أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: الاستراتيجيات الرواقية في التحكّم بالعواطف؟
عندما نكون في قبضة العواطف، كالغضب مثلا، فلا شيء يمكننا عمله للخروج من ذلك، نحن سنخضع لها، وكل ما يمكن فعله هو الانتظار لحين مرور الموجة. الفلاسفة الرواقيون في اليونان والرومان القديمة عرفوا هذا جيدا، في مقالته الرائعة عن الغضب، يصف سينيكا الغضب كجنون مؤقت: " فيه يفقد المرء التحكم بالذات، لا اعتبار الى اللياقة، نسيان العلاقات، إصرار منهمك للبدء في العمل، لا استماع لصوت العقل والنصيحة، الاندفاع بأسباب تافهة ودون مهارة في تصوّر ما هو حقيقي وعادل، كصخرة ساقطة تحطّم ذاتها الى قطع متناثرة فوق الشيء الذي ترتطم به".
وفي النظر الى المدى الذي تكون فيه العواطف مدمرة حسب الرواقيون، كان للرواقيين سمعة جيدة في محاولة كبحها. سينيكا الذي ولد سنة 4 ق.م كان فيلسوفا رواقيا رومانيا أشرف على تدريس الامبراطور نيرو. تأثير سينيكا على نيرو أخذ يضعف بمرور الزمن وفي عام 65.م اُجبر سينيكا على الانتحار بدعوى التأمر على اغتيال الامبراطور وهي تهمة زائفة لم تثبت. رواقية وموت سينيكا الهادئ كانا موضوعا لعدد هائل من اللوحات الفنية.
وعلى الرغم من ان الفلسفة تنصحنا ان نكبح مشاعرنا بطريقة – عض على أسنانك ولا تبيّن شعورك عند الغضب – لكن الرؤية الرواقية تبدو مختلفة بشكل هام. نصائح الرواقية ليست ان تكبح مشاعرك وانما ببساطة لا تجعلها الهدف الاول، هذه قد تبدو نصائح غريبة. نحن كبشر: كيف لا نمتلك مشاعرا؟
كيف عرّف الرواقيون العواطف؟
الشيء المهم هو معرفة كيف عرّف الرواقيون المشاعر. جميعنا يمارس ما يصفه سينيكا بـ "الحركات الاولى" في رد الفعل لأحداث معينة. نحن قد نشعر بالصدمة او الإثارة او الابتهاج او الخوف. كل هذه هي ردود أفعال سايكولوجية طبيعية تحدث لنا وليس لدينا السيطرة عليها. من المهم معرفة ان، هذه ليست عواطف بالنسبة للرواقية: انها ردود افعال اولية، "حركات اولى".
العواطف هي ما يحدث عندما نسمح – من خلال الحكم السيء – لهذه الحركات الاولى بالهروب منا. هناك ثلاث مراحل في انتاج العواطف:
1- الحركة الاولى
2- الحكم
3- العاطفة
نحن لا سيطرة لدينا على المرحلة الاولى. وعندما نصل الى المرحلة الثالثة، سوف لن تكون لنا سيطرة عليها ايضا. المرحلة الحاسمة هي المرحلة الثانية: مرحلة الحكم. نحن نستعمل قدرتنا على الحكم اما لوقف الحركة الاولى عن مسيرها، او لنسمح لردود افعالنا الاولية بتجميع زخمها لتصبح عواطف مدمرة خارجة عن السيطرة. فمثلا، عندما يكون رد فعلنا الاولي عند الصدمة والخوف من رؤية عنكبوت مثلا، هو اننا قد نحكم انه من الطبيعي ان نقفز خوفا، هو في الحقيقة مجرد عنكبوت صغير لا يمكن ان يسبب لنا أذى، يمكن ان نحضر كوبا لإحتجازه وإطلاقه للخارج – نأخذ نفسا عميقا لتهدئة انفسنا – بهذا نكون نجحنا في إبطاء افراز هرمون الادرينالين في أجسامنا، وأوقفنا "الحركة الاولى" في مسارها.
لو نحكم بان الخوف مبرر – انه عنكبوت وانا اخشى العنكبوت ماذا سافعل انا في خطر " – عندئذ ستستجمع "الحركة الاولى" زخمها - حكمنا السيء يدفع استجابتنا الفسيلوجية لتتكثف – لتصبح شعورا كاملا من الخوف، ولا شيء نستطيع عمله سوى الانتظار حتى مرور العاطفة، في تلك الاثناء نتصرف بلا عقلانية وخارج عن السيطرة .
لذا، فان نصيحة الرواقيين هي ليس اننا يجب ان نتجنب "الحركة الاولى" لأن هذا مستحيل. النصيحة هي اننا نبدأ باستعمال حكمنا لتجنب السماح لمثل هذه الحركات لتصبح عواطف مدمرة. الشعور بالخوف، العصبية، الإزعاج، هذا جزء مما يعنيه ان تكون انسانا. الفكرة هي اننا نستعمل حكمنا للقبول بهذه المشاعر الطبيعية والدوافع، ومن ثم نشير بلطف لأنفسنا باننا لا يجب ان نسمح لها بتشويه رؤيتنا للعالم، او تدير افكارنا او تحكم تصرفاتنا (في الحقيقة ان منْ يحكم أفعالنا يجب ان تكون هي فقط الفضائل الرواقية الاربع: الحكمة، الشجاعة، العدالة، الإعتدال).
من الجيد ان ننزعج باشياء الآن او في المستقبل، انه شيء طبيعي تماما. انه يصبح مشكلة عندما نسمح للازعاجات بتجميع زخمها الى غضب لا يمكن السيطرة عليه. هذا ما تعنيه سيادتنا على عواطفنا بالنسبة للرواقيين: لا نكبح او نتجاهل مشاعرنا، لكن استعمال حكمنا بحكمة سيضيف رؤية ويمنعنا من فقدان السيطرة.
الشيء المهم، هو ان الاحتفاظ بالسيطرة ليس فقط لنجعل أنفسنا أفضل، بل هو لكي نستطيع التحرك الى الامام بشكل بنّاء، ولكي نعمل الشيء الصحيح. وكما يكتب سينيكا: "العواطف، لا تتمثل في التأثر بمظاهر الأشياء، وانما في الاستسلام لها واتّباع المشاعر العرضية. لو ان كل شخص يفترض ان التحول الى اللون الشاحب، او انفجار الدموع، او الإثارة الجنسية، والنظرات العميقة للعيون، هي علامة لمشاعر وحالة ذهنية، هو خاطئ ولا يفهم ان هذه هي مجرد استجابات جسمية .. الانسان يعتقد بنفسه مجروح ويريد الانتقام، وعندئذ – كونه أقنع بعدم القيام بذلك لسبب ما – هو بسرعة سيهدأ مرة اخرى. هذا لا يُسمى غضب، وانما هو دافع ذهني خاضع للعقل. الغضب هو ما يتخطى العقل ويحمله بعيدا".
تطبيق الاتجاه الرواقي في الحياة اليومية
بالطبع، كان الرواقيون يكتبون في زمن سبق البحث الجيد والفهم لحالات فسيولوجية مثل القلق المزمن، لذا فن نصائحهم – إستعمل حكمك لإعطاء رؤية لموقفك – قد لا تكون كافية في جميع الحالات، ولا تستبدل العلاجات المهنية. مع ذلك، استذكار دروس الرواقية لايزال ذو فائدة واقعية: عبر محاولة عمل أحكام اكثر وضوحا حول مواقفنا، سنستطيع حماية انفسنا من العواطف المدمرة ونخلق مساحة للتحرك قدما ضمن الفضيلة.
فمثلا، لو ان شخصا ما يسبب لنا الإهانة. في تلك اللحظة، نحن ربما نحكم بان هذا عمل مخز لذلك الشخص، ولذا فان "اول حركة" لنا هي ان نصبح بسرعة غاضبين. الخطأ هنا، كما يشير الرواقي ابكتيتوس، هو الاعتقاد باننا وبسبب تلقّي الاهانة سنكون مجروحين اوتوماتيكيا: "تذكّر، لا يكفي ان نُصاب بالضرر فقط بسبب الضرب او الإهانة، نحن يجب ان نؤمن باننا تعرضنا للضرر. لو ان احدا ما نجح في تحريضنا، ندرك ان ذهننا متواطئ في الاستفزاز".
نحن نُجرح فقط عندما نقرر اننا كنا كذلك. وكما يوضح الفيلسوف المعاصر جون سيلر في كتابه القصير والمهم (دروس في الرواقية): "لو ان شخصا ما يقول شيئا ناقدا حولك، قف لترى ما قاله صحيح ام زائف. اذا كان صحيحا، عندئذ هو اشار الى عيب فيك تستطيع انت الآن علاجه. وبهذا سينفعك. واذا كان قوله زائفا، فهو على خطأ وهو وحده منْ يتضرر. وبكل الاحوال انت لن تتأثر من ملاحظاته النقدية".
الدرس هنا هو اننا يجب ان لا نسمح لردود أفعالنا العفوية كي ترشد سلوكنا. اذا قمنا بهذا، فهو ليس فقط حكما سيئا وانما هو نقص كلي للحكم، نحن نسير مباشرة من "الحركة الاولى" الى العواطف بدون تطبيق أي استعمال مهدئ للعقل . لذلك نحن يجب ان نضمن ان نأخذ وقتا للتوقف والتفكير قبل القفز الى الفعل. يجب ان نقبل بمشاعرنا كما تبرز، نفكر جيدا، نجلب الفضيلة للذهن ومن ثم نتصرف.
سينيكا يوضح ذلك جيدا عندما يقول "أعظم علاج للغضب هو التأجيل"، و : "اذا كنت تريد ان تقرر طبيعة أي شيء، فوّضه للزمن. عندما يكون البحر عاصفا انت لا ترى أي شيء بوضوح".
لذا: توقّف وتذكّر هذا الخط من التفكير لأشهر فيلسوف رواقي وهو ماركوس اورليوس: "انت يجب ان لا تعطي الظروف القدرة على اثارة الغضب،فهي لا تهتم بذلك ابدا".
ماذا لو لم نستطع ايقاف عواطفنا؟
ماذا لو ان الانتظار لا يخفف من قوة مشاعرنا؟ ماذا عن حالات الإساءة الظالمة والغير عادلة لمحب؟ ماذا يجب ان نعمل عندما تستبد قوة مشاعرنا و مهما كانت درجة الاتزان في أحكامنا التي نحاول تطبيقها عليها فننزلق نحو عواطف خارجة عن السيطرة؟
التكتيك الرواقي هنا – اذا كنا غير قادرين على عقلنة غضب الحركة الاولى – هو استعمال حكمنا لإعادة توجيه قوة مشاعرنا الى شيء بنّاء. لذا، في حالة وجود شخص محبوب يعاني من ظلم، استجمع "حركتك الاولى" للعاطفة تحت شعار لا غضب وانما عدالة. دع شعورك يُقاد بالفضيلة وليس بالسوء الغير مسيطر عليه. وبهذه الطريقة، يصبح من غير المحتمل ان تتمكن المشاعر التدميرية السلبية من ازعاجنا، لاننا نعمل وفق غاية بنّاءة في الذهن. لنكافح لأداء الشيء الصحيح بهدوء وباسم العدالة بدلا من خسارة أنفسنا لغضب مدمر.
باختصار: الرواقية تهدف لمساعدتنا في التعامل مع العواطف المدمرة عبر استذكار الدرس الأساسي في تقسيم السيطرة: نركز على ما يمكننا السيطرة عليه. نحن لا نستطيع السيطرة على ردود أفعالنا الاولية للمواقف، وانما نحن نستطيع السيطرة على حكمنا في مثل هذه "الحركات الاولى". عبر تدريب أنفسنا على التوقف، والتفكير والحكم البنّاء،سوف نستطيع – بالممارسة – منع الحركات الاولى من تجميع أي زخم، وهكذا نحرر أنفسنا من المشاعر السلبية الخارجة عن السيطرة التي يمكنها تخريب حياتنا.
كيف يمكن للرواقية التعامل مع العواطف الايجابية؟
ماذا عن العواطف الايجابية مثل الحب؟ هل يعتقد الرواقيون اننا يجب ان نعقلن ونخفف من تلك العواطف ايضا؟ الجواب هو ان الرواقية تهتم بالعواطف التي لها إمكانية إفساد هدوء حياتنا. الغيرة، طغيان الحب، مثلا، له امكانية تدمير الحياة ويجب التعامل معه مثل أي عاطفة سلبية اخرى، لكن الحب العاطفي المرتكز على حاجتنا الطبيعية للصحبة هو صحي تماما – نحن فقط يجب ان نكون واعين بعدم وجود توقعات غير واقعية او عقائد زائفة لدينا حول الحب يمكنها تحطيمنا في المستقبل. فمثلا، لو اعتقدنا زيفا ان الحب بيننا وبين الاب او شريك او أطفالنا سوف يستمر الى الابد، عندئذ – في ضوء حقيقة اننا جميعا فانون –سنكون امام مفاجئة سيئة. لهذا نحن يجب ان لا نكبح او نحبط "الحركات الاولى"، وانما يجب ان نكون حذرين بان لا نسمح لها تتطور الى آمال زائفة او عقائد حول ما يمكن ان يحمله المستقبل.
***
حاتم حميد محسن