم يحدث في الواقعة التي أقصها.. كما أن الموضع الذي سقط فيه الحصان لم يكن مكانا يكثر فيه المرور ويعرقل بقاءه فيه حركة السير. شرع الجمع بالإنفضاض تاركين الحصان ملقى حيث هو، وخيط من الدم يسيل من أنفه وعيناه تخضوضران وتصطبغان بلون طحلبي مخيف
توارى الشاهد الجبان الذي أنكر أي دور للباسات في المأساة. وأشبع المولدي صاحب الشاحنة الإيسيزي 37 ضربا وركلا، مؤكدا أن شاحنته " الايسوزو 37" هي التي قتلت حصانه.. لأنها كانت تسير بلا فرامل. ذلك دليل الإدانة البين. وما ينبغي الشاحنة بلا فرامل إلا أن تضرب أحدهم، وصاحب الشاحنة يصرخ وأسنانه مخضبة بالدم، جراء ما تلقاه من المولدي من لكمات:
- وكيف أوقفتها إذن ؟ إذا كانت بلا فرامل.. عندما رأيت حصانك مرميا على الأرض؟
- يا للمحتال.. صرخ البورجوازي صاحب الباسات.. تقتل الميت وتبكي عليه، مازال معك حساب.
ولم يحتج أحد لكبير ذكاء ليعرف أن الرجل القميء ليس فقط بلا فرامل.. بل يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.
لقد كشفوا ذلك سريعا...
- إنه يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.. صرخ الشاهد محرضا عليه..
ماذا سيربح المولدي؟ وهل التأمين من الحوادث يشمل حادثة قتل حصان أيضا؟
- إذا رفعت به قضية.. قال الرجل لصديقه المولدي، فلن تربح تعويضا.. لكن هو سيسجن ويدفع غرامة.. لقاء امتلاكه شاحنة بلا تأمين...
- الغرامة لي ؟ لحصان جديد؟
- لا.. بل عقابا له لعدم امتلاكه تأمينا.. للإدعاء العام. وذلك لا يعنيك في شيء..
- إذن كل المال سيذهب للحاكم.. صرّ المولدي من تحت أسنانه.
- لا يعنيني في شيء ؟ والحصان مات.
- كيف سأعمل؟
- إنها بفرامل.. أقسم لكم أنها بفرامل.. أعول الرجل صاحب شاحنة نشارة الخشب، والشرطي يجره من قميصه..
ولم يبك أحد على ذلك الرجل، غير المولدي الذي سيجبر عنوة على ذلك البكاء، لمعرفته أن سهمه طاش بعيدا، لكن دون أن تطفر من عينيه دموع..
***
الكاتب : عادل الحامدي
القيروان - تونس