نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: زهوَة...
لم أجد غيرها في الصيدلية، أنثى في العقد الرابع من عمرها، براءة طلعة وفتنة عينين تلمع منهما طيبة لا تخفى،أناقة ملبس،جلباب مغربي يغرف من أصالة عريقة.. كانت وحيدة تمضغ العلك وهي تكتب في دفتر بلغة فرنسية، غمرتني بابتسامة دافئة بعد ان تركت ما في يدها..
ـ مرحبا بي عندكم، ساكن جديد في العمارة المقابلة..
قلتها وانا بجلبابها الأبيض المنقط معجب وكأنه مافصل الا ليثير سحر صاحبته قبل سترها..
ـ مرحبا نورت الحي، ستجدنا دوما في خدمتك، "شنو حب الخاطر "
قدمت لها الوصفة الطبية..
شابة قمحية اللون ترتدي جلبابا أزرق داكنا تنزل من دور ثان في الصيدلية، حاملة بعض علب الأدوية ؛ نظرة خاطفة الي لكنها حذرة، مزيج مشاعر ما تخفيه من قلق واحتراس،لاأدري أيهما صاحبة العيادة وايهما المساعدة؟
اعتذرت السيدة مني والتفتت لتوقيع لائحة أقبل بها عامل توزيع بعدما تسلمت منه حزمة أدوية...
ادركت ان السيدة هي صاحبة الصيدلية..
ـ "إني جارتك " قالتها وبسمة تشرق على محياها كانها تعتذر
ابتسمت قبل أن أرد عليها فمثلي بطلعته وجرس كلامه لا يخفى له انتماء..
ـ أين ؟ في العمارة..
ـ لا في الانتماء..
ـ جرس اللسان يقول: من تازة..
ـ بسمة عريضة تتربع وجهها وتضيف لعينيها الجميلتين لمعانا مثيرا:
ـ نعم الذوق "برافو"
قالتها وابتسامة صدق جعلتني أنشد لعينيها، إثارة سحر وجاذبية مرح..
مسحت الوصفة التي تسلمت مني بقراءة متأنية:
ـ بعض الأدوية تحتاج لانتظار، عد مساء وستجد كل شيء جاهزا حتى ملف التعاضدية سأتكلف بتنسيقه..
عند انسحابي كانت المساعدة تجلس على كرسي تتابع المارة، يداها على خديها، ونظرات عينيها مزيج من ترقب وعدم الثقة، كأنها تقرا أمورا عن ظهر غيب لايراها غيرها..
بعد يومين كانت ابتسام صاحبة الصيدلية داخل سيارتها على وشك الانطلاق من نفس المرأب الذي توجد به سيارتي، رفعت يدي بالتحية، كنت اهم بالركوب حين قالت:
ـ مارأيك لو يشاركني الأستاذ فطوري ؟..
استغربت للدعوة،أن تستدعي أنثى زبونا للفطور معها بعد لقاء واحد بينهما تحد ومجازفة، يخفي بالنسبة لي غرابة خصوصا ودعوتها أتت صريحة وكأنها على علاقة وطيدة بي.
لم تمهلني لارد بل فتحت باب سيارتها من الداخل وقالت:
ـ تفضل بلا اعتراض، "لاتردهاشي في وجهي، دعنا نتعارف "
هل إصرارها تحكم أم أسلوب مرح وخفة دم ؟ ربما لا هذا ولاذاك،ثقة ورغبة في التعارف من أنثى وجدت رجلا يقرب لها بانتماء
ـ المعروضة كتربح..
ضحكنا، وهي تنطلق الى مقهى قريب من مقاهي الحي الراقية..
ـ مدة طويلة لم أحادث أحدا من منطقتي، هل انت جديد بأغادير؟
ـ لا،من عشرين عاما وأنا أسكنها،فقط انتقلت الى هنا لان الموقع احسن، المنطقة سياحية تغري بطبيعتها وجمال هيكلتها والاهتمام الزائد بها والذي غاب عن غيرها من احياء سيطرعليها الحراس هيمنة وابتزازا ولا نظافة، الكل صار سمسارا بلا قانون..هكذا تلوثت الأحياء وماعدنا نعرف مقيما من عابر متعة..
ـ صحيح، يوم فتحت صيدليتي أحسست بغربة قاتلة هنا، حتى أني كثيرا ما فكرت في تغيير المكان،كل ما كان حولي قطع أرضية تعج بأشغال البناء،كنت اظل اليوم كاملا ولا يشرفني زائربإطلالة، اليوم وبعد خمس سنوات كم من حديقة تلفت بنظر، وكم من مطعم ومقهى بمرجعيات عالمية ومتاجر تنوعت معروضاتها،إدارات ومساجد على وشك فتح الأبواب..
وقف النادل، وقد حياها باسمها، معناه وجه معروف لديه..
حين اكتفيت بطلب قهوة قالت:
ـ ألا تريد أن نشترك الطعام؟
ـ أبدا، أنا فطرت، ساتناول قهوة واشاركك قليلا مما تطلبين..
ـ طيب، كل شيء الا الخليع الفاسي، اللذة والبنة والفتاوة..
كانت تأكل بمهل وبين حين وآخر تتطلع الي، تبتسم وكأنها تريد أن تنتزع من وجهي صوراعتمالات ما في دواخلها..
كنت أتابعها بانجذاب فملامحها تحدثني كأنها من ماض عني قد غاب، أو ربما هي من الوجوه التي تفرض عليك ألفتها من نظرة فتحاصرك بانتباه..
كانت تتصرف بعفوية محاولة ان تظهرإحدى مميزات شخصيتها، وقد استطاعت بحق أن تمنحني مشاعر الثقة بها والاطمئنان اليها أن رغبتها في مشاركتها فطورها ماهي الا محاولة بناء تعارف واكتساب صديق قد يهدم وحدة لا تخفى تستعيد به سعادة عنها قد غابت وتلاشت..
رنة من هاتفها لم تفاجئها كأنها متعودة على ذلك أو من الرنة تعرف المتصل، تمسح يدها وتقرأ رسالة على الواتساب، ركبت رقما وقالت:
ـزهوة !.. تسلمي منه الصندوقة وقبل أن توقعي له على الوصل، تأكدي من التواريخ وطابع الشركة المرسلة ومن عدد مافي الصندوقة..
تتابع فطورها ثم تقول:
ـ زهوة مساعدتي، هي ربيبتي، من زوجي المتوفى،خرساء بعد صدمة نفسية تعرضت لها..لكنها تسمع،تقرأ وتكتب، ذكاء بليغ لكن بلا لسان والمذنب من أوجدها، تنازل عنها بلا رحمة قبل ان يغيبه قبرفترتاح منه دنيا..
سألتها بعد أن أنهت فطورها:
ـ هل زوجك مات في حادثة؟
تنهدت وبسمتها لم تغادر عينيها:
ـ لا انتحر أو تم قتله، لا ادري..
ـ أعوذ بالله !!..
ـ الموت والحياة كانا لديه سيان لايخاف ولا يخشى، أناني،عشقه أن يلغي كل ما حوله، لايفكر الا في نفسه ومتعه الجسدية، تمركزه حول ذاته طغيان كان يستحوذ عليه بسلبية لاتزين له الا نفسه وافعاله مهما كانت ضد الدين والعادات والتقاليد، بصراحة كان لا يؤمن الا بنفسه وهو ما ولد لدي كراهيته بعد حب متسرع مني هروبا من زواج الأقارب خصوصا اذا كانت الغاية استغلالا وانتهازية..
صمت وأنا أتذكر أحدى كلمات دوستويفسكي:
"ما هو الجحيم؟ أنا أصرّ على أنّه المعاناة من عدم القدرة على الحبّ!"
تنهيدة حارة منها واستغراق في تفكير مني:
"كيف تسقط أنثى بجمالها في رجل على شاكلة ما وصفت ؟"
ـ بدأ حياته مع أبيه كتاجر في السينغال،تزوج من أخت زوجة ابيه طفلة في الخامسة عشرة من عمرها،وجدها حاملا يوم دخل بها، فرض عليه ابوه أن يتكتم ويستر عليها الى أن تلد ثم يطلقها اذا شاء لتعترف له وهي في شهرها التاسع ليلة وضعها ان الحمل كان من أبيه..
تركها كزوجة المنحوس وعاد الى المغرب فتزوجني بعد زوجتين قبلي، ما أن حملت الأولى حتى تركها ثم تزوج الثانية بعد سنتين فطلقها..
حين خطبني لم أكن أعرف سوابقه استغل يتمي وقدرته على توليف الحكايا، إلا على ماضيه فهو عنه كتوم، براعته طلاقة في تزييف الحقائق..
غاب عني أن كثرة كلام الرجل من سقوط لسانه وثرثرته وسيلة لتحقيق رغبة خفية يعوضها بالكلام، وبصراحة فقد تأخرت في فهمه بعد أن أغواني بمظهره الانيق وذوقه المزيف وبهما كان يغطي على أنانيته وقليل من شح؛ انتمائي لاسرة ميسورة ومهنتي ماتركتا لي حاجة لأطمع في ما كان يدعي ملكيته ؛ حاول أن يغريني بشراكة معه غير أني كنت حذرة، إثر ما بدا يشيع عنه ولم ابلغه الا بعد أحداث تواترت..
بعد خمس سنوات من زواجنا أتاني ابوه ليكلمني عن زهوة ابنة زوجي:
"عليه أن يقبل بها عنده بعد أن ماتت خالتها في حادثة سير،ولم يعد لي كجد من يسهر عليها"..
زوجي كان مسافرا ما أن عاد ووجد زهوة بالبيت حتى ارعد وأزبد:
ـ أليست بنته ومن صلبه وهو من تسبب في حمل أمها، كان عليه ان يتحمل مسؤوليتها، ألم أترك له الجمل بما حمل ؟..
تفاجأت بما أسمع وعلي نزل ما تعرى كصاعقة هدت كياني فأبو زوجي قد استطاع أن يتلاعب بمشاعري مستغلا عدم خلفتي،فقبلت السهر على البنت، زوجي وأبوه كلاهما من طينة واحدة: نذالة وخسة وأنانية..
زهوة وجدت خالتها في سرير جدها،ارعبها الجد حين هددها بالقتل وقد اوشك على ذبحها إن تكلمت فانخرست لما رأت السكين في يده، لهذا بادر بها الى المغرب لابعادها خوفا من فضيحة هناك..
بعد سنتين وجد زوجي منتحرا في شقة كان يملكها بعيدا عن علمي،هذا ما توصل اليه رجال المباحث وان كان أحد الجيران قد قدم شهادة أخرى ربما قد تكون من قتلته أنثى محجبة لم يتم اكتشاف من هي ؟..
كنت أتابعها بأمعان وانتباه وهي تحكي، تجاهد النفس على أن تعاند دموعها، كل ما فيها لا يعكس غير طيبة وحبا في التعرف على الغير والأنس بصداقة تملأ بها فراغا يأكل من حياتها ، طيبتها هي ما جعلها تثق برجل أعجبت بطلعته وأناقته دون كثير بحث أو تمحيص عن صدقه وكذبه،أو ربما لم تستطع تقييم الدوافع والمشاعر التي حجبت عنها حقيقته الا بعد أن ارتبطت به بدليل انها أهملته والا لاكتشفت بيتا غير بيتها يقيم فيه علاقاته الماجنة والتي هي أصلا موروثة من أب اليه قد سلم انثى بها قد عبث وحمل مسؤوليتها لابنه،اقرب الناس اليه..
أليس من طيبتها حفاظها على زهوة وقبولها العيش معها بعد موت زوجها وكما قالت:
"لم أجد بدا من القبول بها،اين أرميها وما في الشارع غيرذئاب الردى؟..
ردت على رنات أتت من هاتفها، اعتذرت مني ثم انصرفت بعد أن ودعتني بتحية ثقة أحسستها من يدها على كتفي..
ـ قهوتك ستجدها يوميا لدي في الصيدلية، غني لا تغب !!..
لقد فضلتُ البقاء في المقهى ثم العودة راجلا لمزيد من اكتشاف الحي وما يزخر به من مرافق ومتاجروما يشق فيه من حدائق وطرق وأندية رياضية للأطفال..
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب