أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: سياسات الحرية.. الحرية وتدخّل الدولة

خلق العالم المعاصر شعورا متزايدا بالعجز. العولمة التي وُصفت يوما ما كوعد بمستقبل زاهر هي الان سبب للاضطراب الاقتصادي وخضوع السياسة المتزايد للاقتصاد . الديمقراطية حول العالم هي في ازمة، وان عدد المواطنين الذين يشعرون بالحرمان يتزايد باستمرار، يحكمون على النظام السياسي الذي يعيشون في ظله اما فاسدا او هو غير قادر على معالجة الأشكال الجديدة للعنف والتفكك الاجتماعي والكساد الاقتصادي والتحديات الاخرى.

المعلقون عادة يلقون باللوم في هذا الموقف على مجموعة من الايديولوجيات والنزعات بما فيها الميديا الالكترونية وتكنلوجيات التحول العالمي والليبرالية الجديدة. هنا نرى ان ويلات الناس المعاصرة على الاقل جزئيا تعود الى السعي المشروع والمفهوم للحرية والذي لسوء الحظ وكما كان متوقعا جاء بنتائج عكسية تماما.

وجهان للحداثة

لعدة قرون اتسم التاريخ الاوربي بالحروب الطويلة والدموية حول الدين والسلطة، وهذه الحروب اصطبغت بالوحشية والكراهية. بعد ذلك، بدأ مشروع الحداثة بتأسيس ارتباط  بين تجربة الفرد والمؤسسات الحديثة. المؤسسون الفلسفيون للعالم الحديث بدأوا عملهم بنظريات عن المشاعر الانسانية. هذا اتضح تماما في لفياثان لتوماس هوبز (1651) ونظرية العواطف الاخلاقية لآدم سمث عام 1759. الهدف من الدولة بالنسبة لهوبز او الهدف من السوق بالنسبة لآدم سمث هو بناء نظام اجتماعي عقلاني يقوم على فهم علمي للطبيعة الداخلية للكائن البشري.

ونفس الشيء، بناء الدولة القومية الحديثة كان منذ البداية متشابكا مع مشروع التعليم. هذا يتضح عندما ينظر المرء لتاريخ التعليم بعد الثورة الفرنسية. الثورة أعقبتها مباشرة مشاريع لتحوّل التعليم اما من جانب الثوريين او من معارضيهم. في كلتا الحالتين، الهدف كان الفوز بعقول الشباب اما في الثورة او الارتداد المعاكس . هذا يتجسد خصيصا في الكتاب الهام جدا لـ جوهان جوتليب فيشتي Johann Gottlieb Fichte (مذهب الدولة،1813). فيشتي فيلسوفا مثاليا كان لميتافيزيقاه تأثيرا كبيرا على الفلسفة الالمانية اللاحقة، بينما نظريته في الدولة كان لها تأثيرا قويا على الحركة الاشتراكية. وكما اعتُبر مؤسسا للقومية الحديثة، هو كان ايضا صديقا ليوهان بيستالوزي Johan Pestalozzi  الاصلاحي التعليمي السويسري. يصر فيتشي في (مذهب الدولة) على ان بناء الدولة القومية يجب ان يبدأ بالتعليم. الأفراد يجب ان يتعلموا، ويُجبرون عند الضرورة لإعتناق الجديد من الحرية القومية. وكما تبيّن من الثورة الفرنسية، حسب قوله، الافراد يمكن استعبادهم بالتقاليد واللاعقلانية، وحتى يقاتلون من اجل الملك ضد حريتهم. لذلك، فان القمع المناسب والتعليم هما اول خطوة لبناء دولة قومية ليبرالية. هذا الإكراه يمكن ازالته فقط عندما يتعلم الناس كيف يصبحوا مواطنين يرغبون بحل صراعاتهم واختلافاتهم عقلانيا، فقط من خلال مؤسسات قانونية. بكلمة اخرى، مشروع الحداثة وتحوّلاتها يمكن فهمه فقط بالنظر بشكل متزامن الى التحولات الذاتية من خلال التعليم، والتغييرات المماثلة التي تحدث في رؤية الدولة.

صدمة الحرب العالمية الاولى

من توماس هوبز فصاعدا، حتى القرن التاسع عشر، زادت الحداثة تركيزها بشكل متصاعد على تعظيم حرية الفرد. سنترك انتقادات الاشتراكيين والفوضويين، بدلا من ذلك سنركز على التحولات العميقة التي أعقبت الحرب العالمية الاولى.

 فهمنا لتأثيرات ذلك الصراع، سيكون حاسما لفهم انهيار الحداثة من الداخل. الصدمة السايكولوجية التي تجسدت لاولئك الافراد تجسدت تماما في سلسلة من الروائع الادبية في السنوات اللاحقة، على سبيل المثال، رحلة لويس فرديناند سيلين ثم (نهاية الليل،1932) او مذكرات (عالم الامس) للكاتب النمساوي ستيفان زفايج Stefan Zweig، 1942. وما هو اكثر أهمية لنا،هو عام 1918 الذي شكّل بداية رحلة التحول في كل من الدولة ومُثل التعليم. التحولات في النظام التعليمي كانت مثيرة للاهتمام. منذ القرن التاسع عشر وحتى عام 1918، كان نقاد أنظمة المدارس التقليدية مثل اوغستين فرينيت او بيستالوزي يدعون الى تطبيق "طرق فعالة" يجب ان يوضع فيها الطالب في المركز ويصبح مشاركا فعالا في عملية التعليم. لكن الصراع العالمي تخلّى عن مثل هذا التأثير لدرجة ان الداعين الى اصلاح التعليم لم يعودوا مقتنعين بمثل هذه الأهداف المتواضعة. بدلا من ذلك، هم بدأوا بتنظيم أنفسهم في مختلف المنظمات الدولية للدعوة الى خلق فرد جديد من خلال طرق تعليمية جديدة.

أحد أهم هذه المؤسسات الشهيرة كانت جمعية التعليم الجديد The new education fellowship(1). معظم الاسماء البارزة في الاتجاهات التربوية كانت  منها، مثلا، ماريا مونتيسوري و اوغستين فرينيت. أحد الاصلاحيين في ذلك الوقت وهو هنري والون Henri wallon كتب حول اول مؤتمر للمنظمة قائلا:

"هذا المؤتمر كان نتيجة للحركة السلمية التي جاءت بعد الحرب العالمية الاولى. وبدا منذ ذلك الوقت انه من أجل ضمان مستقبل ينعم فيه العالم بسلام، لا شيء اكثر فعالية من تطوير معنى احترام الفرد بفضل التعليم المناسب، ثم اشاعة مُثل التكافل والاخوة الانسانية التي هي في تضاد مع الحرب والعنف". (هنري والون،جمعية التعليم الجديد ،1952). الرؤية الثورية المبكرة للتعليم كانت صدى لمُثل هوبز وفيتشي لخلق مواطنين جدد: الاطفال نُظر اليهم كهمج ذوي عواطف وهم بحاجة للتمدين . هذا كان يُفترض ان يخلق افراد بالغين "مستقلين" قادرين على التحكم بأسوأ الحوافز ويصبحوا مثقفين. لكن بسبب صدمة الحرب العالمية الاولى، اصبحت "إعادة البرمجة" هذه كما نُظر اليها من جانب العديد هي المشكلة: كمصدر للاحباط والاغتراب.

هدف التعليم يجب ان يكون تحرير الفرد لبناء نفسه صعودا ولتمكينه من الاستماع لذاته الداخلية. (بالطبع، هذا الوصف المختصر لا يمكن ان يحقق عدالة لنظريات ومبادئ التعليم الجديد. انه من الواضح ايضا انه حتى لو كان التعليم العام قد اُصلح باستمرار منذ بداية القرن العشرين، فان مثل هذا الاتجاه الجديد في التعليم لم يُنفذ بالكامل ابدا).

هذا التحول في مُثل التعليم لم يحدث في عزلة وانما على خلفية الاضطرابات السياسية.

المنظّر الالماني القانوني كارل شميت Carl Schmitt (1888-1985) اشار الى ان معاهدة فرساي في نهاية الحرب العالمية الاولى انفصلت عن قانون الامم الاوربي jusgentium الذي يشمل جميع الشعوب. كان هذا مفهوم القانون الدولي الذي ظهر اولا في القرن السابع عشر من اقلام الكتاب الكلاسيكيين مثل فاتيل و جروتيوس. وعلى نفس الخط مع اهداف الحداثة، أسس قانون الامم الاوربي قواعدا للحرب لتنظيم الصراعات بين القوى الاوربية. الحرب والعنف لا يمكن تجنبهما ولكن يجب على الاقل تنظيمهما  وتوجيههما نحو صراعات بين الدول – فقط عندئذ يمكن منع انحدار العنف الى بربرية تامة. لكن هذا الوهم قد تحطم نتيجة الحرب العالمية الاولى . هذا العنف بدلا من ان يكون منظّما بصرامة ، نراه جلب الفضائع وعلى نطاق لم يسبق له مثيل. لذا، فان فكرة امكانية ان تقوم الدولة  بادارة صراعات محدودة خاضعة للقواعد استُبدلت بملاحظة مفادها ان القومية تؤدي الى المذابح.  علاوة على ذلك، معاهدة فرساي للسلام ايضا خرقت مبدأ الحياد. بدلا من ذلك، الخاسرون جُرّموا وحُكم عليهم، واُجبروا على الاعتراف بالذنب في بدء الحرب واضطروا لدفع تعويضات هائلة. الاخلاق والأحكام الاخلاقية عادت كمبدأ حاكم في الصراعات الدولية.

لهذا فان مشروع الحداثة فقد مصداقيته تماما عندما تعرّض الفرد المتحضر المُعاد بناؤه للنار. رؤية التعليم الحضاري التي وُصفت ببراعة من جانب فيتشي منحها مؤيدو التعليم الجديد طابعا قمعيا خطيرا.   وبشكل متماثل، وتحت تأثير كل من الحركات الاشتراكية والسلمية، بدأت الحدود القومية يُنظر اليها كسبب للحروب.

نشوة ما بعد الحرب

كانت التحولات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية معقدة. انتصار الاقتصاد الكنزي في الغرب والشيوعية في الشرق رافقهما صعود الاقتصاديات الموجهة بالدولة. وفي النهاية تحوّل المد، حيث انهار القطب الشيوعي ومع صعود الليبرالية الجديدة، بدأت الحكومات القومية تفكك بشكل تدريجي سيطرتها على اقتصادياتها.

يعرّف شميت فترة ما بعد الحرب بالزوال االتدريجي لإحتكار الدولة للسياسة. مع الحرب الباردة وتطور المنظمات الدولية، جرى إلغاء قانون كل الامم الكلاسيكي. بدلا من ذلك، تجسدت الحروب كشرطي سلوك ضد الدول المارقة (اما عبر احد العمالقة للتحكم بتحالفاته، او ضد الدول "السيئة"، او كواجب أخلاقي لأجل الانسانية (مثل التدخلات الانسانية التي قادتها الامم المتحدة).

باستمرار، دخلت المنظمات الدولية واللاعبين الجدد الاخرين الى المسرح واستحوذوا على دور الدولة في "تعريف الصديق والعدو". هذا هو التعريف للسياسات الذي ارتبط عادة بشميت. لكنه كاريكاتير. طبقا لشميت، ليس للسياسات طبيعة، انها لا يمكن اعطائها جوهرا. لذلك، يجب ان يُنظر الى هذا  كمبدأ ترسيم: أي شيء يمكن ان يصبح سياسة، لكن أحسن طريقة لمعرفة ما اذا كان الامر هو كذلك هو عبر التحقق مما اذا كان قد تم تنظيمه حول فئات معينة .

ولكن مع ذلك ، في تعريف السياسة، كانت خسارة الدولة للاحتكار في السياسة تطابقت مع ظهور لاعبين جدد بما فيهم منظمات قارية مثل الاتحاد الاوربي ونافتا و اسيان. وبشكل متماثل، برزت المنظمات الكنزية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي جرى تحويلها لتنفيذ البرامج الليبرالية الجديدة في تفكيك احتكار الدولة للقواعد الاقتصادية وتأسيس حرية الحركة للبضائع والنقود والافكار. وفي نفس الوقت، كان السعي لشكل جديد من الذاتية أخذ منعطفا آخرا.

في اوربا، شهدت الستينات حركة شهيرة سميت حركة الـ 68 ايار المتنوعة لإنعتاق الذات. وكما اشار ميشيل اورس Michel Oris ، الانثروبولوجي في جامعة جنيف، الى ان الهدف المركزي لهذه الحركات كان "لتفجير" الغطاء المتين للاخلاق البرجوازية التي ورثتها من القرن التاسع عشر. هذا المثال لُخص بشكل رائع  بعمل وليم ريتش Wilhelm Reich الذي اعجب بنظرياته العديد من حركات مايو، بدءا من جيل ديلوز وحتى التحرريين و الشيوعيين.

بهدف مصارعة الفاشية، جمع ريتش بين الماركسية والتحليلات النفسية ليربط القمع بهيكل قوة الدولة. هو انتقد عدم قدرة الماركسي توضيح  سبب اتّباع الجماهير لقائد يسير بالضد من غرائزها بشكل صارخ،كما على سبيل المثال، في الفاشية. طبقا لريتش، الافراد لا يؤيدون الفاشية بسبب افكارها او برنامجها وانما بسبب انها تمكنهم من اطلاق توتراتهم الداخلية عبر التعبير عنها خارجيا. الفاشية تستغل اللاعقلانية والجنسية المكبوتة لأتباعها عبر اللجوء الى غرائز غير واعية.

بكلمة اخرى: شعبية الفاشية تنمو مع الاحباط الجنسي. في كتابه (سايكولوجية الجماهير الفاشية،1933)، يدعو ريتش لما يسميه "عدم البراعة للحرية". الافراد المدربون بواسطة المجتمع ومؤسساته القديمة مثل العائلة التقليدية، اصبحوا غير قادرين على ادارة عواطفهم الشخصية، وبالذات،ميولهم الجنسية. هذا ادى الى توتر بين الطموح للحرية والخوف منها.

يقدم ريتش تعبيرا واضحا للنموذج على اساس جميع الحركات الاجتماعية التي انتشرت بدءا من الستينات فصاعدا. هذا يتضمن الرؤية الى الاقليات الجنسية التي كانت قريبة جدا من حركة الانعتاق. اما النسوية الراديكالية ربطت القمع الجنسي للمرأة بالفاشية والأشكال الاخرى للسلطوية مثل البطراركية. يكشف ريتش المنطق وراء كل هذه الحركات الراديكالية: فكرة انه، لكي نخلق عالما سلميا ومتحررا، فان جميع المؤسسات التقليدية مثل العائلة والدولة يجب تفكيكها لتحرير الفرد. هذه الذاتية الراديكالية الجديدة كمصدر شرعي وحيد للاخلاق والقانون اصبحت غاية بذاتها، وايضا الجواب الوحيد للحرب والبربرية والفاشية.

العولمة

الانثروبولوجي في جامعة شيكاغو ارجون ابادوراي Arjun Apadurai، يعطي تفسيرا هاما لنهاية الحرب الباردة وظهور العولمة. اثنان من كتبه (الحداثة بشكل عام،1996) و (الخوف من الأعداد القليلة: مقالة حول جغرافية الغضب،2006) لهما أهمية خاصة هنا، لأنهما يهدفان لإعطاء نظرية للنتائج الثقافية والفردية لعالم معولم. تميّز العالم المعولم الجديد، بعد الحرب الباردة بسلسلة من الانشقاقات: بين الدولة والمالية، بين الإقليم والهويات القومية، وهكذا. حتى "المحلي" فقد مكانته، والان اصبح متجسدا في سلسلة من التدفقات التي تتحدى بعمق قدرة المؤسسات التقليدية والمحلية على نقل الهوية والقيم، وصياغة السلوكيات.

في كتاب الحداثة بشكل عام، يربط ابادوراي بقوة بين ظهور الذات المعولمة وقضية الحدود الدولية.هو يرى ان الاعلام الالكتروني والهجرة هما المحرك الاساسي في تحويل العالم الى شبكة مترابطة داخليا، وكان تأثيرهما الثقافي الرئيسي هو في زيادة دور الخيال في بناء الهويات.هذا قاد الى زيادة الحرية للافراد ليعرّفوا انفسهم حتى لو خلق هذا توترات لدى المجاورين لهم مباشرة. دور وحدة العائلة اصبح اقل من مجرد مؤسسة تنقل تصورا للعالم، بقدر ما اصبحت ساحة يطور فيها الافراد هوياتهم الخاصة بناءً على مصادر إلهام متضاربة . وهكذا،الافراد هم الان يُحتمل جدا ان يكونوا في تضاد مع أقاربهم او جاليتهم. في هذه الاثناء، تأخذ الجاليات المحلية باستمرار شكل الأقليات مندغمة في شتات ضمن شبكة عالمية.

هذه الرؤية المتفائلة نوعا ما للعولمة، مع تأكيدها على الحرية الفردية، انتُقدت في كثير من الاحيان . ابادوراي كان يركز في (الخوف من الاعداد الصغيره) على الاجابة على اكبر اعتراف له بالضعف الذاتي: "تفسيري الخاص يصاب بالعجز عندما نأتي الى العنف الدموي للحروب الأثنية الحالية" (الحداثة بشكل عام، ص224).

يشير ابادوراي الى التسعينات كـ "عقد العنف" عندما تغيّر العنف الاثني في طبيعته. الاشكال الجديدة للعنف اصبحت أقل تركيزا على محو "الاخر" وتوجهت نحو إذلال الاخرين والحط منهم. طبقا للانثروبولوجي ابادوراي، العولمة هي المسؤولة عن هذا التغيير كونها زادت من اللاّيقين وهددت في ان تصبح الدولة أقلية. الخوف من الأغلبية، اللايقين وعدم السيطرة على الظاهرة العولمية، والتهديد الذي تمثله الأقليات "الحقيقية" للسيطرة القومية، هي سبب العنف في العالم المعولم. هذا لأنه في هذا العالم الجديد، لم يعد العدو عضوا في امة اخرى، وانما جار، مشكوك في خيانته.

ابادوراي كان عنيفا جدا في هجومه على الدولة القومية، التي يعتبرها السبب الرئيسي للعنف هنا: "الأقليات هي فقط كبش فداء، بكلمة واحدة هي استعارات وتذكير بخيانة الفترة الكلاسيكية القومية" (الخوف من الارقام الصغيرة،ص68). لكن ابادوراي يرتكب خطأ كلاسيكيا في إلقاء مسؤولية العنف على الدولة القومية. الدولة القومية في الحقيقة، منذ البدء ارتبطت بالعنف لأنه كما يشير ماكس ويبر في تعريفه للدولة انها تمتلك"احتكار العنف الشرعي" – ولكن الأكثر أهمية، وكما يرى شميت، بسبب ان الدولة القومية هي نظام اختُرع لتأطير العنف  بقواعد لتحجيم غضبه وليس لوقفه. بكلمة اخرى، ابادوراي ودون قصد يؤكد التحليل الذي تبنّاه شميت، لأنه في هذا النظام الجديد الذي يتحرك بعيدا عن سيطرة الدولة، يتخذ العنف شكل الاصولية، كراهة الاجانب، انفجارات شعبوية تسعى لإذلال الخصم.

وكما في تحليل ابادوراي، الحركة المزدوجة التي بدأت بها الحداثة – لخلق ذاتا جديدة متحضرة بحدود ثابتة، ونظام صارم لفصل الحدود القومية – قد اُلغيت. وبعيدا عن هدف مضاعفة الحرية، هذا خلق ظهور مجتمع اصبح فيه العنف "نظام دائم"،حسب تعبير ابادوراي. في النظام العالمي الجديد، "لم يعد ممكنا  معارضة الطبيعة والحرب من جانب، والحياة الاجتماعية والسلام من جانب آخر... يبرز مشهدا اكثر رعبا حيث النظام يُنظّم حول الحقيقة او في منظور العنف" (الخوف من الأعداد الصغيرة،ص53).

لعنة كارل شميت

كان شميت وحشا داعما للنظام النازي، هو فعل كل شيء ليصبح المحامي الرسمي للرايخ الثالث. لسوء الحظ، هو يبقى منظّرا قانونيا كلاسيكيا، ومفاهيمه الاساسية وتنبؤاته ضرورية في تحليل عالم ما بعد الحداثة. الفرد الجديد الذي رغبته ما بعد الحداثة ووُصف من جانب ابادوراي يُفترض ان يكون اكثر حرية، مع اعطاء اكبر حرية لخياله لتطوير ذاته. لكن، يمكن للمرء مسائلة هذا. اكبر فشل لمفكري ما بعد الحداثة وما بعد الكولنيالية هو انهم يفتقرون لفهم النظام القانوني – وهو خطأ بالتأكيد لم يرتكبه شميت ذاته. هذا النوع الجديد من الحرية الفردية لكي يُنفذ يتطلب دولة فضولية بشكل مفرط. ابادوراي يرفض رؤية ويبر في "القفص الحديدي" للعقلانية الذرائعية، حيث العلاقات المتبادلة استُبدلت بقواعد قانونية ومبادئ. بدلا من ذلك، يصر ابادوراي على اهمية جديدة للخيال في بناء هوية المرء. ما لم ينتبه اليه هو ان هذه الذات الجديدة تتطلب قواعد جديدة واشكال اخرى جديدة من تدخل الدولة لحماية حريتها. مثال نموذجي سيكون القواعد الجديدة الفضيعة التي نُفذت لادارة التنوع. هذه القواعد سميت "صحيحة سياسيا" وهي منذ بدايتها في الستينات زادت من الاستحواذ على المجتمع الغربي – كما حُللت وانتُقدت من جانب سوسيولوجيو جناح اليسار الفرنسي  مثل فردريك لوردن و فنسيت دي غولا و نيكولاي اوبرت.

ان انتشار هذه الأشكال الجديدة يعني ان العلاقات الداخلية المرتكزة على مبادئ تبرز من ميدان القوانين. يجب على المرء باستمرار ان يقيّم  وبعناية ما اذا كانت افعال المرء ومعتقداته تؤثر على حرية الآخرين بالانعتاق ، وان القواعد الجديدة والقوانين تُنفذ لضمان احترامنا لهذا المبدأ في "الحرية المفروضة". هذا قاد،مثلا، الى خلق وزراء في عدة دول لمساواة الجنسين. أنظمة التعليم والقوانين جرى اصلاحها لتعزيز وحماية هذا الانعتاق للذات الحديثة. لكي يتم تنظيم العلاقات الداخلية ،يجب ان تصبح اللغة والجنس والهويات الجنسية، والقوانين اكثر فضولية.

هندسة الدولة التي تأسست للسيطرة على العنف لم تختف. بل، طالما العنف لم يعد يُنظم خارج الحدود القومية، وانما ينفجر من الداخل، فان نظام السيطرة اعيد توجيهه ضمن الحدود القومية. فرنسا مثلا، غيّرت قوانينها لتدمج معظم مقاطعات "دولة الطوارئ" في تشريعاتها النظامية – نظام سيطرة تأسس سلفا في الولايات المتحدة بقانون باتريوت.

نظام تنظيم العنف وراء الحدود لم ينجح في الغاء الجريمة ولن ينجح ايضا نظام السيطرة الداخلي. وكما يكتب الفرنسي الخبير في الجرائم الن بير، السيطرة الواسعة والمراقبة يمكن ان يمنعا بعض الهجمات المخططة لكنها سوف لن توقف الإرهاب ذاته.

الحداثة السياسية كانت حركة مزدوجة: الدين والاخلاق ازيلتا من النظام الداخلي ليحل محلهما نظام من القوانين والمواطنة لادارة العلاقات الاجتماعية. وفي نفس الوقت، الدولة ستخلق حدودا مسيطر عليها بصرامة مع توجيه العنف الى صراعات الدولة – ليس لإلغاء العنف وانما لإشاعة السلام في المجتمع ضمن حدوده، وربما لمنع الافعال البربرية الأكثر سوءا في الحرب. لكن بعد الحرب العالمية الاولى، نحن عرّفنا الدولة القومية – كسبب للحروب الوحشية في الخارج  والقمع في الداخل . لكي نحرر الذات ونحقق السلام، جرى تفكيك الآلية المزدوجة التي اعتمدت عليها الدولة القومية والحداثة، وهما اعادة التعليم وسيطرة الدولة على الافراد. ومن غير المدهش، ان هذا قاد الى عودة فضيعة لهاتين الآليتين للهندسة الاجتماعية اللتان صُممتا للسيطرة. وهكذا نحن ألغينا الحداثة باسم الحرية والسلام العالمي، ولم نحصل لا على السلام ولا على الحرية.

الاستنتاج

تفكيك الحداثة السياسية حدث تحت عناوين واسباب جيدة. لكن النتائج التي نجمت عن هذه التغييرات هي في انسجام مع ما تنبأ به شميت : عودة اشكال العنف لما قبل الحداثة. هذا بسبب ان العديد من النقاد نسوا ان الدولة والحداثة السياسية كانا سلفا وسيلة لتهدئة المجتمعات والعلاقات الدولية. وهذا ما تعنيه لعنة شميت: العنف لا يمكن ازالته او ترويضه وانما فقط ادارته من خلال الهندسة الاجتماعية والسياسية.

ان تطور أنظمتنا السياسية أخذ شكل البندول او رقاص الساعة:  ذهبنا للأشكال المتطرفة لعنف الحروب الدينية، ثم دخلنا في أشكال اخرى متطرفة للعنف نتجت عن الحداثة خلال الحرب العالمية الاولى، ونحن الآن نعود رجوعا لأشكال العنف السائدة ماقبل الحداثة. ولا يهم لو قررنا ان نسميها أشكال عنف  "ما بعد الحداثة" كما فعل ابادوراي. انها نفس الشيء. تلك هي اللعنة: البندول يتأرجح ليعيدنا من حد متطرف الى آخر، مع عدم وجود حل للهروب او وقف هذه التراجيديا.

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

للمراجعة:

The Politics of freedom: freedom &Intervention, philosophy Now,Aug/Sep 2024

(1) تأسست هذه المنظمة عام 1921 من مجموعة من التربويين الذين اعتقدوا ان اصلاح التعليم يساعد في خلق مجتمع اكثر تسامحا وسلمية. تكونت المنظمة من مجموعة متنوعة من الافراد ضمت بين صفوفها المعلمين والمفتشين وعلماء النفس والاطباء والآباء ومديري المدارس اعتقدوا ان العلم يمكن استخدامه لتجديد التعليم عالميا.  

 

في المثقف اليوم