أقلام فكرية
معوقات تشكل العقل العربي الحر
دعونا بداية نعرف الحريّة، فالحريّة في سياقها العام، تعني وعي الضرورة، أو الضرورة الواعية كما عرفها "سبينوزا وهيجل وماركس"، أي وعي الإنسان للظروف الماديّة والفكريّة التي تتحكم بحاجاته الأساسيّة، الماديّة منها والمعنويّة (الروحيّة) في نطاق المحيط الذي يعيش وينشط فيه، وبالتالي التحكم بهذه الظروف وقوانين عملها داخل الظواهر، بغية الحفاظ على وجوده وإشباع حاجاته بكل مستوياتها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأخلاقيّة. أو بتعبير آخر، إشباع حاجاته الماديّة والمعنويّة بشكل عام، مع حضور شرطيّ المسؤوليّة والوعي تجاه فهم وممارسة هذه الحريّة.
هذه هي الحريّة في سياقها العام كما أراها. فهي حريّة مشخصة وليست مجردة، مثلما هي حريّة ينتجها الواقع المعيوش ويحدد صيغها كونها لا تُفرخ مجردة، أو تفيض من العقل الإنساني المجرد أي لا تأتي من فراغ أولاً، وهي ليست صيغة واحدة مطلقة صالحة لكل زمان ومكان من ثانياً، إنها حريّة نسبيّة قابلة للتطور والتبدل وفقاً للمرحلة التاريخيّة المعيوشة، وطبيعة حاملها الاجتماعيّ ثالثاً. فجوهر الحريّة في المرحلة البدائيّة كان يصب في تحرير الإنسان من سيطرة الطبيعة وتحكمها بحياة الإنسان. والحريّة في المرحلة العبوديّة كانت تتجه نحو تحرير الإنسان من تسليع جسده، حيث كان يباع ويشترى في أسواق النخاسة، والحريّة هي غيرها في النظام الرأسماليّ أو الاشتراكيّ أو في دول العالم الثالث المتعدد الأنماط الإنتاجيّة.
أما مفهوم العقل موضوع بحثنا هنا: فهو جملة المعارف الماديّة والفكريّة التي كونها الإنسان، من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع تاريخيّاً، وتحولها فيما بعد إلى منهاج تفكير ونظريات ورؤى ومواقف ذهنيّة يستخدمها الإنسان للتأثير في إنتاج خيراته الماديّة والفكريّة وتحديد علاقات الفرد بالمجتمع، والعكس صحيح ، فالإنسان يعمل دائماً على إغنائها وتطويرها بما يتفق والظروف التاريخيّة المعيوشة.ً
من هذا المنطلق المنهجيّ في تعاملنا مع الحريّة والعقل يأتي موقفنا منهما، فهماً ووظيفة وآليّة عمل.
إن نظرة سريعة للعقل العربيّ السائد اليوم، يُفصح لنا عن إشكالات عديدة تتحكم في طبيعته وآليّة عمله والقوى الاجتماعيّة وخاصة (السياسيّة والدينيّة) المتحكمة فيه.
إن العقل العربيّ محكوم في وجود اجتماعيّ مفوّتٍ حضاريّاً، إذ لم تزل تتحكم به من الناحية الاجتماعيّة مرجعيات تقليديّة ضيقة من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب وعرق وأيديولوجيا. وبالتالي فإن البنية الاجتماعيّة المنتجة له في عالمنا العربيّ، لم تحقق حتى اليوم وضوحاً واستقراًراً أو تقدماً اقتصاديّاً أو اجتماعيّا أو سياسيّاَ أو ثقافيّا أو طبقياً، وهذا كما قلنا يعتبر إشكالاً كبيراً يقف أمام حريّة الإنسان بشكل عام، والمبدع والمثقف فيه بشكل خاص. وبالتالي فالحريّة تظل ملجومةٍ ومحكومةٍ هنا من قبل السلطات الحاكمة التي تريد حريّةٍ على مقاسها أو ما يخدم مصالحها، مثلما يريد المجتمع حريّة توافق طبيعة علاقاته الاجتماعيّة المتخلفة والمحكومة غالباً بالعرف والعادة والتقليد والوعي الدينيّ المؤسطر (من أسطورة) القائم على الثقافة الشفويّة المشبعة بالنقل على حساب العقل، والمدعومة أساساً من قبل السلطات الحاكمة ومؤسساتها الدينيّة، التي وظفت جوامعها لنشر ثقافة الامتثال والاستسلام والخرافة والأسطورة وقصص الأولين والتأكيد على عالم الإنسان الداخلي بتوجهات صوفيّة إشراقيّة لتحقيق ذاته، بدل من البحث عنها في وجوده الاجتماعيّ وتناقضاته وصراعاته، أي دفع الإنسان للتمسك بالفضيلة المجردة الهادفة إلى كسب الجنة وحور العين وسواقي الخمر والعسل واللبن، وليس ثقافة حب الوطن وتكريس المواطنة واحترام الرأي الآخر وإعمار الأرض. أما على المستوى الثقافيّ، فقد بينا المعاناة الكبيرة التي يعانيها المثقف النخبويّ الذي ظل عقله محكوماً بمحيطه السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، فكم من مثقف تراجع عن آرائه التقدميّة العقلانيّة التنويريّة في تاريخنا المعاصر بسبب الضغوطات التي تعرض ويتعرض لها دائما من قبل المحيط الذي ينشط فيه، كما جرى لعلي عبد الرازق، وطه حسين، وغيرهما الذين تعرضوا للمحاكمات أو السجن أو النفي أو القتل بسبب أفكارهم العقلانيّة التنويريّة، كفرج فودة وجلال صادق العظم وحامد أبو زيد وغيرهم الكثير .
هذه هي الأجواء الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي ينشط فيها العقل العربي، أي التي يعيش فيها الكاتب والمفكر والفيلسوف والأديب والفنان العربي. وبالتالي لتحرير عقول أفراد المجتمع، والفسح في المجال لأفكار هذه النخب العقلانيّة التنويريّة أن تنتشر وتجذر أفكار التنوير، يتطلب منا الأمر صراعاً تاريخيّاً مريراً مع من يَحُولُ دون نشر ثقافة العقل والتنوير في عالمنا العربيّ بغية تحقيق تلك التحولات العميقة في واقعنا المعيوش. وهذا برأي لن يأتي بالنوايا الحسنة، ولا بالمواقف الإرادويّة أو الذاتيّة التأمليّة.. إن التحولات التاريخيّة العميقة، تتطلب ثورة حقيقيّة تطال الوجودين الماديّ والفكريّ معا في وطننا العربيّ المتخلف، ولكن المحزن أن معظم الثورات التي قامت لتغيير بنية الوجود الاجتماعيّ منذ بداية القرن العشرين، قد خذلتنا عندما وجدنا أن الكثير من توجهات حواملها الاجتماعيين الثقافيّة كانت أصوليّة سلفيّة تكفيريّة حافظت على الوجود الماديّ والفكريّ في المجتمع بدلاً من تقدمه، والحديثة منها التي سميت بثورات الربيع العربي أرجعت بعض دولنا قرنين من الزمان إلى الوراء، بعد أن دمرت معظم ما تحقق من إنجازات على مستوى التحديث بكل أشكاله ومستوياته خلال قرن ونيّف من الزمان.
بيد أن السؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا اليوم وهو:
هل هناك تفكير عربيّ جاد وحر، واشتغال فلسفيّ عميق حول سؤال الحريّة وجدلياتها مع الهويّة والعدالة والأيديولوجيا والتدين في أروقة الفكر العربيّ المعاصر كما عَرَفْنَاهُ خلال القرن العشرين؟
لا شك أن هناك من اشتغل على الأيديولوجيا أو السرديات الكبرى في عالمنا العربيّ المعاصر منذ بداية الربع الأول من القرن العشرين حتى منتصف القرن ذاته، وهذا الاشتغال نجده عند القوى اليساريّة والدينيّة والقوميّة ممثلة بالأحزاب الأمميّة، كالأحزاب (الشيوعيّة)، وحزب (الاخوان المسلمون) بفروعهم العديدة على المستوى العربيّ. ثم تلتها في الربع الثاني من القرن ذاته أحزاب أخرى ذات طابع قوميّ، توزعت بين أحزاب تدعوا إلى الوحدة العربيّة الشاملة، وأخرى ذات نزعات إقليميّة أو عرقيّة (كالفينيقيّة والفرعونيّة وغيرهما).
إن هذه الأحزاب اشتغلت في الحقيقة على تكريس أيديولوجيات خاصة تمثل حواملها الاجتماعيّة أو نخبها من قوى طبقيّة أو أثنية، رسمت من خلالها الأهداف الاستراتيجيّة والتكتيكيّة لعملها داخل الساحة السياسيّة العربيّة، فهذه الأحزاب الشيوعيّة مثلاً قد تبنت في تنظيماتها الأيديولوجيا الشيوعيّة طريقاً لتحقيق العدالة والتنميّة، وفقاً للصيغة الماركسيّة اللينينيّة أو الماويّة، كما تبنى الإخوان الأيديولوجيا الدينيّة (الحاكميّة) التي نظر لها في صيغتها السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة أبو الأعلى المودودي، وتبناها مفكر الإخوان "سيد قطب" في كتابه (معالم في الطريق). أما الأحزاب الديمقراطيّة الثوريّة كحزب البعث والاتحاد الاشتراكيّ وغيرهما، فقد تبنت الأيديولوجيا القوميّة بعد أن ربطتها مع الاشتراكيّة العلميّة، تحت مسميات جديدة نظروا لها فكريّاً تحت اسم (الطريق العربيّ إلى الاشتراكيّة)، وطبقيّاً تحت اسم (تحالف قوى الشعب العاملة). أما أحزاب النزعات الاقليميّة كالفينيقيّة والفرعونيّة والبربريّة والأمازيغيّة والكرديّة وغيرها، فقد حملت أيضاً مشاريع أيديولوجيّة قوميّة ضيقة في مكوناتها الاجتماعيّة لم تزل قائمة حتى اليوم. ومشكلة هذه الأحزاب تكمن في كونها أُغرقت نفسها بالشعارات الفضفاضة على حساب الواقع أو الممارسة. وهذا ما أوقعها في مطبات كثيرة أثناء استلام بعضها السلطة. فظروف الواقع العربيّ المتخلف أثر تأثيراً كبيراً على سياساتها الداخليّة والخارجيّة. فالأحزاب الشيوعيّة ارتبطت بالسياسة الأمميّة والتوجه السوفياتي قبل سقوط المنظومة الاشتراكيّة والاتحاد السوفياتي على حساب السياسة الوطنيّة والقوميّة من جهة، مع غياب واضح للحامل الاجتماعيّ المؤهل لقيادة هذه الأحزاب من جهة ثانية، الأمر الذي أوقها في فخ المرجعيات التقليديّة (قبيلة – عرق) من جهة ثالثة، كما جرى للحزب الشيوعيّ اليمنيّ الذي وقع في فخ القبليّة، والحزب الشيوعيّ السوريّ أو العراقي اللذان وقعا في فخ العرقيّة، الأمر الذي أدى إلى تفتيت تنظيماتها الأساسيّة أو المركزيّة إلى تيارات عدّة. أما الإخوان فقد اشتغلوا في سياساتهم على البعد الأممي أيضاً وتجاهلوا خصوصيات الدولة الوطنيّة التي مارسوا نشاطهم الحزبي فيها، مثلما أغرقتهم أيديولوجيا الحاكميّة وعدالتها في عالم القيم والمثل على حساب الواقع، فاصطدموا بالواقع عند وصولهم إلى السلطة، فكانت النتيجة فشل التجربة الإخوانيّة في كل من مصر وتونس مؤخراً. أما الأحزاب القوميّة العربيّة فقد عاشت في عالم الشعارات القوميّة والعدالة الاجتماعيّة.. فلا هي استطاعت أن تحقق الوحدة العربيّة، ولا حتى الوحدة الوطنيّة داخل الدول التي سيطرت على الحكم فيها، ولم تستطع أيضاً تحقيق العدالة السياسيّة أو الاجتماعيّة التي نادت بها في أيديولوجياتها بعد أن سارت في طريق رأسماليّة الدولة أولاً، أو اقتصاد السوق الاجتماعيّ ثانياً، ثم تحولت ثالثاً إلى دول شموليّة ساهمت كثيراً في تشكل قوى اجتماعيّة جديدة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة التي سرقت أموال الشعب والوطن. هذا في الوقت الذي غلب على قياداتها شهوة السلطة فراحت تمارس تسويات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة على مستوى سياسة الدولة الداخليّة كان من أبرز نتائجها المدمرة، أن أحيت المرجعيات التقليديّة، واتكأت على القوى الدينيّة السلفيّة لكسب رضا الشعب باسم الدين، فكانت النتيجة أنها لم تستطع كسب هذا القوى الأصوليّة الدينيّة إلى جانبها، في الوقت الذي خسرت فيه قوى اليسار والوسط أيضاً كما تبين في أزمة الربيع العربي. الأمر الذي ساهم في تدمير كل ما بنته حكومات هذه الدول خلال عقود من الزمن في بنية الدولة والمجتمع معاً.
إن ما يعيشه عالمنا العربيّ اليوم من فوضى على كافة المستويات تظهر نتائجه واضحة في حالات الجوع والخوف والفقر والهجرة التي يعانيها معظم المواطنين العرب، هذا إضافة إلى ارتماء أكثر هذه الأنظمة في أحضان دول أجنبيّة بهدف حماية الطبقة الحاكمة من شعوبها بسبب ما مارسته من سياسات أنانيّة ضيقة تصب في مصلحتها وليس مصلحة شعوبها خلال عشرات السنين.
ملاك القول هنا: رغم كل معطيات هذا الواقع المتخلف في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد، فقد ظل هناك دور كبير للفكر العقلانيّ التنويريّ المشبع بالحريّة والعدالة والمساواة قائما بين صفوف النخب المثقفة التي حملت هذا الفكر، واتخذت مواقف معارضة لسياسات الدول الشموليّة المنتمية إليها على كافة الساحة العربيّة، فأفكار الطيب تيزيني والجابري والعروي وياسين الحافظ والسيد القمني وحسن حنفي وحسين مروة ومهدي عامل وهادي العلوي ونصر حامل أبو زيد وفرج فودة.. وغيرهم الكثير من المفكرين العلمانيين وحتى الإسلامين المتشددين كأفكار سيد قطب وحسن البنى والهضيبي، لقد كان لهذه الأفكار جميعاً التأثير الكبير على تفكير ما سمي بمحركي الربيع العربي، بيد أن تطرف بعد هذه الرؤى الفكريّة الدينيّة منها والوضعيّة، شكلت انتكاسةً حقيقةً لهذا الربيع، فحولته إلى خريف أو شتاء قارس على هذه الأمّة.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة