أقلام فكرية
ماركس / انجلز والأيديولوجيا الألمانية
أثرت أعمال هيجل على كل ركن من أركان الحياة الفكرية، في ألمانيا أولاً وخارجها ثانيا. قام بعض الفلاسفة، والأكاديميين، والنقاد في امتداح الفلسفة الجديدة التي أطلقها هيجل لكن أنتقدها بعضهم. يبرز هنا لودفيج فيورباخ (1804-1872) الذي بدا مثل هيجل، كطالب في علم اللاهوت، ثم تحول تحت تأثير وجهات النظر الهيجلية، إلى دراسة الفلسفة. لقد كان في البداية من أتباع هيجل، لكنه تحول إلى أحد منتقديه بعد ذلك. كانت شكواه أن هيجل، على الرغم من أنه يبدو ماديًا (وبالتالي كمفكر ملحد وفي هذا ما يوجب الاتفاق معه) اللا أنه كان في الواقع مدفوعًا بالدين. عبر فيورباخ عن موقفه الفلسفي المادي من خلال تأليف مصنف معادٍ للأديان، وكان من نتائج هذا فقدانه لوظيفته رغم أن الكتاب نُشر بدون الكشف عن هوية المؤلف.
درس كارل ماركس (1818-1883) القانون في بون ثم الفلسفة والتاريخ في برلين. حصل على الدكتوراه في جينا عام 1841 على أساس أطروحته عن أبيقور (342-271 قبل الميلاد) وديموقريطس (460 قبل الميلاد). وقد عرّف نفسه في وقت مبكر من تعليمه على أنه يمثل الجناح اليساري لما كان يعرف باسم "الشباب الهيجليين". لقد جعل إلحاده العلني عمله الأكاديمي في بروسيا مستحيلًا، فبعد فترة قصيرة من عمله كمحرر لمجلة اقتصادية، ذهب إلى المنفى، الذي لم يعد منه أبدًا، إلى بروكسل، باريس، ثم لندن. كانت منشوراته الأولى الجديرة بالملاحظة هي ما يعرف باسم المخطوطات الاقتصادية والفيزيولوجية لعام 1844.[1] سرعان ما بدأت شراكته مع فريدريش أنجلز (1820-95) التي استمرت مدى الحياة، فتعاونا على اصدار كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" في عام 1845 (التي يبدو أنها لم يُنشر إلا بعد عشرين عامًا لإنقاذه من "قضم الفئران"، كما جاء في المقدمة،).
تبدأ الـ "أطروحات حول فيورباخ" في افتتاح الأيديولوجيا الألمانية بنمطً من الرفض القاسي والساخر أزاء الهيجليين الشباب، وهو أسلوب سوف يستمر في كتابات الماركسيين التي تنتقد مَنْ يعارض كتاباتهم منذُ عام 1845 حتى الوقت الحاضر. وتمشيا مع الاهتمام الحديث بالعملي مقابل النظري، يتحول هدف الفلسفة مع ماركس وأنجلز من الرغبة في الفهم وأن تكون مفهوما، إما من قبل القلة أو من قبل الكثيرين، إلى الرغبة في النجاح كفاعل سياسي. فتنحل الفلسفة وتعاود الظهور كسياسة. إن أبرز مثال على الجدل الفلسفي السياسي هو لينين (1870-1924)، الأب المؤسس لثورة عام 1917 التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي، والذي كتب في كتابه "الدولة والثورة" (1917): إن جدلًا ساخرًا وشديد القسوة يكاد يكون لذيذًا. لقد عامل كارل كاو تسكي، وهو اشتراكي غير ماركسي، بمثل هذه السخرية القاسية في الفصل السادس من ذلك الكتاب القصير الذي يمكن قراءته مرارًا وتكرارًا بتسلية متزايدة.
ينقد ماركس وأنجلز، في الصفحة الأولى بعد مقدمة الأيديولوجيا الألمانية، هيجل فيما يتعلق بموقفه المُعبر عنه في مصطلح “الروح العامة". لقد تم رفض الحجة الهيجلية بوصفها تعبر عن "تعفن الروح المطلقة".[2] وبعبارة أخرى، أنهم يرون أن ما توصل إليه هيجل فيما يسميه، روح العالم، كان مفهوم قابل للتلف، وكان من المحتم أن يتعفن هذا المفهوم، وهذا ما حدث بالفعل لـ هذا المفهوم الهيجلي مع بعض أتباعه. أما المفهوم الآخر الذين تناوله وعلينا هنا فحصه وهو مفهوم "الأيديولوجيا". ويُقصدون به ما نسميه "الثقافة". فالأيديولوجيا بالنسبة لهم هي مثل تصور هيجل لـ “روح العصر". أي أنه ما يرمز الى التصور الأخلاقي والفكري للثقافة. لقد كان يقصد ماركس وأنجلز في استخدمهما هذا المصطلح في الأيديولوجية الألمانية، شيئًا يضع هذا المفهوم في ضوء جديد تمامًا بالنسبة لنا. فتعني "الأيديولوجيا" بالنسبة لماركس وأنجلز، شيئًا مثل "المثالية".
عندما يشبه ماركس وأنجلز الإيديولوجيا بالمثالية، أو يعاملان المفهومين على أنهما قابلان للتبادل، فهذا ليس ثناء منهما ولكن يقصدون أن الأيديولوجية تقوم على " المُثل" الأفكار. بدا أفلاطون أحمق بالنسبة لهم، فقد كانوا يعتبرون المُثل كما تصورها أفلاطون عبارة عن مجرد تخيلات. إنها مثل كل فلسفة، ومثل الدين والشعر تعبير عن أوهام العقل غير المتجذر في الواقع الملموس، وهذا هو المكان الذي أخطأ فيه هيجل وأتباعه. فقد رأى ماركس وأنجلز:
لم يتخلى النقد الألماني، عن عالم الفلسفة أبدًا. فقد انبثقت، وبعيدًا عن المقدمات الفلسفية العامة، بنيًة تحقيقاته من تربة نظام فلسفي محدد ألا وهو نظام هيجل. مما أدى الى أن يلف الغموض ليس فقط إجابات النقاد الألمان ولكن تساؤلاتهم ايضًا.[3]
أيا كان ما يمكن قوله عن آراء ماركس، فإن الحديث عن فلسفة هيجل على أنها " غامضة " أمر حقيقي. يصف ماركس الفلسفة نفسها في هذا السياق بأنها خاطئة، ويجب على النقاد " للكتابة بطريقة منطقية، التخلي عن الفلسفة". إذا كان مكيافيلي هو الفيلسوف الأول الذي يضع الفلسفة في خدمة السياسة، فإن ماركس كان أول فيلسوف ينكر الشرعية أو حتى إمكانية الفلسفة.
قال هيجل أن التاريخ حل محل الفلسفة، ودفن ماركس جثة الفلسفة ودفنها بطريقة غير لائقة، فقد رأى أنه توجد بالفعل أفكار، لكنها ليست، كما فهمها أفلاطون، كيانات تعيش بذاتها في عالم منفصل عن عالم المادة القابلة للتلف والفساد.
يتداخل إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي بشكل مباشر مع النشاط المادي والعلاقات المادية التي هي لغة الحياة الواقعية. يظهر التصور، والتفكير، والعلاقات الفكرية او الروحية بين البشر، كتدفق مباشر لسلوكهم المادي. ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج العقلي كما هو مطبق على السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقيا. إن البشر هم المنتجون لمفاهيمهم وأفكارهم لأنهم مشروطون بتطور محدد لقواهم الإنتاجية، والعلاقات المقابلة لها، حتى في أقصى أشكالها. لا يمكن أن يكون الوعي أي شيء آخر أبدًا غير الوجود الواعي، ووجود البشر هو طريقة أو عملية حياتهم الفعلية ".[4]
إن ما أطلق عليه أفلاطون "المُثل" يسميها هيجل geistes، (الوعي بروح العصر)، ويفسر سير التاريخي على أنه ديالكتيك ذاك روح العصر. كان لروح العصر جوهره الخاص بالنسبة لهيجل، كما فهم أفلاطون المُثل، لكن هيجل أعطى تطورًا حديثًا لهذا الفهم اذ يرى: أن ارسطو أعتبر أن أفضل نظام سياسي عملي في معظم الحالات هو نوع من "النظام المختلط" والذي هو مزيجًا من الأوليغارشية والديمقراطية، وكلاهما من الأنظمة الناقصة بذاتها، لذا قد يُثرى هذا الخليط بمزيج من الأرستقراطية في بعض الحالات. وهذا هو أفضل شكل من النظام ولكن يصعب قيامه في حد ذاته. عدل هوبز تعاليم أرسطو في القرن السابع عشر، فجعل المشاعر بدلاً من العقل أساس كل شيء. أيً النظر إلى الحكم من ناحية الرغبة والحماس. إنً هذه الرغبة عند هوبز هي أساس العقيدة السياسية الحديثة التي تسمى في الاقتصاد "اليد الخفية". إنه، كما يسميه شتراوس، أول سياسي رغبوي؛ يجعل من الأنانية وصراعاتها مؤلفًا للصالح العام. لا يوجد خير مشترك على هذا النحو، فالخير العام هو ببساطة النتيجة الرياضية لسلسلة صراعات الرغبات الخاصة. يتابع هيجل مسار هوبز من خلال رؤية ديالكتيكية لروح العصر بوصفه صراع تاريخي. يحتفظ ماركس بالجدلية والعملية التاريخية والصراع، لكنه يرفض الجانب غير المادي– المثالي لهيجل، " ويبدو أنه يساوي بين هيجل وتاريخ الفلسفة بأكمله أيضًا. إنه يحتفظ بالعملية التاريخية الهيجلية، والجدلية الهيجلية، والصراع الهيجلي، ويجمعها مع صيغة معينة من المادية. لقد رأى ماركس وأنجلز في "الأيديولوجيا الألمانية":
إذا قلب البشر ظروفهم، في كل ايديولوجيا، رأسًا على عقب كما هو الحال في كاميرا التصوير، تنشأ حقيقة سير حياتهم التاريخية تمامًا مثل انعكاس الأشياء على شبكية العين هي من حياتهم المادية.
في تناقض مباشر مع الأيديولوجية الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض، نصعد هنا من الأرض إلى السماء. أي أننا لا ننطلق مما يقوله البشر ولا مما يتخيلونه أو يتصورونه من أجل الوصول إلى ما هو متجسد فعليًا؛ ولكن ننطلق من بشر موجودين حقيقيين ونشطين فعليًا، وعلى أساس سيرتهم الحياتية الواقعية، فنظهر الانعكاسات الأيديولوجية وأصداء هذه العملية الحياتية في الأخلاق والدين والميتافيزيقيا وكل ما يقابلها من أشكال للوعي.[5]
تنظر كل أيديولوجيا، أي المثالية، أي الفلسفة كلها، بشكل مقلوب الى الواقع، حيث تنظر اليه بوصفه نتاج ثانوي للفكر. إن الحالة الحقيقية للأشياء هي أن الفكر مبني على السير المادي للتاريخ. إنها تعبر عما أطلق عليه الماركسيون فيما بعد "المادية الديالكتيكية". (لم يستخدم ماركس هذا المصطلح أبدًا، لكن استخدام من قبل أتباعه). لقد فهم هيجل والهيجليون، مثل كل الفلاسفة من قبلهم، كل شيء خاطئًا لأنهم بدلاً من الوقوف على أقدامهم على أرض صلبة يقفون على رؤوسهم على سحابة. وكما وصف ماركس وأنجلز في كتابات أخرى، بما في ذلك البيان الشيوعي (1848)، الفلسفة هي بنية فوقية تتراكم فوق الظروف المادية في ذلك الوقت التي أُنتجت هي فيه. "عندما يتم وصف الواقع، تفقد الفلسفة باعتبارها فرعًا مستقلاً من النشاط وسيط وجودها... فإذا نظرنا إلى هذه الأفكار التجريدية بصرف النظر عن التاريخ الحقيقي، فليس لها في حد ذاتها أي قيمة على الإطلاق".[6]
هناك، بالطبع، الكثير مما يمكن قوله عن ماركس وأنجلز والمعرفة الماركسية الصاخبة ككل، لكن يكفي للأغراض المحدودة لهذا المقال تلخيصها بالقول إن ماركس يواصل النزعة التاريخية التي بدأها روسو وطورها هيجل. لقد فعل ذلك بقبوله الجزء الأكبر من هيجل، واستبعاد ما يسميه "صوفية" هيجل، ووضع صيغته الخاصة من المادية مكانها بحيث يؤدي الديالكتيك التاريخي إلى نهاية التاريخ ليس كدولة هيجل البروتستانتية الألمانية، ولكن كعالم جديد ورائع للشيوعية المطلقة.
***
الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ
.....................
[1] حول فيورباخ وماركس أنظر:
Feuerbach and Marx can be found in The Encyclopedia of Philosophy, 8 vols., New York, 1967, Macmillan (Feuerbach in vol. 3; Marx in vol. 5).
وأنا مدين لهذه المقالة في هذا التفصيل.
[2] Marx and Engels, The German Ideology, R Pascal, ed., New York, 1947, International Publishers, p. 3.
[3] Marx and Engels, The German Ideology, p.4.
[4] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.
[5] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.
[6] Marx and Engels, The German Ideology, p.15.