أقلام فكرية
إبراهيم الجميلي: السلطة بين المشروعية والانحراف

تأملات فلسفية في إشكالية استغلال النفوذ
منذ ظهور الفلسفة السياسية في الفكر الإنساني، شكّلت مسألة السلطة وشرعيتها وأخلاقياتها حجر الزاوية في تنظير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والفرد والدولة، والإنسان والمؤسسة. وبينما تُعدّ السلطة ضرورية لتنظيم الحياة الجماعية، فإنها سرعان ما تتحول إلى أداة للإكراه والهيمنة عندما تتحرر من قيودها العقلانية والأخلاقية. إنها، في جوهرها تجربة مزدوجة: فهي تحمل في طياتها وعدًا بالنظام، لكنها تُخفي خطر الاستبداد.
وقد تبادر في أذهاننا عدة تساؤلات فلسفية وهي: ما الذي يُسبب انحراف السلطة عن مسارها الطبيعي؟ لماذا يميل البشر، بمجرد توليهم السلطة، إلى استغلالها؟ كيف فسّر الفلاسفة هذه المعضلة؟ ما الآليات التي اقترحوها للسيطرة على السلطة ومنع انحرافها؟
اقترح أفلاطون، في "الجمهورية"، نموذج "الملك الفيلسوف"، مُجادلًا بأن من يمتلك الحكمة وحدهم مؤهلون لتولي السلطة. ومع ذلك، لم يُغفل أفلاطون إدراك خطورة السلطة عندما تُمنح لمن لا يستحقها. كان يعتقد أن الانحراف السياسي يبدأ عندما تترسخ "ديمقراطية منحطّة"، أي عندما تثور الجماهير بلا حكمة وتسلم السلطة لطغاة متخفّين في زيّ الشعبويين. يقول: "الديمقراطية تُولّد الاستبداد كما تلد الأم أبناءها" (الجمهورية، الكتاب الثامن).
يعتقد أن الجهل والشهوة هما أساس كل انحراف استبدادي. فالسلطة ليست قيمة بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدالة. فإذا أصبحت غاية، سقطت في هاوية الاستغلال.
واصل أرسطو هذا النهج الفكري، ولكن بتصنيف واقعي ودقيق لأنظمة الحكم، بين ما هو شرعي (الملكية، الأرستقراطية، الجمهورية) وما هو فاسد (الطغيان، الأوليغارشية، الغوغائية). يقول: "الحاكم العادل لا يحكم لمصلحته الخاصة، بل لمصلحة المدينة" (السياسة، الكتاب الثالث). وهكذا، فإن السلطة التي تتحول إلى سلطة فردية بلا فضيلة تُصبح استغلالًا منظمًا للشعب، أي تركيزًا للمصلحة وتحويلًا للعامة إلى أدوات.
في لحظة انهيار أخلاقي سياسي، يُقدم لنا نيكولو مكيافيلي رؤية صادمة للواقعية السياسية. في كتابه "الأمير"، لم يعد السؤال: كيف نحكم بعدل؟ بل: كيف نحكم بنجاح؟ بالنسبة له، السلطة ليست أداة أخلاقية، بل غريزة للبقاء والاكتساب. وقد فسّر ذلك بقوله: "من الأفضل أن نخاف الحاكم من أن نحبه، إذا لم يستطع الجمع بينهما". مهّد هذا القول التأسيسي لمنطق "الغاية تبرر الوسيلة" الطريق لفكرة أن استغلال النفوذ، طالما أنه يضمن استقرار الحكومة، ليس أمرًا مستهجنًا بطبيعته. وقد أصبح هذا النمط من التفكير السياسي مرجعًا غير معلن للعديد من الأنظمة الاستبدادية الحديثة.
من ناحية أخرى، قدّم توماس هوبز رؤيةً متشائمة للطبيعة البشرية، حيث تُحرّك الغريزة والتملك والصراع البشر. برر هذا وجود السلطة المطلقة، مُخوّلاً الدولة ("الليفياثان") السيطرة على الفوضى، حتى لو لزم الأمر بالقوة. لكنه يقول: "إذا مُنحت السلطة دون نقاش، فإنها تتحول من حماية إلى عبودية" (ليفياثان).
مع ذلك، يختلف جون لوك عنه اختلافًا جوهريًا، إذ يعتقد أن السلطة تنبع من إرادة الشعب، وتُمنح بشرط استخدامها لخدمة الحياة والحرية والملكية. وإذا استُغلت ضد هذه الأهداف، يحق للمواطنين عزل الحاكم. "ليس المحكومون من يخرق العقد، بل الطاغية" (مقالان في الحكومة المدنية).
هنا نجد جان جاك روسو أكثر تطرفًا في نقده للسلطة المنحرفة. فوفقًا له، لا تقبل السيادة التمثيل. فكل من يحكم باسم الشعب دون مشاركته المباشرة يُزيّف الإرادة العامة. وهكذا، فإن إساءة استخدام النفوذ لا تكمن في الأفعال فحسب، بل في بنية السلطة ذاتها التي تجرد المواطن من الشرعية.
وهكذا نرى حل مونتسكيو الهيكلي للمشكلة: فصل السلطات. فعندما تتركز السلطة في يد واحدة، فإنها تُغري بالاستغلال. أما عندما تُقسم، فإن أحد أجزاء الدولة يراقب الآخر. يقول: "لكي لا تُساء استخدام السلطة، فإن السلطة مُلزمة بسلطة أخرى" (روح القوانين، الكتاب الحادي عشر). وبذلك، يُوفر الإطار المؤسسي لتجنب الاستغلال، وليس مجرد دعوة أخلاقية.
أما ميشيل فوكو، فنراه يرفض النظرة إلى السلطة على أنها شيء يُمتلك أو يُغتصب. فهو بالنسبة له "شبكة خفية" موزعة داخل المجتمع، في المؤسسات والتعليم واللغة وحتى الطب. لذلك، يعتقد أن استغلال النفوذ لا يحدث فقط من الأعلى إلى الأسفل، بل أيضًا من خلال تطبيع السلوك وتشكيل الأجساد والعقول وفقًا لنماذج التحكم. يقول: "نحمل السلطة في أجسادنا، كما يحمل السجين سجنه في داخله" (الانضباط والعقاب). ووفقًا لرأيه، لا تُمارس السلطة بالقمع فحسب، بل أيضًا من خلال المعرفة والمراقبة والتصنيف.
وقد حذّر غوستاف لوبون من قابلية الجماهير النفسية للاستغلال من قِبل القادة المتلاعبين، حيث تذوب الإرادة الفردية في اللاوعي الجماعي. تُمهّد هذه الفكرة الطريق لفهم كيفية صعود الطغاة من خلال أدوات التأثير العاطفي. "الجماهير لا تفكر، بل تشعر" (سيكولوجية الجماهير)
أما حنة أرندت، فقد حللّت تجربة السلطة الشمولية، حيث يتحول الاستغلال إلى بنية شاملة تقمع حرية الفكر. وجادلت بأن الشر، في ظل الأنظمة الاستبدادية، لا يأتي من الساديين، بل من الناس "العاديين" الذين أفرغهم النظام من إنسانيتهم. وجادلت قائلةً: "الشر ليس دائمًا شيطانيًا؛ أحيانًا يكون مجرد ابتذال بيروقراطي" (ابتذال الشر).
في الختام، نجد أن إساءة استخدام السلطة، من منظور فلسفي، لا تنشأ فقط من خلل في الفرد، بل أيضًا من خلل في البنية والثقافة، ومن نقص الوعي والمساءلة. وقد حاول الفلاسفة، كلٌّ من منظوره الخاص، الحد من السلطة إما من خلال الأخلاق (أفلاطون، أرسطو)، أو العقد الاجتماعي (لوك، روسو)، أو المؤسسات (مونتسكيو)، أو من خلال كشف خطابها الخفي (فوكو). تكشف كل هذه التأملات أن السلطة ليست مجرد أداة، بل هي تجربة وجودية وأخلاقية تتطلب سيطرة ذاتية ومؤسسية وجماعية مستمرة. إذا لم تُروَّض هذه الطاقة، فإنها تبتلع كل شيء، حتى الفرد نفسه.
***
الدكتور إبراهيم أحمد شعير الجميلي/ كركوك - العراق