شهادات ومذكرات
عبد السلام فاروق: هيكل في ذكراه
مبكراً جداً بدأ محمد حسنين هيكل مشواره فى الصحافة المصرية منذ أوائل الأربعينيات، أى أنه قضى ما يزيد على سبعين عاماً فى معترك الصحافة السياسية العسير..
منذ البداية وهو يطأ حقول ألغام غير عابئ بخطورة ما يعلم أنه سيتعرض له من أعباء مع كل خطوة يخطوها يميناً أو يساراً. ورغم طول الفترة التى قضاها فى الصحافة قلما وجدت له أعداء فى مجال الصحافة. بل حتى الذين كتبوا يهجونه من كبار المفكرين احترموه وأفادوا من علاقتهم به..
ربما كانت تلك أكبر مزاياه، شبكة العلاقات الهائلة التى كونها من كبار الشخصيات فى الداخل والخارج، تلك العلاقات التى جعلته قادراً على الوصول إلى أدق المعلومات قبل أى وسيلة إعلام معروفة. حتى بات كأنه سوبر كمبيوتر يمشى على الأرض.
فى شهر فبراير توفى هيكل عن عمر ناهز التسعين، وترك إرثاً ضخماً من مؤلفاته ولقاءاته ورؤاه وأفكاره، بل وترك من أبناء مدرسته الصحفية عدداً كبيراً من قادة الرأى ورجال الإعلام والصحافة ساروا على نهجه أو على الأقل حاولوا..
زمن هيكل.. وزمننا!
زمن الفن الجميل والأدب الرفيع والصحافة الناصعة ذلك الزمن الذى نترحم عليه اليوم..
أعلام الصحافة ورواد الإعلام والأدب والفكر عاشوا خلال تلك الفترة الخصبة من تاريخ أمتنا المصرية والعربية فتناولوا هيكل وتناولهم فى الكتب وعلى صفحات جريدة الأهرام التى رأس تحريرها لمدة 17 عاما.. أول كتاب صدر له قبل أن يكمل الثلاثين من عمره كان بعنوان (إيران فوق بركان) بعد رحلة استغرقت شهراً تحت ظل حكم الشاه رضا بهلوى فيما عرف بالدولة البهلوية فكأنها نبوءة مبكرة عن انهيار الدولة البهلوية الذى جاء بعد هذا الكتاب بنحو عشرين عاما. لم ينقطع عن إصدار المؤلفات منذ ذلك الحين ولعل من أهم إصدارات فترة الخمسينيات كتاب عبد الناصر (فلسفة الثورة) الذى حرره له هيكل وعلى إثره بات هو الصحفي الملازم له دوما. وقبيل نهاية تلك الحقبة التاريخية المهمة أصدر كتابا شهيراً بعنوان (العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط). وكانت أكثر كتبه من هذا النوع التحليلي الناقد.
وبرغم الخلاف الفكرى بينه وبين كثير من معاصريه إلا أنه ترفع عن القدح فى أى زميل له من زملاء المهنة لهذا كانت خلافاته معهم تنتهى بسرعة وبلا ضغائن. حتى خلافاته مع السادات استطاع هضمها والاحتفاظ بمكانته كواحد من رواد الصحافة فى مصر والعالم العربي.
فارق مهم وحيوي جعل الصحافة فى زمن هيكل مختلفة عن الصحافة اليوم. هذا الفارق لا يمس الشخصيات ولا الأفكار ولا الأحداث، وإنما روح العمل اليوم وأمس.. العمل اليوم صار روتينياً شكلياً خالٍ من العمق والالتحام بالواقع. أحداث اليوم ملتهبة أكثر من أمس، والصحافة تجرى فوق هذه الأحداث فتمسها مسا ولا تتغلغل فى أعماق الأحداث وما وراءها. لهذا غابت الوظيفة الاستشرافية والتحليلية فى صحافة اليوم رغم كل ما يحيطها من إمكانيات وتكنولوجيا. فهل نترحم على هيكل أم على الصحافة ؟
شاهد على عصور
بدأ هيكل حياته الصحافية عام 1942 فى عهد الملك فاروق وشهد فترة تألقه الأولى فى الخمسينيات فى أعقاب ثورة 52 وعمل وزيراً للإرشاد القومى وللإعلام وضمت له وزارة الخارجية لمدة أسبوعين ورفض الوزارة فى عهد السادات ، ثم شهد النكسة وانتصار أكتوبر ولم ينسجم مع السادات رغم أنه أراده مستشارا له وأصدر قراراً بنقله من الأهرام لقصر عابدين، فرفض هيكل تنفيذ القرار وقال : " إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي"!
وبالفعل أصدر عدداً كبيراً من الكتب منذ ذلك الحين بعضها بالإنجليزية، كما ترجمت بعض كتبه إلى عدة لغات حول العالم. وفى أواخر حياته اتجهت إليه الأنظار كقارئ للأحداث له بصيرة خاصة اكتسبها من طول ممارسته للصحافة السياسية محلياً وعالمياً، وظل محتفظاً بمصادره المتعددة التى تأتى له بالأخبار الطازجة أولاً بأول رغم تركه لمنصبه الرسمى لكن مكانته لم تهتز أبداً على مر الأجيال.
الغريب أنك إذا عدت لكتاباته أو لقاءاته تكتشف أنك أمام رؤية استثنائية وقراءة شديدة العمق والثراء تنسحب حتى على أحداث اليوم كأن لآرائه حياة متجددة.وكيف لا؟ وقد شهد على سبعة عصور تقلبت فيها المنطقة بين أحداث ساخنة كأنها ترقص فوق صفيح ملتهب.
نحو صحافة عالمية
أنشأ هيكل مجموعة المراكز المتخصصة للأهرام لعل أهمها: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ، مركز الدراسات الصحفية ، مركز توثيق تاريخ مصر المعاصر. وترك بصمة لا تُنسي فى تاريخ مؤسسة الأهرام العريقة.
كان واضحاً أن طموح هيكل الصحفى ليس له مدى. إذ بدا أنه أراد لصحافتنا أن تبلغ مستوى عالمى كما تستحق، لهذا امتدت صداقاته إلى عدد من رؤساء كبريات الصحف العالمية فى أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وقد التقى عدة مرات مع عدد منهم ففى الثمانينيات التقى رئيس مجلس إدارة رويترز داني هاملتون ورئيس تحرير الإكونومست آندرو نايت وهارولد إيفانز رئيس تحرير التايمز، وفى التسعينيات اجتمع مع بيير سالينجر رئيس شبكة ABC الحالى والمتحدث الأسبق باسم جون كينيدى.
لم يكن كافياً أن يبحث هيكل وحده مع قلة من قادة الصحف القدامَى عن عالمية الصحافة المصرية، كما لم يكن من السهل أن تتطور منظومة الصحافة فى ظل عيوب ومشكلات عميقة قديمة لعله ناقش بعضها فى كتاب قديم أصدره فى أوائل الستينيات بعنوان: نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على ضوء ما يسمونه "أزمة المثقفين". ثمة عراقيل كثيرة يمكن اجتيازها وعبورها لكن يبدو أننا توقفنا عن مجرد المحاولة!
ماذا لو أنه بيننا اليوم؟
أحداث تاريخية هائلة مرت على هيكل وتحدث عنها فى وقتها، واستشرف أحداثاً تأتى..
والحق أن وسائل الإعلام العربية منذ الألفية الجديدة وجدت ضالتها فى هيكل أمام متوالية الأحداث الساخنة إقليمياً وعالمياً لا تكاد الصحف والقنوات الإخبارية تلاحقها وهى تلهث خلفها فلا تتاح الفرصة لالتقاط الأنفاس لرؤية خفايا الأمور وقراءة ما بين السطور بنظرة بانورامية ثاقبة. فكان هيكل يقوم بهذا الدور. وحتى فى أواخر عمره التسعيني كانت تنتابه الحماسة وهو يتكلم باندفاع وقوة كأنك أمام شاب ثلاثينى عبقرى وكأن خارطة الأحداث قديماً وحديثاً منبسطة أمامه على اتساعها..
نعم نحتاج اليوم وكل يوم إلى مثل هذه العبقرية الملمة بالأحداث القادرة على استشراف ما يأتى على ضوء الحقائق التى تشابكت وتكاثفت واختلطت وجمعت بين تناقضات عدة، حتى لا تكاد تجد شخصاً له رؤية تحليلية عميقة واعية إلا نادراً.
الصحافة المصرية دائماً بها نبهاء ونابغين عدة يمكنهم حقاً ضبط الدفة الصحفية والإعلامية بل والاتجاه بها نحو العالمية لكن لابد أولاً أن نمتلك الإرادة لفعل ذلك. فإذا سعينا نحو هذا الهدف المشروع والمستحق فلن نلبث أن نحققه وأن نكتشف بيننا وحولنا ألف هيكل ينهضون بالصحافة المصرية إلى المكانة التى تستحقها.
***
محمد حسنين هيكل