أقلام حرة
أكرم عثمان: القيادة التي تُلهم.. لا التي توجه فقط
في زمن تتسارع فيه الضغوط والمتاعب وتتضاعف متطلبات الأداء، تبرز القيادة الملهمة كقيمة نادرة تصنع الفرق بين مؤسسة تعيش في دائرة الروتين وأخرى تنبض بالحيوية والإبداع. فالقائد الحقيقي لا يقاس بعدد القرارات التي يتخذها، بل بعدد الطاقات التي يوقظها في فريقه ويحولها إلى خبرات وتجارب ملهمة تحدث فرقاً وتأثيراً ذا نفع وقيمة.
كل موظف يحمل داخله بذرة من القدرات الخلاقة والإبداع، لكنها تحتاج إلى بيئة تشجعه لا تخيفه، وإلى قائد يشعره بالأمان والراحة لا بالرقابة والتقييد. القائد بحجم منظمته وقدرتها على النجاح والمنافسة هو من يصنع الأداء المتميز والجودة في الإنتاجية، ويحول العمل إلى رسالة ذات معنى وانتماء.
في إحدى المؤسسات الناشئة في مجال التكنولوجيا، قرر المدير التنفيذي إلغاء أسلوب المتابعة اليومية الصارمة واستبداله بلقاء أسبوعي مفتوح يتيح للفريق الحديث بحرية عن التحديات والاقتراحات. النتيجة كانت مذهلة؛ إذ ارتفعت إنتاجية الفريق بنسبة 40% خلال ثلاثة أشهر فقط، وانخفض معدل الغياب إلى أدنى مستوياته. لم يكن السر في نظام رقابة جديد، بل في شعور الموظفين بأن صوتهم مسموع وأن قائدهم يثق بقدرتهم على الإنجاز، وأن لديهم مساحة من الحرية في العمل دون قيد أو تحكم دائم.
وفي تجربة أخرى، طبقت إحدى المؤسسات المصرفية برنامج « القائد الراعي » الذي يلتزم فيه المديرون بقضاء ساعة أسبوعياً مع كل موظف في جلسة فردية تركز على التفريغ والدعم النفسي والمهني. وبعد ستة أشهر فقط، تحسن مؤشر الرضا الوظيفي بنسبة 30%، وارتفعت مستويات الولاء المؤسسي بشكل لافت. تؤكد هذه الممارسات أن الإلهام قبل الإدارة، وأن الثقة قبل التوجيه، وأن الموظفين إذا وجدوا بيئة مريحة ومنسجمة خالية من الضغوط، فإنهم يعطون ويبدعون بصدق وشغف.
تشير دراسات شركة Google (2015) حول بيئات العمل الإبداعية إلى أن الأمان النفسي (Psychological Safety) هو العامل الأكثر تأثيراً في أداء الفرق عالية الإنتاجية. الموظف الذي يشعر أنه يستطيع طرح أفكاره دون خوف من السخرية أو العقاب، يصبح أكثر انفتاحاً وابتكاراً. القائد الملهم يدرك هذه المعادلة جيداً، فهو لا يوزع المهام فقط، بل يبني الثقة ويحول الأخطاء إلى فرص للتعلم والنمو، كما فعل ساتيا ناديلا المدير التنفيذي لشركة Microsoft حين غير ثقافة الشركة من “ نحن نعرف كل شيء” إلى “ نحن نتعلم كل يوم”، فكانت النتيجة تحولاً جذرياً أعادها إلى قمة الإبداع والابتكار.
الإلهام لا يكتمل دون توازن نفسي ومادي. فحين يشعر الموظف بالاستقرار في معيشته، والاحترام في مكان عمله، ينتمي للمؤسسة بشفافيةٍ وصدق. وقد أظهرت مبادرات بسيطة مثل “ساعة الرفاه الأسبوعية” أو “يوم بلا بريد إلكتروني” في مؤسسات أوروبية وأمريكية نتائج لافتة في رفع المعنويات وكسر روتين الإرهاق. القائد الذكي يدرك أن الراتب وحده لا يكفي، كما أن الكلمات التحفيزية وحدها لا تقنع، فالمزج بينهما هو ما يصنع الفروق ويُطلق الطاقة والشغف والانضباط والالتزام.
القائد الملهم يترك أثراً قبل أن يترك أمراً، يحرك دوافع موظفيه الداخلية لا خوفهم من العقاب، ويذكرهم بـ"لماذا" قبل أن يملي عليهم "كيف". القيادة ليست موقعاً سلطوياً بل رسالة تأثير إنساني وأخلاقي، تقوم على الإلهام لا الإملاء، وعلى الثقة لا السيطرة. حين يرى الموظف في قائده نموذجًا للطمأنينة والاحترام، يتبعه بقلبه قبل عقله، ويُعطي أكثر مما يُطلب منه.
إن القائد الذي يصنع الطمأنينة النفسية والمادية، يصنع معها الإبداع والولاء والتميز المستدام، لأن القيادة في جوهرها فن إنساني قبل أن تكون علماً إدارياً. فالقوة الحقيقية لا تأتي من المنصب أو السلطة، بل من الاحترام الذي يبنيه القائد في قلوب فريقه، ومن القدوة التي يقدمها في كل تصرف وموقف، ومن إيمانه العميق بأن أعظم إنجازاته ليست المشاريع التي ينجزها أو ينجح في تنفيذها، بل الأشخاص الذين نهضوا لأنه آمن بهم. ووثق فيهم واستثمر طاقاتهم بطريقة مفيدة وسليمة.
***
بقلم: د. أكرم عثمان
23-10-2025
.....................
المراجع
1. Edmondson, A. (1999). Psychological Safety and Learning Behavior in Work Teams. Administrative Science Quarterly, 44(2), 350–383.
2. Google Inc. (2015). Project Aristotle: Understanding Team Effectiveness. Internal Report, re-published summary via re:Work (https://rework.withgoogle.com/).
3. Nadella, S. (2017). Hit Refresh: The Quest to Rediscover Microsoft’s Soul and Imagine a Better Future for Everyone. HarperCollins.
4. Goleman, D. (2018). Leadership That Gets Results. Harvard Business Review Press.
5. Sinek, S. (2009). Start with Why: How Great Leaders Inspire Everyone to Take Action. Penguin Books.
6. Kouzes, J. M., & Posner, B. Z. (2017). The Leadership Challenge: How to Make Extraordinary Things Happen in Organizations. Wiley.







