أقلام فكرية
عدنان عويّد: الحقيقة ومستويات الحقيقة
الحقيقة لغة: جاء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي: حَقيقيّ: (اسم) - اسم منسوب إلى حقيقة - واقعيّ وموجود بالفعل. أي أمْرٌ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ، صَحِيحٌ وصادق، خلاف خياليّ. ويقال هذا قول حقيقيّ: مطابق للحقّ –حقيقيّ: خالصٌ.
والحقيقة مجازاَ: (حقيقة الشيء خالصه وكنهه ومحضه. وحقيقة الأمر يقين شأنه، أي «ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه». وهي أخيراً الحرمة أو ما يلزم حفظه ومنعه.). (1) وفي المجاز نقول أيضاً في توصيفنا لرجل جيد بأنه: ذهب صاف. وعن شيء حقيقي بأنه واضح كالشمس... الخ. وللحقيقة أنواع في الشكل والمضمون:
ففي الشكل: نقول حقيقة اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة وفنيّة وأدبيّة وعلميّة ودينيّة... وغير ذلك.
وفي المضمون نقول: الحقية الفلسفيّة، والحقيقة الصوريّة والحقيقة الماديّة، والحقيقة الواقعيّة، والحقيقة الأبديّة أو السرمديّة والحقيقة المطلقة الكمال، والحقيقة النسبيّة، والحقيقة الموضوعيّة.
والحقيقة الماديّة تعني: اتفاق العقل مع الشيء الواقعي ماديّاً كان أو نفسيّاً، كالحقيقة الفيزيائيّة والحقيقة النفسيّة، وهي ما تتناوله العلوم التجريبيّة.
والحقيقة الواقعيّة أو الموضوعيّة: كأن يقال: إن للعالم الخارجي حقيقة واقعيّة، أي وجوداً مستقلاً عن وجود المدرك. أو بتعبير آخر: هي المعرفة الإنسانيّة التي لا يتوقف محتواها على إرادة الذات ورغبتها، بل تتحدد الحقيقة بمحتوى الشيء المنعكس ليحدد موضوعيتها.
والحقيقة الدينيّة: وهي مرادفة للحقيقة المطلقة في (الدين). وتعني المبادئ أو القوانين المطلقة الكمال والثبات، المحيطة بجميع الموجودات، والتي تفيض عن العقل الإلهي، وتنعكس على العقل الإنساني، فتقربه من الله، وهي حقائق لا تقبل التفنيد. أي هي حقيقيّة، وتعني المعرفة الكاملة والشاملة بالواقع التي لا يمكن دحضها مستقبلاً. أي هي غير قابلة للتعديل أو النفي او المراجعة. (2).
أما الحقيقة الفلسفيّة وهي الأهم هنا برأيي، وهي الحقيقة الأكثر أهميّة بالنسبة للباحث أو الدارس، كونها تشكل جانباً معرفيّا ومنهجيّاً معا، وقد تم تناولها تاريخيّاً من وجهتي نظر ماديّة ومثاليّة. وإذا كانت وجهة النظر الماديّة تقر بأسبقيّة الواقع على الفكر، وبالتالي فالحقيقة هنا ماديّة وواقعيّة ونسبيّة معاً. فماديتها تتجسد في كون الأشياء الماديّة هي أساس المعرفة البشريّة، أو هي من يشكل الفكر البشري، عبر سيرورة الظواهر وصيرورتها، حيث تنعكس الأشياء دائماً في وعي الإنسان عبر حواسه، ويتم التأكد منها عبر الاستقراء والاستنتاج والبرهان القائم على التجربة. فواقعيتها بتعبير آخر تؤكدها الأشياء ذاتها أو الظواهر الموجودة في الواقع والمستقلة عن عقل وإرادة الإنسان. أما نسبيتها، فتعني الحقيقة العلميّة، التي لا تعطي معرفة كاملة بالموضوعات التي تدرسها، لأن معرفتها مشروطة في كل مرحلة من مراحل تطورها بالمستوى الذي أنجزه العلم والتكنولوجيا، فتتغير بتغير فروضها ومفاهيمها وبراهينها في سبيل بلوغ أكبر قدر من الدقة والكمال. أي إن الحقيقة الماديّة تقوم دائماً على معرفة ناقصة.
أما الحقيقة الفلسفيّة في بعدها أو نسقها المثالي، فتاتي هنا صوريّة: وهي اتفاق العقل مع نفسه بلا تناقض، وهذا موضوع المنطق الصوري. ويتفق الجميع على أن مؤسس المنطق كعلم استنتاجي هو أرسطو. أما التعريف الكلاسيكي للمنطق الصوري فهو العلم الذي يبحث في صحيح الفكر وفاسده، وسبل التمييز بينهما، ومن ناحية أخرى يعرف على أنه مجموعة من القوانين التي تعصم الذهن البشري من الزلل، (وعرف أرسطو المنطق على أنه آلة العلم، وموضوعه الحقيقي. وبذلك يعني أرسطو أن المنطق صورة العلم والمعرفة وسبيل العقل في تحصيل المعارف، وبذلك، كان المنطق الأرسطي مدخلًا لدراسة كافة العلوم، ويلاحظ أن أصل اشتقاق كلمة منطق في اليونانية يرجع إلى كلمة "Logos"، واللوغوس تدل على العقل، وممارسة التفكير العقلاني)(3). وبناء على اعتبار العقل القائم على المعرفة الحسيّة هو من يحكم على الحقيقة، لذلك يمكننا القول: بأن كل الفلسفة المثاليّة الميتافيزيقيّة تعتبر امتداداً لهذا المنطق الصوري بهذا الشكل أو ذاك أثناء اشتغالها على اكتساب المعرفة أو للوصول إلى الحقيقة...للتذكر هنا بأن المنطق الصوري يقوم كثيراً على البدهيات والمسلمات التي يكتشفها الإنسان في حياته اليومية، وليس على التحليل والتركيب والتجربة والموقف الجدلي بين أجزاء الظاهرة وشكلها ومضمونها وداخلها وخارجها وما يصيبها من تحولات كميّة ونوعيّة، وآلية التناقضات القائمة فيها التي تؤدي إلى حركتها وتبدلها.. وغير ذلك من وسائل وأساليب معرفيّة ومنهجيّة تؤدي بالضرورة إلى البرهان.
على العموم نستطيع القول انطلاقا من المنهج العلمي العقلاني النقدي الجدلي، بأن الحقيقة بكل أشكالها ومضامينها، تتجسد دائما عن طريق وساطة الإنسان في تفكير وعمل لا ينفصمان عن الذكاء والإرادة والفعل، وبالتالي التجاوز، وبناءً على هذا الموقف، فإنها تتطلب أدوات عدّة هي:
1- المستوى اللغوي السيميائي / الدلالي من أجل الإحاطة بالمعنى.
2- المستوى التاريخي: من أجل تحديد المنشأ التاريخي للظاهرة موضوع البحث أو الدراسة.
3- المستوى السوسيولوجي: لمعرفة الحقيقة كانعكاس للحاجات والتناقضات والصراعات والآمال الراهنة للجماعة والفرد في مرحلة تاريخيّة محددة، وبالتالي عبر مراحل التاريخ، وهذا ما يدفعا إلى:
4- المستوى الأنثربولوجي: بهدف التعرف على سلوكيات الإنسان وتراثه على مختلف العصور والأزمان، وذلك من خلال التعرف على تفاعلات الإنسان اليوميّة داخل المجتمع مع اختلاف الزمان، وذلك قد يفرض على الباحث ضرورة المعايشة في داخل الجماعات البشرية ومحاولة التأقلم معها.
5- المستوى الفلسفي: للفلسفة ثلاث وظائف أساسيّة هي: تفسير الواقع ، وتغييره، واستشراف المستقبل.
1- فتفسير الواقع مهمَّةٌ تتضمَّن إيجاد تفسيرات للأسئلة الأساسيّة المطروحة حول الواقع، ومن ذلك كيف ينظَّم، وكيف نشأ، وما غايته.
2- وتغيير المجتمع ويتم من خلال تحديد المشكلات المجتمعيّة الماديّة منها والفكريّة والعمل على حلِّها.
3- واستشراف المستقبل أي معرفة الأسس التي تقوم عليها حركة التاريخ، والمستقبل محطة من سيرورة التاريخ وصيرورته. وبالتالي من خلال معرفة هذه الأسس يمكن أن نعمل من أجل الوصول إلى مستقبل أفضل.
وعلينا أن نؤكد هنا مسألة أساسيّة وهي، أن الفلسفة تظل مرتبطة في توجهاتها الثلاث المبينة أعلاه، من خلال حواملها الاجتماعيّة ودرجة مصالحهم وفاعليتهم في الواقع الذي ينشطون أو يتواجدون فيه.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة.
...............................
المراجع:
1- (موقع معرفة – حقيقة.).
2- (موقع معرفة – حقيقة.). المرجع نفسه.
3- (موقع موضوع – تعريف المنطق الصوري).