ترجمات أدبية
الأرض المسطحة
بقلم: أنيكا جايد ليفي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
أخبرني أستاذ القانون أن فارق السن بيننا كان سقراطيًا: سبعة عشر عامًا. فجوة مثالية للتلقين الأيديولوجي.
كان لديه أطفال في سن المتوسطة – مُخبَّئون في مدارس داخلية على طراز القرن العشرين – وهذا جعله يبدو خبيرًا بالحياة. مع ذلك، لم أكن أنا صغيرة. فقد بدأت ثديايَّ يتدليان، لكنني كنت لا أزال أنام مع دماي المحشوة.
كان أستاذ القانون شابًا في يومٍ ما، ربما كان ماركسيًا. أخبرني أن هناك ثلاثة أنواع فقط من القصص في العالم: قصص حرب يموت فيها الرجل من أجل الشيوعية؛ وقصص حب يموت فيها الرجل من أجل الشيوعية؛ لا أستطيع أن أتذكر ما هو النوع الثالث من القصص.
أعطاني كتاب حكايات خرافية ألمانية ووجدت بداخله صورة بولارويد قديمة: كان يبدو فيها تقريباً في مثل سني، مرتديًا نفس الملابس المتعددة الطبقات المعتدلة التي كان يرتديها دائمًا – قميصٌ بقلنسوة (هودي)، ومعطفٌ بحري، وملابس من قطيفة مخططة. في الصورة، كان في منتصف الجملة وفمه مفتوح، مبتسمًا كما لو كان على وشك قول شيء مُخالف للقواعد. أردتُ أن أركض نحو هذه النسخة منه. فجأة فهمت سبب ثقته الكبيرة بنفسه، أن سحر شبابه بقي في ثقته، وفي طريقته البسيطة في التصرف، وأن هذا كان سبب جاذبيته الجنسية التي لا يمكن تفسيرها بخلاف ذلك. بالنسبة للرجال، يبدو أن التقدم في العمر لا يتعلق كثيرًا بالضمور بقدر ما يتعلق بالتمّييع، عملية تدريجية لتخفيف هوية أساسية ما، ليصبحوا أقل من شيء ما. كان بإمكاني أن أستشعر نبرة رجعية قديمة في صوته حتى وهو يدافع عن الرئيس المسن ويتحدث عن أهمية الديمقراطية، بنفس الطريقة التي كان بإمكاني بها دائماً أن أستشعر أنه كان جذاباً بشكل مفرط في شبابه.لكنني كنت أعلم أن هذا النهج الكاريزمي في التعامل مع الشيخوخة لم ينجح مطلقًا مع النساء.
بعد أشهر من ممارسة الجنس المتقطع والمهين، وافق على أن يأخذني لتناول العشاء. التقيت به في مطعم سيء للستيك في ميدتاون، من ذلك النوع الذي ربما كان أنيقًا قبل نصف قرن. المغزى أننا لن نصادف أي أحد. دخلت من البرد وطويت معطفي الواقي من المطر على ذراعي. كنت أرتدي أحد فساتين جدتي ذات الطابع الريفي التي كانت تطلبها بالبريد، لأن مدربة حياة أسترالية على الإنترنت قالت: "عليكِ أن تُعزّزي أنوثتكِ لتجعلي الرجل يريد أن يعتني بكِ". سلمتني المضيفة إلى النادل، وسلمني النادل إلى أستاذ القانون. سأل بعد وصول أطباقنا الرئيسية. كنت في الكأس الثالثة من النبيذ.
- هل كنت تعلمين أن جي. دي. سالينجر وجويس ماينارد لم يمارسا الجنس المهبلي قط؟
قلت:
- أعتقد أنني سمعت عن هذا.
أخبرني: "لم يكن يريد أن يفسد كمال جمالها الشبابي".
فأجبت:
- إذن كانت فقط تمص قضيبه؟
أخذت قضمة من شريحة اللحم المطاطية وبصقتها في منديل قماشي.
سأل:
ما خطبك؟
قلت له:
- لا شيء خطأ بي. يبدو لي الأمر مجرد إهدار لخصوبة فتاة مراهقة.
شعرت بأنني أزداد عمراً في وجوده، أتمّيع، عملة شبابي تنهار. دون أن أستأذن، وقفت من على الطاولة وتجولت في المطعم كطفل حتى أرشدني أحد ماإلى الحمام .
جلست في الحمامات أحدق في شاشة هاتفي المكسورة. عندما مررت بإصبعي لأسفل، أحدثت شظايا زجاجية صغيرة جروحًا صغيرة في أصابعي. فتحت إنستجرام وانتظرت تحميل الإعلانات بين الصور المتلاشية لأشخاص لم أعد أعرفهم، وهم يتناولون الطعام في مطاعم أو يحضرون حفلات زفاف أو "ينفصلون بوعي". بدا المحتوى الممول أكثر واقعية من صور معارفي القدامى، الذين بدوا كإعلانات عن أنفسهم، الذين بدوا كإعلانات لأنفسهم، ولثروات الأجيال القادمة، ولصناعة الطب النفسي الأمريكية، وللإيجابية الجنسية.
أعددت قائمة في رأسي بأشياء أردتها: أردت أن أقابل شخصًا جديدًا. أردت عصا هيتاتشي السحرية ورجلاً يربطني بالسرير ويتركني أمارس العادة السرية حتى أموت. أردت كل منتج رأيته في إعلان.
أرسل لي أستاذ القانون رسالة نصية: "لا تعودي من الحمام. لقد دخل للتو شخص من قسمي."
شعرت بطبقة رقيقة من الشفقة على الذات تغطيني كجلد ثانٍ. أصبحت هذه الأنواع من الإهانات الطقسية جزءًا من روتيني. فتحت تويتر.
عندما خرجتُ من الحمام، رأيتُ أنني كنتُ أبكي، وأن دموعي قد خففت من مكياجي، وجعلته مثل عين دخانية أنيقة.
في شقته في الجانب الغربي العلوي من مانهاتن، مارسنا الجنس بشكل آلي. كنت في حالة سكر لدرجة أنني خاطرت بتوجيه يده إلى حلقي، لكنه تركها هناك بتراخٍ. كان من جيل مختلف. لم ينشأ على النوع المناسب من المواد الإباحية. على الأرجح لم يخطر بباله أنني أرغب في الاختناق لا القتل. شعرت بالغربة والوحدة بعد ذلك، وبدا وكأنه يتوق إلى زوجته.
استيقظت وأنا في حالة ضبابية، غير قادرة على تحديد الغرفة البيضاء المعقمة. لم أفهم أبداً لماذا كان أستاذ القانون يمتلك هذه الحياة الكاملة (زوجة، وأطفال، وعشيقة، ومهنة) ومع ذلك كان بيته مثل مستشفى. كل شيء كان مخزنًا في خزائن بيضاء لامعة – حتى كتبه كانت بعيدة عن الأنظار في حاوية ما. ربما كانت هذه طريقة معاصرة للإعلان عن الثراء: أن تظهر كما لو أنك لا تملك شيئًا.
استلقيت على ظهري في سرير أستاذ القانون متظاهرة بالنوم، باقية بلا حراك، لا أشعر بأي ألم، أحاول أن أقرر ما إذا كنت سأستحم قبل أن يدنسني مرة أخرى أم بعدها. تذكرت الليلة السابقة، كيف انقلب على جانبه وأمسك بهاتفه بمجرد أن انتهى، وكيف أنه بالكاد نظر إلي. صحيح أن جسدي مثالي من الناحية الشكلية، لكنني يائسة في الجنس ومحافظة في السر. عادةً ما أستلقي بلا حركة وأدرس البقع على السقف، آمله أن يشعر الرجل بالإطراء بسبب سلبيتي.
من خلف جفني، أمكنني رؤية هيئة أستاذ القانون الباهتة، منحنيًا على كرسيه المريح يقرأ من كتاب عن هتلر. مددت يدي بهدوء نحو هاتفي. كان يحب الهدوء في الصباح. كان إصبعي ينزف من التمرير على الشاشة المكسورة. كانت هناك لطخات دم صغيرة على غطاء وسادة أستاذ القانون. تساءلت إن كان أحد سيلاحظها: زوجته، مدبرة منزله، أي أحد. مصصت إبهامي حتى نظف. تذوقت مقابض الأبواب.
بدأت في الرد على بعض الرسائل النصية ثم توقفت، مددت يدي إلى حقيبتي على الأرض، ونبشت فيها بحثًا عن وعاء مصل للبشرة مكتوب على ملصقه "إعادة الـعـمـر للـخـلـف".
قال أستاذ القانون دون أن يرفع نظره عن كتاب هتلر: "ابقِ في السرير. أحبك كثيراً عندما تكونين نائمة."
خارج المبنى الحجري البني، كان الصباح أبيض قذرًا وباردًا.
***
........................
* مقتطف من رواية "الأرض المسطحة" لأنيكا جايد ليفي. ليفي كاتبة من كولورادو. وهي محررة مؤسسة لمجلة "فوريفر" وتدرِّس في برنامج الكتابة بمعهد برات. وقد نُشِرَت أعمالها القصصية والنقدية في مجلة "إنترفيو"، و"نايلون"، و"فلاونت"، و"غراند"، وغيرها. وتعد "الأرض المسطحة" روايتها الأولى.






