أقلام حرة

أكرم عثمان: الطباع بين النبل والسقوط.. انعكاس العقل على السلوك

الطباع ليست نزوة عابرة أو هوى يقود الإنسان في عشوائية اللحظة وفوضوية الموقف، بل هي انعكاس لفكر مترسخ في العقل وفهم عميق ينقاد إليه المرء في تصرفاته وسلوكه. فمنها ما يرفع صاحبه ويمنحه الإجلال، كاشفاً عن نبل طبعه ورقي خلقه، ومنها ما يضعه في مواضع لا تليق به، فيظهر مظهراً دخيلاً يندم المرء على ما أفرزته أفكاره السلبية من أفعال وانفعالات.

في مجالات العمل قد يظهر الطبع كعامل حاسم قد يبني مسيرة الإنسان بصورة متميزة كمسؤول أو موظف أو حتى شخص عادي، وقد يقوده في المقابل إلى طباع تتسم بالحدة والصلابة السلبية، فتفرز مشكلات وخصومات تؤدي في النهاية إلى ضعف الشخصية وهدم ما بني من علاقات وتواصل مع الآخرين. فالقائد أو الموظف المبدع الذي يواجه نقداً قاسياً من زميل له، يمكن أن يختار الانفعال الذي يجرح كرامته ويهز صورته فيفقد فكرته بريقها، ويجعل الآخرين يشكون في نضجه وتوازنه، أو يمكنه أن يبتسم بهدوء ويقول: "ربما لم أعرض فكرتي بوضوح، دعني أشرح الأمر أكثر حتى تتضح الصورة"، فيكسب تقدير الحضور واحترامهم، ويمنح فكرته فرصة أكبر للقبول والاستحسان.

المدير كذلك، قد يواجه استفزازاً من موظف في اجتماع علني، فإما أن يختار التوتر والانفعال لإثبات سلطته بالصوت العالي حتى يسكت منافسيه ومعارضيه، فيخسر صورته الذهنية أمام فريقه ومشاهديه، أو أن يرد بعقلانية فيحول الموقف المحرج إلى درس في القيادة وضبط النفس وحكمة الممارسة. وفي بيئات العمل يكون الفارق بين قائد ملهم ومدير متسلط هو الطباع الثابتة التي تحكم ردود الفعل في لحظات الضغط والتوتر؛ فإما حضور وهيبة وكاريزما، أو مواقف مهتزة وقرارات اندفاعية.

وما يصدق على العمل ينسحب أيضاً على الأسرة. فالأبوان لا يقيمان فقط بما يقدمانه من مال أو رعاية، بل بما يعكسانه من تربية وصقل للطباع المؤثرة والإيجابية في المواقف الحساسة التي تحتاج إلى ضبط وسعة خلق وتهذيب سلوك. الأم التي تستقبل خطأ ابنها بنبرة هادئة تقول له إنها حزينة لأنه خذل ثقتها وصورتها المشرقة عنه، تغرس في داخله شعوراً بالثقة ونبل التصور، وتزرع فيه عمق المسؤولية والندم الإيجابي الذي يقوده نحو التغيير. في المقابل، الأب الذي ينفجر غضباً ويهين ابنه أمام الآخرين يزرع جرحاً غائراً في نفوس لم تنضج بعد، وقد يبقى الموقف شاهداً حاضراً لسنوات طويلة، لا يزول ألمه حتى لو اعتقد الأب أنه يربيه بالحزم والقوة ليشبّ رجلاً يتحمل مسؤولياته.

وفي العلاقات الاجتماعية تتجلى الطباع بأبسط الصور وأعمقها أثراً. كم من صديق كشف عن نبل طبيعته حين وقف في صف صديقه في مجلس عام، فبقي الموقف شاهداً على إخلاص ووفاء لا ينسى. وكم من إنسان خسر مكانته بكلمة عابرة لم يزنها أو يتعقل أبعادها، فهدمت جسور ثقة بنيت في سنوات طويلة. الطبع هنا ليس مجرد رد فعل، بل اختيار يكشف عن حقيقة الإنسان في اللحظة التي يختبره فيها الآخرون.

أما في ميادين التعليم، فإن المعلم يختبر طباعه يومياً أمام عشرات العيون التي تترصده. الطالب الذي يخطئ أو يتجاوز الحدود قد يكون فرصة للمعلم كي يثبت أنه قدوة في الصبر والحكمة والانضباط، أو قد يتجاهل الموقف فيبقى أثره محدوداً دون دروس تذكر، أو قد يكشف عن طبع انفعالي يفقده مكانته مهما بلغ من العلم والخبرة. حين يواجه المعلم الإساءة بقول رصين يمنح الطالب فرصة لتصحيح كلامه وتعديل سلوكه، فإنه لا يعلمه درساً في الأدب فحسب، بل يزرع فيه قناعة بأن الطبع الحسن أقوى من أي عقاب، وأن الحكمة في الرد أبلغ من أي زجر مؤلم. وفي المقابل، فإن فقدان الأعصاب في موقف واحد قد يهدم سنوات من بناء الثقة والاحترام.

وهكذا نرى أن الطبع ليس أمراً ثانوياً أو مجرد سمة شخصية، بل هو مرآة العقل والقيم المتجذرة في النفوس. ففي العمل قد يصنع الفارق بين موظف عادي وقائد ملهم، وفي الأسرة قد يكون الحد الفاصل بين جيل واثق بنفسه وآخر مثقل بالجراح، وفي العلاقات الاجتماعية قد يرسّخ الصداقات أو يطيح بها، وفي التعليم قد يرفع المعلم إلى مقام القدوة أو يجرده من مكانته.

الطبع في النهاية ليس ما نظهره عند الرضا، بل ما يكشف عنا عند الغضب والاختلاف وتباين الآراء. فمن ملك زمام طبعه ملك صورته أمام نفسه وأمام الآخرين، وحصل على الإجلال الذي لا يمنحه منصب ولا مال، بل تمنحه سجية أصيلة وخلق رفيع.

***

بقلم: د. أكرم عثمان

30-9-2025

في المثقف اليوم