أقلام فكرية
سامي عبد العال: الرحمةُ كمفهومٍ بلا عنف (2)
ثمة فارق كبير جداً بين كوْن الإسلام (ديناً عالمياً universal religion) وإسلام الرحمة (كمفهوم كوني cosmic concept). لأنَّ عالمية الرسالة جاءت في المواعيد السياسية والإجتماعية المنتظرة لكل مُتطلِّع لفرض الاسلام (بالدعوة أو السياسة أو التنظيم أو التطبيق). وهذا التعميم هو أحد (الأشكال المقلوبة للصراع) والتي تعدل الأوضاع فيما بعد لصالح منفذيها. أي هي تستحوذ على صورة الإسلام مدعيّةً (نموجاً خاصاً) فوق كل اختلافات البشر. فشعارات العالمية بُذلت وتطايرت هنا وهناك لصالح الأفكار المحلية القُح، وغدت لوناً من التبرير الخاطف لممارسات القمع والاستعلاء. وقد باتت الأديان في هذا المضمار تتزاحم وتحشُر أقدامها محل الأخرى داخل المشاهد العالمية.
بالفعل لقد استعمل رجالُ السياسة موارد الدين لأغراضهم الخاصة، منذ حقبة الإسلام المبكر حتى اللحظة. والأمر هنا ليس مصادفةً، لكون الإسلام قد استمر متجذراً في الثقافة الشائعة، وعندما كان الحاكم يريد غلبةً إزاء الجماهير، كان عليه أنْ يتقوّى لاهوتياً من هذا الجانب. وكان عليه أنْ يستثمر الثقافة الدينية في ترويج صورته وسياساته. وحدثَ أنْ وجدَ أصحابُ السلطة تراثاً زاخراُ - لكل ما ينتوون فعله- من التفسيرات والتأويلات، وصولاً إلى استعمال المذاهب وتغليب مكانة الفقهاء على سواهم من المفكرين والفلاسفة والمتصوفة.
جميع ذلك كله كان (خدمةً مقدّسة) في بلاط الحكام المسلمين، حتى تبناها البعضُ لإدامة عمر الأنظمة السياسية أطول فترة ممكنة. يعلمنا التاريخُ العربي أنه لا يبقى أيُّ نظام حاكم صامداً من غير (حزام من التفسيرات والأحكام والفتاوى والشروح الدينية) حول أركانه ومصالحه، حزام يوثق الأدمغة والأفكار ونمط الرؤى السائدة تجاهه، بحيث يجد النظام دعماً من الحزام الديني حائلاً دون إنهياره. وطوال الوقت، يتحكم رجال السلطة في هذا الحزام الديني تضييقاً واتساعاً، بحسب ما يرتئون منه، وقد يحولونه وقت اللزوم إلى (حزام ناسف)، حين يستشعرون تهديداً لوجودهم على رأس السلطة!!
في هذا الاتجاه، خاضت كل الأنظمة والفرق والتنظيمات الاسلامية عملية تبرير لممارساتها بالرأسمال الديني (النصوص والمصادر والأدبيات المذهبية والرموز والسير الذاتية والمعارف والتأويلات...) وتسلّحت بالأيديولوجيا وطغت عليها صور "الغلبة والغنيمة" المعروفة. تلك النزعة التي كانت ذات طابع قبلي موروث حتى الثُمالة. عندما كانت القبائل البدوية تشن غارات حربية إزاء بعضها البعض سالبةً أموالها ونساءها وممتلكاتها الخاصة. وليس هذا فقط، بل كان الغالبُ ضمن هذا الصراع يُشّهر بالمغلوب في إطار ما يُسمى(لاهوت الحروب). وهو اللاهوت الذي ظل سارياً في بعض تفاصيل الفقه وتفسيرات القرآن ومعتقدات العامة وأنظمة المجتمعات الإسلامية.
الغريب أنَّه عبر كل مرحلةٍ كان يمر بها الإسلام، قادت (سمة العالمية) أصحاب الدعوة إلى نشر الإسلام بهذه الصورة، سواء أكانت شعارات المرحلة "الإسلام دين عالمي" أم " الإسلام دعوة عالمية" أم " الإسلام جماعة عالمية" أم "الاسلام في الغرب" أم " الإسلام والنظام العالمي" أم " الإسلام والعولمة" أم "الإسلام وأستاذية العالم" كما مارسَ الإسلام الساسي. وهذا ما جعل الآخرين(غير المسلمين) يحتشدون – مؤامرةً أو غيرها- ضد زحف اللاهوت الإسلامي المسيَّس. وفي المقابل تلقائياً، نشأت توجهات الإسلام فوبيا Islamphobia بين شعوب الأرض بفعل العمليات الترويج المضادة للإسلام ككل.
وهذا للدقة كان خطّاً قد اخترقَ الخطابات والممارسات الدينية، حين كانت تُستنفَر كردود أفعال نتيجة وجود الغرب على أراضي الاسلام، وكانت كذلك أشد ضراوة بصدد التعامل مع المختلف دينياً. وقد انساقت حتى أغلب خطابات التجديد وراء تلك النبرة الحماسية إن لم تكن صراحة، فإضماراً. ولنراجع كتب الأمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وكذلك مؤلفات رفاعة رافع الطهطاوي على (الإيقاع العالمي) بين الشرق والغرب، لأن التجديد الفكري الديني يردد أصداء العصر وآفاق الثقافة الجارية شاء أم أبى أصحابه. إذ سنجد خط التمايز بين الإسلام وسواه من الأديان، وسنجد محاولة المقارنة مع صور الحكم وأنظمة القوى العالمية مؤكدين على الصحوة أو التجديد بمنطق العالمية. وهي الثقافة التي ورثت طابع الجذور الاجتماعية والمعرفية للمجتمعات العربية الاسلامية، ثم اندمجت في الطابع العام للعصر ليس أكثر. ولذلك عندما يمتد الفكر الإسلامي إلى تلك المساحة، لن يجد مرجعية مفتوحة تدعمه غير الصور الأولى من التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود وأهل الأديان الأخرى.
أمَّا الرحمة كمفهوم كوني، فهي أولاً: تتحلل من تلك الموروثات المقيدة مرةً واحدةً. وثانياً: بجرة قلم وحكمةِ وجود، لن تكون الرحمة مثل المفاهيم الأخرى (كالجهاد والآخر الديني والحقيقة ودار الحرب ودار السلام) التي اجترّت العنف، فالرحمة ودوائرها الكونية قائمة على قدرتها الذاتيه خروجاً من هذا المناخ كله. وكأنَّ الإسلام ظل يقول سلفاً إن طريق (عالمية الدعوة) بممارساته الخطابية طريق مسدود، وأنَّ عصوراً لاحقة للإسلام المبكر لن تكون مفتوحة كما يظن الناس. وأن هناك إنسانية أخرى لكل عصر، تليق به مفاهيم جديدة ومختلفة خارج لاهوت الدعوة بمعناها الأيديولوجي والوظيفي. إن الله في الاسلام وضع الرحمة التي تخلق فضاءً مختلفاً، لا الرحمة التي تنزع الفضاءات المتنوعة. فالجانب الكوني من الرحمة جانبٌ قد بُسطَ إلى أقصى نقطة مفترضة. وليس هذا فقط، بل وكانت هذه النقطة داخلة في صلب الإسلام، صلب الوجود الإلهي من تلك الحدود البعيدة.
والمعنى الكوني دوماً يزيح تراكمَ التاريخ الذي تشكّل وأصبح غطاءً سميكاً حول الحياة، ويمثل بداية جديدة مع إنسانية كونية تجدد الفكر واللقاء مع الآخر. وكأنَّ الله يقول ضمنياً: إذا كان المسلمون لم يكونوا على مستوى الإيمان الحُر، فالرحمة هي التي تجُب ذلك صراحة، هي (القيامة الفعلية الحانية) لكل ترسانة الكراهية الموروثة وإساءة استعمال الإسلام من أصحابه قبل أغياره. وكان الله قد أدخل الرحمة في متن الإعتقاد، لا بطريقة التأثيل ولا التخريج لمفاهيم ونصوص التعامل مع أهل الأديان الأخرى، لكن بالاستناد إلى (ذاته الخالقة) رأساً.
ولو نلاحظ، فإنَّ الفارق السابق ليس قليلاً على الإطلاق، لكنه فارق ضخم بقدر الإلتقاء مع كل إنسانية ممكنة، لا وفقاً لمعتقدات سابقة، إنما بحسب القطيعة التي قد تحدثها الرحمة عندما تقتضي الضرورة. وهذا في الحقيقة هو أحد أسباب الاختلاف بين أنماط التدين بالإسلام من داخله، فلو تمَّ التمسُك بحرفية المعنى ومراسم الشريعة والتأصيل الفقهي، فغالباً سيكون هناك إسلام الاعتقاد الذي يخضع لمبررات المرجعيات ويظل دائراً مع تخريج النصوص والأحاديث وإعادة كتابة الأفعال والأعمال وفقاً لأصول ثابتة لا يبرحها المتدينون. وهذا النمط الغالب من التدين الإسلامي أحكم سيطرته مع ظهور المذاهب السنية والشيعية... وغيرها، فالمذاهب بمثابة آليات ومبررات فقهية لرسم صورة لكيفية التدين في حياة الناس. كما أن هذا النمط يحمل نموذج حياته الخاصة منذ بواكير الإسلام ويصعب لمتدين أن يخرج عنها إلا جزئياً.
ولكن لو كان ثمة تمسُك بالرحمة، وما يتكون حولها من أفكارٍ ومفاهيم وعلاقات وآفاق وأنماط حياة وآمال حرة، فالإسلام هو الاسلام الكوني عندئذ، إى لن يكون إسلاماً معتاداً وخاضعاً لصور بيئية ثقافية متواترة. ولن يكون إسلاماً لاهوتياً خاص بهيكل بعض المؤدلجين ولا الذين يتخذونه حربةً سياسية بمسميات شتى.
تأسيسان للإسلام
بدا الوضعُ تباعاً كالتالي: أنَّ الاتجاهين (الإسلام كدين عالمي وإسلام الرحمة كمفهوم كوني) قد خرجاً من متن الاسلام المعروف نفسه. بل التأسيسان tow foundations قد أتيّا من مصدرٍ واحد، وقال بهما الوحي الإلهي وأكد عليهما القرآن في أكثر من سياق، ولكن الرؤية وجوهر انطلاق التأسيس مختلفان إلى حدٍ ما. وبالتالي، ستختلف المسارات والتوجهات وطرائق العمل والأهداف البعيدة. فالتأسيس الأول (الإسلام كدين عالمي) ظل معمولاً به طوال التاريخ وطوال التحولات الاجتماعية والحضارية التي كانت مهمة لتكوين الثقافة الحاضنة للإسلام كما وصلت إلينا.
كانت كل نقطة ينطلق منها الاسلام كدين عالمي تجعله وثيق الصلة بجوهر المصادر المتداولة للإسلام، وبجوهر الفهم المتداول والرسمي للقرآن وكتب الصحاح المعترف بها وكتب المذاهب الفقهية التي تشتغل على ما سبق. وهذا ما جعل (تغيير وتطوير) طابع الفقه والتفسيرات السادة للقرآن وكتب الفكر الإسلامي بطيء جداً، بل لا يكاد يكون هناك تغيير من المنبع حتى أخر نقطة ممكنة. وعلى ذلك، فقد تكوّن سياق الفكر الإسلامي وظل يناقش قضايا التراث والمعاصرة وقراءة التراث على طريقة الكتاتيب وبأساليب الطلاء الخارجي للبيت المتوارث. وإذا حاول أحدُهم – أي من المفكرين- أنْ يخرج عن السرب، فإنَّه يناقش الموروثات في ضوء الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة بحسب وقتها.
وهذا التأسيس (اسلام الدعوة العالمية) ظل مرتهنا بالماضي رغم استعماله لمنتجات العصر، وكذلك ظل منشداً لمرجعياته كلما شعر القائمون عليه بأن هناك انحرافاً عن الأصول. بل بقيت مقولة الانحراف عن الأصول مقولة في ماهية التأسيس نفسه من تلك الزاوية. وعندما كان يحدث شيء جديد أو ما يسمى بالبدعة (كما في عرف السلفية)، كانت مقولة الانحراف تستدعي ذاتها من غير استئذان، وتظل بمثابىة الرقيب التاريخي على ربط الإسلام بمصادره الأولى. وحتى مصطلح المصادر الأولى، لم يخلو معناه وتاريخه من تماهٍ مع الثقافة والفكر الغالب بشكل عام. لأن المصادر الدينية المبكرة لم تحضر عارية وخالصة دوماً بعد هذه القرون الطوال من وجود الاسلام، فهناك تراكمات تأويلية علقت بها وحرمتها من التعبير المباشر عن نفسها. ولم تترك لها فرصة التنفس الحي بين أنفاس الناس، وبحسب تغير الأحوال والظروف المستجدة. وهذا ما يعرف بكون المصدر ينطق بالرجال كما قال الإمام على بن أبي طالب إن القرآن لا ينطق بنفسه ولكن بلسان الرجال.
وهو مبدأ غاية في الخطورة لما ينطوي عليه من معانٍ مهمة، وقد قاله علي بن أبي طالب في رده المشهور على الخوارج حين قالوا: " لا حكم إلاَّ لله " رافعين المصحف على أسنة الرماح، فقال الإمام على رداً عليهم: " القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال". والدلالة الواضحة لهذا المبدأ أنَّ عقول الرجال ومستوى وعيهم و قدراتهم المعرفية وفهمهم للآيات والنصوص هي التي تحدد الدلالات القرآنية، وهي التي تعطي النص الصامت لساناً فصيحاً أو غير فصيح للتكلم بحسب ما يريدون.
جاء هذا التأسيس التاريخي من الخلف إلى الأمام، أي انطلق من المرجعية الغالبة في كل عصرٍ إلى الفروع التي تتلقى دعماً رمزياً، وتحققُ ما تقول به المرجعية المهيمنة. وهو الشأن الذي ساد داخل كل بلاد الإسلام على اختلافها وتباعدها اتساقاً مع حركة التاريخ من الأقدم إلى الأحدث. إنَّ الحركة التأسيسية جرت مثل مجرى النهر الذي يسير من المنبع إلى المصب، ولكنها حركة لا تضمن نقاءَ مياههِ تجاه الممرات والحُقول التي يرويها. وهذا ما حدث مع الإسلام حيث حدث تلوث لمصادر الإسلام من خلال البيئات التي انطلق منها، لأن منتجي الخطابات الدينية وأصحاب الأفكار إنما يعبرون عن تجاربهم الدينية مع رؤيتهم للأصول التي تلقوها كما هي.
لعلَّ ظهور بذور التعصب والإقصاء بإسم الإسلام جاء مع هذا المجرى الطول، وإذا كان البعض يجادل دوماً بكون الإسلام لا يدعو للتعصب والعنف، فمن أين أتى العنف إذن؟! ... الإجابه أنَّ كل الأديان - وليس الاسلام فقط - لا بد أن تتفاعل مع الثقافات، وتترك عليها الأخيرة فهماً معيناً بحسب محدداتها التاريخية. والعنف جزء من طبائع الثقافة، حتى تواصل الحياة وهي البقايا التي تظل سارية رغم مرور السنوات. وسبب انتشار العنف والطابع التكراري العام للفكر الإسلامي أن الناس لا يلتفتون إلى تلك الحقيقة البسيطة جداً!!
فقد يكون ما تؤمن به أنت ليس معتقداً عنيفاً. ولكن عندما يصبح جزءاً من جهازك النفسي والعصبي وبالتالي الثقافي، سيخرج على هيئة أفكار لا تخلو من توتر وتشدد. وشئت أم أبيت، لن تستطيع القول بكونه إيماناً خالصاً، إنه عندئذ معبر عن رواسب ثقافية هي ما تتحكم فيها وفيك قبل أن تتكلم في حضورها، وهي التي تسبقك قبل أن تجيء إلى أي موقع ثقافي جديد، وهي المختزلة في أدق التفاصيل بجانب وجودك، وهي التي ستحيلك إلى علامة من واقع نظامها السابق والمهيمن عليك وعلى غيرك.
وهنا تظهر خطورة التأسيس الآخر في الإسلام (الرحمة كمفهوم كوني)، وهو جزء من تأسيس كوني قال به الله في القرآن، وينتمي إلى بنية الإسلام نفسه، ولكنه ذو طبيعة كلية عابرة لكل الحدود، ولم يسقط من علٍ ولا من موقع مجهول الهوية. وهذا التأسيس لا يخضع لمحددات الثقافة النوعية، ولم يترك فرصةً لأن يجادل المسلمون بكونه مختلفاً عما يعتقدون، لأنَّ الله حصراً ينسبه إلى ذاته قبل أي بشر: " كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ "(الأنعام/ 54).
هو النسب إلى النفس الذي يدرك تاريخ البشر، وهو نوع من الحوار الصامت حين يقول أحدهم كيف تكون الرحمة مع المختلفين وغير الدينيين، فسيكون الرد أن الرحمة شرط وضعه الله على ذاته، أي أن الله بإرادته المطلقة وضع شرطاً مطلقاً على نفسه. وتلك الإشكالية تثبت إطلاق الإرادة الإلهية من جهةٍ، وتثبت إطلاق الشرط (الرحمة) من جهةٍ أخرى. وأن الرحمة رافعة ضخمة لمعان وجوانب أخرى من الإسلام. إشكالية لا تدع لأي كائن وليس المسلم قصراً أن ينساق وراء دعاوى التعصب ومنع الرحمة عن مجالها الكوني الخالق. وفعل كتب الوارد بالآية، يعني : فرض وحدد ووضع ميثاقاً غليظاً: أنه لا مفر مما لا مفر منه بحكم خطورة المخلوق أيا كان وبحكم رحمة الخالق.
وتأسيس الاسلام من النقطة الكونية تأسيس جدير بالإنسانية قاطبة، وكأن الاسلام يقول إن نقاط التأسيس متحركة ومتنوعة ومازالت مفتوحة من عصر إلى آخر، ولن يضع أصحاب العنف قيداً على الإسلام أيا كانت صورته. وهو تأسيس تفكيكي لكل تاريخ الإسلام التأصيلي بمعناه الثقافي والبيئي. وكأن الرحمة تجري حواراً أصيلاً بين جنبات الإسلام، بين ما تحقق بالفعل وما ينبغي أن يكون، بين ما جرى تشويهه وما ينتظره في الآفاق الرحبة، بين ضيق المذاهب و وسع الإنسانية الكونية.
وليس أكثر دلالة من إتيان التأسيس من دائرة الكونية، وهي الفضاء الآخر الذي تعد به صلاحية الإسلام خارج ذاته بالمعنى الأول. وليس هناك دين يمكن أنْ يتأسس على هذا الضمان المرتبط بموضوعاته الكونية التي لا يمكن لأحدٍ أن يمسكها حصراً. ولا يمكن لأحد بالتبعية أنْ ينال منها أصلاً كما يستحيل على الناس إدراك سرها. والقرآن في هذا الصدد، عندما يربط الرحمة بالذات والوسع الإلهيين، يضع دلالة الضيق في إحراج منطقي لاهوتي. وهو إحراج من صنع البشر، لأنهم عجزوا عن مواكبة مضامين نص القرآن ومعانيه.
وهذا التأسيس لا يشكل تناقضاً مع التأسيس الأول، بل يمثل أحد أساليب التجديد والرؤى المختلفة الكاشفة عن آفاق الفكر الإسلامي. فلو كانت مرجعيات الصراع قد أغلقت مجال التلاقي مع الحياة، فإن المرجعية الكونية هي الملائمة لعصر الانفتاح والإختلاف بإمتياز. باتت عملية التأسيس للإسلام من الرحمة الكونية أمراً لا مناص منه، نظراً لكونها ستقدم أفكاراً جد مثيرة للعقول التقليدية وغير التقليدية، وستضرب موعداً مع الحقائق الإنسانية. وبخاصة أن الله (وضع ذاته) مع هذه الحدود القصوى واللانهائية. لقد استبق واقع الحال إلى ما لا يتصوره إنسان.
إنَّ معاني الرحمة نقلةٌ خيالية غير متوقعةٍ في تاريخ الثقافة الإسلامية، خطوة غير مسبوقةٍ وتشكل مركزاً لثقل الحياة الحرة وزخمها. وبصريح العبارات، نصَّ عليها القرآن بشكل قاطع لا هوادة فيه، وأتى على تنويع سياقاتها ومعطياتها الإنسانية والوجودية. وليس ذلك أمراً طارئاً بحسب الظروف، لأنَّ كل ما يتعلق بالكون والإله لا طارئ فيه من الأساس. فهنا المسألة تخص الخلقَ والوجود مباشرةً، ومنطق الألوهية هو الذي يتكلمُ في تلك اللحظة الفارقة. وهو ما يجعل الرحمةَ مرجعيةً أخرى للإسلام ظلت متوارية جانباً في تاريخ المسلمين.
وتكمن الأهمية كل الأهمية في تحويل الرحمة من لاهوت الجماعة إلى أنظمة الحياة المعاصرة، ومن أنياب التوظيف إلى دلالة الحياة، ومن التماثل إلى الاختلاف، ومن الهبة والتفضُّل إلى الحق، ومن المقايضة إلى المساواة والعدالة، ومن الاحتكار إلى الإنفتاح. ولكن هل ستواصل الرحمة دلالتها متجاوزةً الخلفيات التاريخية لنشأة المفاهيم والثقافة؟! ولو حدث ذلك، فبأي معنى كوني ستعبر، وما (الرافعة القوية) التي ستنتشلها من هذا التراث؟!
***
د. سامي عبد العال