ترجمات أدبية

ريبيكا روث غولد: حينما تكونين مسنة

لم ترغب تريزا بالرحيل. كان لديها ما يقلقها، فهي تشرد كثيرا. وفضلت أن تستسلم لألمها، وأن تعتاد على جراحها القسرية. ولذلك حينما أيقظتها بياتريس، جارتها المسنة، بعد منتصف الليل بقليل، لأجل الاحتفال بعيد الفصح وتقاسم بيضة مسلوقة حمراء بلون الدم، كانت بنفس الوقت منزعجة ومحتارة. وقالت لنفسها: أي نوع من البشر يطرق باب جيرانه في منتصف الليل لتقاسم بيضة؟.

ولكن أخبرتها بياتريس أن ابنها يريد أن يكون دليلها في رحلة تتعرف بها على تبليسي القديمة، وعلى تاريخ وثقافة المدينة التي ولد وترعرع فيها. وافقت تيريزا دون أن يخامرها الشعور بالراحة. وحذرت جارتها بقولها: "للأسف أنا متوجهة غدا إلى أمريكا. ولذلك علينا أن ننهي الجولة بوقت مبكر".

شدت بياتريس على يد تيريزا قبل أن تفترق عنها في تلك الليلة، وغمزت بمكر، وأصرت أن تأخذ بيضة أخرى قائلة: "لن أكون موجودة معك في ذلك اليوم". وأضافت وهي تتهيأ للمغادرة: "ولكنك ستستمتعين مع إيريكلي*".

قبعت تيريزا، طيلة ذلك الشهر، في شقتها تفكر. وغالبا حول رجل لم تقابله، ولكنها تعرفه أكثر من روحها. فهما يشتركان بحب الأشياء النادرة، ومنها النقش العربي، والكتابة الفارسية. وعلاوة على ذلك يتقاسمان الخبرة بالخطب الغريبة التي تبشر وتنشر الأفكار. استعان التجار السغديون من آسيا الوسطى، في وقت مبكر، بمخطوطات عربية، مدونة بخط اليد المصمم خصيصا لهذه الغاية. وكتب هؤلاء التجار، الذين لا يعرف أحد كيف يقرأ خطهم، بحبر الكوبالت الأزرق، واستعملوا خطوطا مقوسة غير منقطة، كما لو أنهم يقولون إن ماضيهم لا يمكن أن تتغلب عليه فتوحات الإسلام الجديد. وأن المحاولات الرسمية لقراءة هذه الكتابات باعتماد لغات ليست إيرانية، مثل اليعقوبية والغورية، قد أفلست. ومع أن أحدا على قيد الحياة لم يمكنه أن يفك لغز لغتهم، نجحت تيريزا، بالتعاون مع عالم فيلولوجيا، بتفسير أحد أصعب المخطوطات. ولكن بقي العديد من المخطوطات بدون تفسير. وبسبب هذه المخطوطات الغامضة، والتي لا يفهمها غيرهما، وخلال العمل المشترك والبطيء والعاطفي، وقعت بالحب. أو على وجه أدق دفعها لتقع بحبه. غير أنه لم يذكر لها أنه يبادلها الحب. وكان هناك احتمال بحبه لها. ويستحيل أن لا ترى مثل هذا الاحتمال. كيف يمكنهما الافتتان بالمخطوطات بدون حب مشترك؟. كلما أكملت العمل على ورقة معه، كانت تشعر بالنشوة العضوية والسرية. ولم يكن يقاسمهما هذه الخبرة العلمية أي إنسان آخر. ومنذ بداية صحبتهما، وحتى قبل الاسترسال بالكلام، لاحظت أنه مقدر عليها أن تسقط بحب هذا اللغوي، ولذلك لم تكن مستعدة للصدمة حينما فاجأتها. كانت علاقتهما عائمة وقلقة - وقد تطورت خلال شهور من تبادل الإيميلات، أو شهور من العواطف الإلكترونية الحميمة التي تخللها عتاب صامت. وكان موضوع الرسائل أسئلة عن لغة لا يعرفها ولا يفهمها أحد، حتى لو ذاعت معانيها. وخلالها استمتعا بأشعار حافظ وسعدي، ووقد ورد ذكر الاثنين في مخطوطات التجار السغديين. أحيانا كان التجار يضمنون كتاباتهم مقتطفات منتقاة من المؤلفات الفارسية الكلاسيكية الأصيلة. وفي بقية الأوقات، يترجمون القصائد إلى لهجاتهم، ليضاعفوا من الألسن الكثيرة المودعة في المخطوطات القديمة. ولم يكن يفهم أحد هذه اللغات مثله. ولهذا السبب أغرمت به. وتقريبا طيلة شهر، وعلى مدار اليوم، تابعت تيريزا تبادل الرسائل مع الفيلولوجي. وانصب اهتمامهما على تكوين أرشيف ليكون قاعدة معلومات. ولتوفير وقت الجيل التالي من الباحثين. وقويت العلاقة بينهما كلما أمكنهما فك قليل من الألغاز. وكانت تيريزا والفيلولوجي يتبادلان المخطوطات إلكترونيا، مع أمور أخرى، وركزت تيريزا على مواد مسحتها في زيارة علمية سابقة إلى بامريس على الطرف الطاجيكي من الحدود (فقد كانت أفغانستان بحالة حرب في عام 2008). وقارنا الاختلافات. وتبادلا الرأي حول القراءة المرجحة، وعن سبب الاختلاف بين النصوص والمخطوطات والخطوط والتصورات. ودشنا عصرا جديدا، وسافرا عبر الأزمنة بقدر ما يمكن للفيلولوجي أن يسافر في الزمن، وللمخطوطات أن تعبر من بين الجبال قبل اكتشاف الإنترنت. وهكذا عاشت تيريزا والفيلولوجي بين النصوص الإسلامية، والتي تحولت إلى موضوع علاقة بينهما، وإلى ركيزة لحبهما. ثم بعد أربع شهور من الصداقة ألقى قنبلة. فقد كتب لها رسالة أقصر من المعتاد ورد فيها: أن زوجته "وضعت طفلها للتو". ومرت الأسابيع دون أن ترد. وكان أسوأ ما في المسألة أنه على ما يبدو لم يكن يعلم ماذا يعني لها. حتى أنها لا تعرف أنه متزوج. فقد خصت نفسها به، وبالرسائل الإلكترونية، ولم يتبادر لذهنها أن تفكر بعلاقاته مع غيرها من النساء.

وبدأت رسالته التالية بقوله: "ألن تباركي لي بالمولود؟".

لم يمكنها تهنئته. طفل؟ لم تكن تعلم أن لديه زوجة. أم أنها لم تكن تريد أن تعلم؟ في الحقيقة هي لم تسأله أبدا. القنبلة التي فجرها الفيلولوجي أثبتت لها واحدة من قناعاتها الثابتة: بالتأكيد يفصل الرجال اللامعون عواطفهم الذهنية عن جوعهم الجسماني. النساء ترغبن برجال أذكياء وحذرين عاطفيا. لكن يختار الرجال تفكيرا آخر. وبنظرهم لا يوجد فرق بين النساء. وهن مشغولات بالمهنة مقابل العائلة. أو العاطفة مقابل العقل. مادونا مقابل العاهرة. والرجال يهتمون باستمناء أناهم، وليس بالمساواة العقلية. وكلما كانوا أذكى كلما تدنى مستواهم. لم ترد تيريزا على تلك الرسالة. بالتأكيد لم يكن بحاجة لتهنئتها. ولكنها ردت بمقال علمي عن تدني مستوى المرأة في البلاط الساماني. نعم، توجد استثناءات رمزية، الملكات، وخلفيات شهرزاد (وبالعادة لا تلقى الاعتبار)، والعاهرات، والمحظيات، والقيان. كانت العاهرات والقيان تؤثرن بالحكام بطرق سرية. ولكن أقوى ما في مقالتها أنه من السهل إثباتها. حتى النساء القادرات يمكنهن استعمال سلطتهن في الخفاء. النساء السامانيات لسن مثقفات مشهورات ولا تقبضن على العالم بين راحاتهن. وكانت أجسادهن مجرد سلم لرجال يبحثن عن حكم العالم. والآن ها هي علاقتها الغرامية غير المفهومة مع الفيلولوجي تنتهي قبل أن تبدأ. وقد وعدت تيريزا نفسها أن تغتنم وقتها في تبليسي. وفكرت أن تبدأ ببرنامج بحث جديد، وأن تنسى مخطوطات التجار السغديين، وأن تضعها في منطقة خلفية مظلمة من دماغها، وفي مكان لن تعود إليه قبل مرور عشرين عاما. ولكن ثبت لها أن النسيان أصعب مما راهنت عليه. وكان الأسهل لها أن تعتاد بالتدريج على الألم، وأن تتعايش معه بشكل دائم. وعوضا عن أن تذهب إلى الأرشيف كما خططت حال وصولها إلى تبليسي، كي تفك واحدا من المخطوطات التي عملت عليها بالتعاون مع الفيلولوجي، الذي ألقى قنبلته، وجدت نفسها في الفراش، ويوما بإثر آخر تخيلت نفسها تقرأ مخطوطات مع الفيلولوجي في السرير، وجسماهما متلاصقان وهما يقلبان الصفحات، ويمران على صفحة مخطوطة أكلتها الديدان، ويحومان فوق شعار نسخ جف حبره، ويحاولان فهم خط التاجر السغيدي، قبل ترجمته ونشره في العالم.

لم ترغب تيريزا بمشاهدة تبليسي القديمة. ووافقت على مرافقة إيراكلي فقط لأنها تعلم أن هذا يفيدها، ويمنحها فرصة للتهرب من الرجل الذي لن تتعرف عليه بلحمه ودمه، ومن علاقتهما الافتراضية والملتهبة بالعواطف، ومن اللغات التي وضعا لها الأساس معا، لغات، لا تزال بعد شهور من صمته، تنشب مخالبها في أعماق روحها. لم يكن لدى إيراكلي سيارة. ولسبب ما، كانت تتوقع أن يقودها إلى قمة ناريكالا، وهو حصن في تبليسي القديمة. ولا بد أنها أساءت فهم اقتراح بياتريس. فقد سارا في زقاق روستافيلي، وتجاوزا المقاهي ومنصات بيع المثلجات، ثم الهلتون، وعبرا الممرات من تحت سقف أحمر لأكبر مسرح في تبليسي، والذي يحمل اسم الشاعر القروسطي، روستافيلي. ولاحظا أنه تم ترميمه مؤخرا، وجدرانه المقلمة بلون خبز الزنجبيل تلمع تحت الشمس. كانت أسواق تبليسي الرئيسية تضج ببائعي الكتب والتجار. وأخيرا وصلا إلى مقر العمدة بجدرانه المطلية بلون أحمر. كان يوما حارا بالنسبة لمنتصف أيار. وندمت تيريزا لأنها لم تحمل معها عبوة ماء. اعتذر إيراكلي بأنه لا يتكلم الإنكليزية. أصرت تيريزا: أنه ليس هناك ما يستحق الاعتذار. فالإنكليزية لغة لا ترغب أن تتكلم بها. وهي اللغة التي وجد حبها للفيلولوجي جذورا عميقة، دون الأخذ بعين الاعتبار الألسن العديدة التي يشتركان بها. لكن كانت الروسية إحدى اللغات القليلة التي لا يتقاسمان معرفتها. ولذلك رأت أنها تصلح لتكون وسيلة لبدء حياة جديدة. اللغة الثانية التي لا يتقاسمانها هي الجورجية. والتنقل بين الروسية والجورجية مع إيراكلي، دليلها المتطوع لتعريفها بتماثيل تبليسي القديمة، أصبح طريقة للعزاء، وألهاها عن الشعور بأنها مهجورة. خرجا من زقاق روستافيلي. رافق إيراكلي تيريزا في المعابر القروسطية والممرات المعتمة طيلة الطريق من ساحة الحرية إلى ناريكالا، التي تجثم على قمة هضبة تشرف على المدينة. وشرح لها كيف كانت تناور، في القرون الماضية، عربات الأغنياء وزحافات الفقراء في المنافذ وخلال المعابر. ثم بدل القياصرة هذه الشوارع أولا، وتبعهم السوفييت، وحولوا الفنادق الضخمة إلى شقق للسكن، ووسعوا الممرات الضيقة، وأضافوا مضخات. ولكن بقي الكثير كما هو منذ عهد القياصرة أو حتى ما قبله. لم تهتم بالكنائس كثيرا، ولكن أدهشتها المياه الكبريتية في أبانوتوباني (في منطقة باث). فهي تعود بتاريخها إلى القرن السابع، وتعزى للملك هرقل، وقد أعيد تنظيمها في القرن السادس عشر على يد تجار تبليسي الفرس والأرمن والأذر، والذين حاولوا تحسين سمعتهم بإثبات حبهم لمدينتهم المختارة. وحاليا هذه الحمامات واحدة من أعظم المعالم الهندسية الفارسية المدهشة في مدينة تبليسي. على الطرف المقابل من الشارع كنيسة ميتيخي القديمة، والتي ضحى بقربها الشهيد إيبو من تبليسي بحياته في القرن الثامن لأنه رفض اعتناق الإسلام. وكان إيبو هو القديس العربي الوحيد في البانثيون الجورجي. على يمين الحمامات الكبريتية، تحوم ما يشبه المآذن فوق الحمام الأزرق. وهي مدهشة أكثر من المساجد التي تزين المخطوطات المصورة الرائعة التي عمل عليها الفيلولوجي وتيريزا معا. الرخام الأزرق والذهبي يغطي جدران الحمام الأزرق الذي يعود تاريخه لعصر ساده السلام بين مختلف الأديان، واللغات، والأعراق: ضمنا المسلمون والمسيحيون والأرمن والجورجيون والأذريون. لكن انتهت تلك الفترة منذ زمن بعيد، حتى لو أن هذه الآثار قادرة على تحريك مشاعر نوستالجية تحن للأزمنة المنصرمة. في تلك الأيام الخالية، حينما كانت تبليسي لا تزال مفترق طرق للحضارات الشرقية، كان المستحمون يهتمون فقط بدعك أجسامهم بالصابون، وأن ينظفوا أنفسهم من الأوشاب المتراكمة على جلودهم، ليتمكنوا من العودة إلى الشارع، وليبيعوا ويتاجروا ببضاعاتهم مع تجار آخرين من تبليسي القديمة. ولكن الآن وبالمقابل لم يتمكن إراكلي، دليلها المتطوع، أن يمنع نفسه من تقديم ملاحظات يتهكم بها على تدفق الأفارقة والإيرانيين الحالي في تبليسي. وكما يبدو يشكل هؤلاء الأجانب خطرا على سلامة وبقاء الشعب الجورجي. لكل بلد عيوبه، قالت تريزا لنفسها، ولكن كيف تنتعش مفارقات العنصرية هنا، من بين جميع الأماكن، في تبليسي القديمة، مع أنها كانت تعتبر لفترة طويلة نموذجا مثاليا للتسامح، على الأقل بنظر إراكلي نفسه.

تبعت تيريزا إيراكلي عن مقربة، وتسلقت السلالم إلى ناريكالا. كان الحصن القديم بشكل أنقاض، والكتابات تملأ الجدران بعدة لغات، مثل ماضي تبليسي تماما. بنى حصن ناريكالا الجورجيون، وسموه على سبيل التفاؤل شوريستسيخي (الحصن الذي لا يقهر)، ولكن سريعا ما استولى عليه الأمويون، ثم المغول، وهم من أطلق عليه اسم نارينكالا (الحصن الصغير)، وفي هذا التصغير رسالة تعبر عن قوة إمبراطوريتهم. وحينما خرج المغول من جورجيا في القرن الثالث عشر، أزيلت النون بين حرفي ناري وكالا. وهكذا أصبح الاسم: ناريكالا، وهي كلمة من بين العديد من الكلمات التي جاءت إلى اللغة الجورجية من الشرق، ولا يعرف معناها الأصلي غير حفنة قليلة من الجورجيين المعاصرين. هلكت تيريزا بعد أن صعدت نصف السلالم. ولكنها تسترت على تعبها باستنشاق الهواء. واشتاقت للعودة إلى البيت. وألح عليها الألم الناجم عن ما اكتشفته عن الفيلولوجي وموقفه الصامت منها. كيف يمكنها أن تنظر إلى مخطوط آخر من بين مخطوطات السغديين؟. كيف يمكنها متابعة عملها، بعد رحيل الفيلولوجي عن حياتها، وبعد أن أصبحت تبعيته لامرأة أخرى وولادة طفله خبرا عاما؟. الآن لا تستطيع أن تسمي عاطفتهما الافتراضية باسم آخر؟. وهي منهمكة بالتفكير في المخطوط الذي حلت لغزه مع الفيلولوجي، وجدت رخامة مغطاة بالذهب تشبه الألواح المغطاة في واجهة الحمام الأزرق. تأملها إراكلي بصمت وهي تنحني لتلتقطه. ونصحها بقوله: "احتفظي بها. قد تجلب لك الحظ".

ابتسمت تيريزا. نقرت على الرخامة بأصابعها، وقلبتها على طرفها. وامتثلت لنصيحة إراكلي، فوضعت اللوح في حقيبتها. تجولا في شارع ليسليج في طريق العودة إلى البيت. في تلك الساعة من بواكير المساء، كان ليسليج يعج بالوافدين وبأبناء جورجيا الذين اعتادوا على الرحلات والسفر، فامتزجت اللغة الإنكليزية المكسورة باللسان الجورجي الثاقب، وتخللت ذلك حروف صامتة لا يستطيع نطقها غير المواطنين. وأمكن سماع همهمة روسية تأتي من عدد من المارة. دعا إراكلي تيريزا للتوقف في مطعم يسمى سوكو (الفطر). كان سوكو تحت الأرض ومعزولا عن الزحام. والجو داخله هادئ وتقريبا مهجور، باستثناء طالب جامعة أجنبي يجلس بمفرده قرب الجدار، منحنيا على كومبيوتر محمول. وشاهدت جورجيتين بأواسط العمر تتبادلان الشكاية من خيانة زوجيهما. ومثل أي مضيف جورجي مثالي أصر إراكلي أن يدفع عن تيريزا ثمن كل صنوف الخاشابوري التي وفرها المطعم: أجارولي (مع بيضة)، أميرولي (مغمورة بالجبنة)، أوسوري (مع البطاطا)، وأشما (بطبقات مثل الكيك)، ويفانوري (لمحبي اللحوم). وطلب أيضا لوبيو (الفاصولياء الحمراء)، بيخالي (أعشاب جورجية)، وبادريجاني (الباذنجان مع حبات الرمان)، وأطباقا متعددة من الخبز المخبوز حديثا في فرن تحت الأرض، وجبنة. اقترح أيضا النبيذ، ولكنها فضلت الليمون مع الطرخون، وهو شراب جورجي خاص. كان إراكلي محبا للكلام. ولكنه لم يكن مهتما إذا ما كان المستمع له يتابع كلامه، وهذا لحسن حظ تيريزا. كان صوته كافيا. بينما ذهب ذهن تيريزا إلى مكان آخر - أو بالأحرى إلى شخص آخر. وحينما انتبهت له، لتترجم أحيانا لغته الروسية والجورجية في رأسها إلى لغة إنكليزية، علمت أشياء كثيرة. عدد إراكلي كل الكتب التي قرأها في طفولته، ومفارقات حياته في الاتحاد السوفياتي، حيث كان كل شيء جامدا لحين بلوغه نهايته، وحيث كان الأدب مراقبا وممنوعا ومكبوتا، وله لغة مفروضة بالإكراه. ثم انتقل الكلام إلى الشعر. وذكر إراكلي أنه معجب بكل إنسان يمكنه كتابة قصيدة. وقال: "من دون شعرائنا لن يكون لجورجيا قيمة".

كما لو أن تيريزا تنتظر الإشارة، أنشدت القصائد الستة من العصر الروسي الفضي والتي تحفظها عن ظهر قلب، ابتداء من ماندلشتام وأخماتوفا، وحتى باسترناك. أومأ إراكلي باهتمام، وشعرت تيريزا أن حبها للكلمة المكتوبة يلقى التقدير. وحينها سألت نفسها: هل انتبه الفيلولوجي إلى حبها للشعر؟. لقد حلا ألغاز مخطوط، وصنعا معا لغة. ولكنه تخلى عنها بسهولة، كأنه يفرقع أصابعه، أو يلطم ذبابة. جعلها رفضه السهل تشعر كما لو أنها حشرة. هل كانت أم طفله تعرف شيئا عن المخطوطات التي عملا عليها، ناهيك عن المخطوطات التي حلا ألغازها؟.

قال إراكلي بعد صمت قصير "جميل". وأضاف: "بالنسبة لي أنا عاشق للنثر". ثم ذكر روايتين من التجاه الواقعي الاشتراكي، قرأهما في طفولته، وهما الدون الهادئ، وكيف سقينا الفولاذ. قرأ النصين في المدرسة. وكانا عن تقريظ التجربة السوفييتية بدون أي انتقاد. ولا سيما المشاعية (سياسة سوفييتية تفرض على الملاك أن يتخلوا عن بيوتهم)، وأن تأوي شقق البلدية عدة عائلات معا، ويتشاركوا فيها على المطبخ والحمامات. ولكنه حينما حمل الروايتين معه إلى بيته، ليقرأهما بضوء الشمعة بينما بقية العالم يغط في النوم، اكتشف المعنى المستتر في كل نص. ورغم نوايا السرد الصادقة والحض على الالتزام بخط الحزب، انتبه كل كاتب واقعي اشتراكي للرعب المزمن من المشاعية وحياة الجماعة. وأصبح من المستحيل أن يتوصل إراكلي من مجمل الروايات السوفييتية للرسائل التي تعلم في المدرسة كيف يؤمن بها. وختم إراكلي كلامه أن المفارقة ليست في إنتاج العديد من هذه النصوص في الاتحاد السوفياتي، ولكن في نظام التعليم السوفياتي الذي استغل العديد من تلك الكتب الرصينة والشجاعة لتكون مادة إيديولوجية تتعالى عليها حتى تلك النصوص ذاتها. كان المطر يطرق على السطح حينما غادر إيراكلي وتيريزا المطعم. مرا بعدة أبنية قبل أن يتوقفا تحت مدخل حجري لكنيسة فرنسية كاثوليكية. وحسب اللوحة المثبتة على يمين المدخل أنشئت الكنيسة عام 1802، في بواكير سنوات الحكم الروسي، قبل أن يتسنى للنظام الكولونيالي إقامة المباني للاحتفال بمذهبهم. والآن بعد مرور قرنين، لا تزال بحالة ممتازة وهذا يعني أن أحدا ما دفع لقاء العناية بها وترميمها. قالت تيريزا لنفسها: نظام جورجيا المعفي من إذن الدخول يجني الثمار. كان إراكلي محبا للكلام. ويمكنه أن يتكلم بلا توقف سواء كان الموضوع في السياسة، أو الاقتصاد، أو المستقبل. ما دام موضوع الحوار الأساسي عن جورجيا. ولم تمانع تيريزا ذلاقته. بالعكس كانت ممتنة لذلك: فقد منحها عذرا لتلزم الصمت. فكرت في سرها: كنت أتمنى لو أنك الفيلولوجي. ولكنه كما تبين لها الآن هو زوج وأب، ولن تواصل معه حل شفرة مخطوطات التاجر السغدي، ولذلك اختصرته في خيالها ليكون رمزا لنفسه، ولغزا بأسلوب حياته مع النصوص، وأن يكون هو نصا بذاته. كان الفيلولوجي نصا، نصا أثارها، وآذاها أكثر من أي إنسان آخر يممنه إلحاق الأذى. ومع أنه ذلق اللسان ومكشوف، كانت تعوزه الروح الإنسانية. لم يكن يرغب بها لا بشكل نص ولا كإنسانة كما كانت ترغب به. ومع أنه طيف لم تقابله، أرادت أن تكون معه أكثر من أي شخص آخر على وجه الأرض. ولم تجد بديلا يعوض غيابه. كررت تيريزا في سرها: كم أريد أن تكون أنت الفيلولوجي الذي أحببته، بينما كان إراكلي يتابع الارتجال عن تاريخ جورجيا.

بينما كانت تيريزا منهمكة بالتفكير في الفيلولوجي، أدركت أن شريكها الجديد يحمل اسم الملك الجورجي قبل الأخير إيراكلي II الذي سلم، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، بلده للروس، تحت ضغط هائل. وواجه خيارا مستحيلا، أن يشاهد محبوبته تبليسي تنهب مع بقية جورجيا على يد الحاكم القاجاري أغا محمد خان أو يحكمها الروس، ومال الملك إيراكلي للخيار الأخير. وخلال عقود تالية، كتب عدد لا يحصى من شعراء جورجيا عن هذا القرار القاتل قصائد غاضبة. ومات نيكولوز باراتاشفيلي الشاعر الرومنسي بعد فترة وجيزة من نظم أهم قصيدة مشهورة له عن مصير جورجيا المأساوي. وهي بعنوان مصير جورجيا Bedi kartlisa . بعد أن وضع إراكلي جورجيا تحت الحماية الروسية عام 1795، نهب الغزاة القاجاريون البلد وسوي بالأرض، كما كان يخشى. مع أنه كان يأمل تجنب هذه النتيجة بضم جورجيا لروسيا. فقد وعدت الدولة الكولونيالية بعقود من المعونات إذا غزاها القاجاريون، لكن حينما وقع الغزو، لم يحضر الجيش الروسي. وأدرك إراكلي من هذه التجربة المريرة أنه تخلى عن سيادة بلده بالمجان. وكانت خيانة الروس عظة في تاريخ جورجيا، وهي عظة حية حتى الوقت الراهن، وهكذا سمّمَت العلاقات بين البلدين. خفف المطر سرعتهما. وكان حفيف تنورة تيريزا منقوعا بالماء ولكنها لم تلاحظ ذلك. تابع إيراكلي حكايته عن الماضي. واستدعى بذهنه كل شيء تعلمه في المدرسة الابتدائية، وهما يقفان أمام البوابات الحديدية قبالة الكنيسة. مرت بهما نساء، وكانت تنوراتهن السوداء المصنوعة من الكاليك مبتلة بالماء. والدلاء التي حملنها مغطاة بقماش مبلول. وقطرات الماء تنقط من رؤوسهن على الأرض. رجع إراكلي بذاكرته إلى الوراء، وتجاوز الصفويين والمغول واقترب من العصر الجورجي القروسطي. وقال لها: " كان هذا العصر الذهبي لجورجيا". وتلكأ حينما بلغ عصر المعمار دافيد، والملكة تامارا. وأخيرا وصل إيراكلي إلى الحدود الفاصلة بين التاريخ والأسطورة، وبدأ بأسطورة ميديا. توقفت نبرة سرد التاريخ الموضوعي وأصبحت أقرب لشخصه. وحسب النسخة الجورجية للأسطورة، كانت ميديا من كولخيس الواقعة في غرب جورجيا. قال: "العديد من البنات الجورجيات حملن اسم المرأة الغامضة التي قتلت أبناءها".

سألت تيريزا: "وهل يعتقد الناس أن قتلها لأبنائها عمل مشرف؟".

"هي حية في ذاكرتهم لأنها رفضت أن يعيش أبناؤها في ظل عار فعلة أبيهم الذي خان أمهم وتزوج من غيرها".

حافظت تيريزا على صمتها. لم توافق على الحسابات الأخلاقية التي بلورت قرار ميديا، ولم توافق أن تقتل أم أبناءها كي لا تقبل مهانة الخيانة الزوجية. وتساءلت: ألا يكون العالم أفضل إذا نام كل إنسان مع من يريد؟. ما الهدف من كل هذا الخزي؟. وعلى ما يبدو أن إراكلي شعر بتلبكها من إجابته. فأضاف: "حين تفكرين بالموضوع، وتنظرين له على أساس إنساني لن تري أنها امرأة عظيمة".

وافقت تيريزا بقولها: "كلا. الموضوع ليس في أنها طيبة أو شريرة. فمعاناتها مشتركة بين كل النساء".

احتار إراكلي. بأقل من دقيقة انتقلت تيريزا من الحنق على سلوك ميديا إلى التماهي معها. ولم يعد يعلم ما هي الإجابة الصحيحة. كان يريد فقط أن يعطيها جوابا يسعدها. سألها وهو خائف من استفزازها بسؤال لا يعرف ماذا يقول غيره: "أنت إذا تؤيدين ميديا؟".

ابتسمت تيريزا قائلة: "أنا أتعاطف مع كل النساء اللواتي تعانين من الغيرة".

ارتبك إراكلي وضغط على ذهنه ليجد جوابا يسرها. بعد صمت طويل، استسلم، وقرر ببساطة أن يعبر عن رأيه. قال: "أعتقد أن على ميديا أن تضحي طوعا بحبها مقابل سعادة أبنائها".

تحمست تيريزا للنقاش. وأرادت أن تعارضه فقط للدخول في حوار. أي شيء ينسيها فجيعتها بالفيلولوجي. قالت: "من السهل أن تعتقد أن المرأة جاهزة لأي شيء كي تنتقم".

تابع إراكلي التحديق. تساءل: ماذا يدفعها للكلام بهذه الطريقة؟. تبع ذلك صمت طويل. وخلاله كان المطر يطرق بقوة على المظلات المعدنية فوق رأسيهما. وسال الماء على الرصيف. ورش ولد صغير الماء من بركة ماء مطر حتى نادت أمه باسمه، وجرته من يده.

ثم قالت تيريزا لتنهي الصمت: "إراكلي. هل وقعت بالحب؟".

أغمض إراكلي عينيه وابتسم ابتسامة باهتة. وقال: "نعم. مرة قبل وقت طويل وقعت بحب فتاة. ذلك عام 1991، قبل تفكك الاتحاد السوفياتي مباشرة. هبطنا إلى القاع، وفقدنا نقودنا كلها. لم يعد للنقود الرسمية قيمة. وفقد معظم أصدقائي أعمالهم. وآخرون لم يحصلوا على رواتبهم. فالشركات التي يعملون فيها أفلست. والعديد من المعارف ماتوا من الجوع، وآخرون أصيبوا بأمراض القلب. وشعروا أنهم بدون مستقبل، ولم يبق شيء ليعيشوا في سبيله. وخلال تلك السنوات الصعبة، حصلت الفتاة التي أحببتها على الفرصة للسفر إلى أمريكا. دعاها أبناء عمها من نيويورك لتعيش معهم. فغادرت ولم ترجع. ولم أشاهدها ثانية".

سألت تيريزا: "هل كانت تحبك؟".

"لماذا تسألين؟".

كانت تيريزا لا تزال تفكر بالفيلولوجي. وقارنت خيبة أمل إراكلي بالحب مع كارثتها الشخصية الراهنة. بالتأكيد لم يحببها الفيلولوجي. هل اهتم بها أصلا؟. هل هجرها مثل محبوبة إراكلي، وتحت ظروف مماثلة؟.

 قالت تيريزا: "لا أعلم. فقط سألت نفسي؟".

تابع إراكلي دون أن يجيب على سؤالها: "اتخذت قراري بعد سفرها إلى أمريكا. وقطعت وعدا على نفسي أن أهب

 حياتي لأمي ومساعدتها. كانت بحاجة ماسة لي أكثر من أي امرأة سواها. ومنذ أن سافرت قاتلت أنا وأمي لتجاوز محنة سقوط الاتحاد السوفياتي. في السنوات الأخيرة القليلة تمكنا من تأسيس حياة مريحة مثل الحياة في الفترة السوفييتية. في تلك السنوات احتاجت الوالدة للعمل، ولكنها كانت أولا بحاجة لرعايتي لها. في إحدى المرات وقعت وكسرت ساقها. وأودعت المستشفى لمدة أسبوع، وكنت الشخص الوحيد الذي يزورها. والآن لا تحتاج لي كثيرا. ولكن العادة لا تزول بسهولة. فقد تخليت عن أشكال السعادة الأخرى التي حلمت بها قبل سقوط الاتحاد السوفياتي".

نظرت تيريزا إلى إراكلي. شعرت أنها تراه لأول مرة. كانت لدغة هجران الفيلولوجي لها لا تزال مغروسة في ذاكرتها وتحتل بقية جسمها، ولذلك تخيلت أن لسانها ينطق بكلام إراكلي. قالت بهدوء: "كلانا يئسنا من شريكنا. هل تعلم لماذا ينخفض معدل الولادة جدا بين المثقفين؟. لأنه كلما زادت علوم الإنسان، قل إيمانه بالمستقبل. وأن تنجب الأولاد يعني أن تؤمن حكما بالمستقبل".

بادلها إراكلي النظر، بدون أن يقرر كيف يرد. توقف المطر، ولكنهما تمهلا أمام البوابة، مستغرقين بتأملاتهما. وكان إراكلي البادئ بقطع الصمت. في النهاية قال: "لا تسيئي بي الظن بسبب تشابه الاسم. لم يكن على الملك إراكلي أن يسلم بلده لروسيا. لم يكن من حقه أن يضحي بحياة الآخرين ليحمي نفسه. كان واجبه يحتم عليه أن يموت من أجل وطنه".

قالت تيريزا: "ربما لم يكن يعي ماذا يفعل. وفي هذه الحالة هو مثل كثيرين".

فكر إراكلي. ثم قال: "ربما أنت على حق. ولكنه تسبب بضرر جسيم".

"ليس من العدل أن نحكم على قرارات الناس ما داموا لا يعرفون النتيجة".

لم يرد إراكلي. ثم قال: "من الأفضل أن نعود إلى البيت". ومد يده إلى يدها. كان ذهن تيريزا مشغولا بالفيلولوجي، فوضعت يده في يده بتعاطف فاجأها، كأنه انفجار بركان يعتقد الجميع أنه ساكن.

وقالت وهما في الطريق إلى البيت: "بعد أن ضحيت بكل شيء يا إراكلي. هل أنت نادم؟".

لم يجب. والآن أصبحت تيريزا هي المتكلمة، ولزم إراكلي جانب الصمت.

سارا في الشوارع مسكونين بإرث السوفييت. لافشيليز كوخا. بيسيكيس كوخا. غريبودوفيس كوخا. ييسينينيس كوخا. كل شارع منها يحمل اسما لتكريم أحد الشعراء الذين أنفقوا مرحلة هامة من حياتهم في هذه المدينة، ووضعوا أهم أعمالهم: لاشفيلي، بيسيكي، غيبودوف، ويزنين. العديد من الشعراء مروا في هذه الشوارع قبل اعتقالهم بوقت قصير ونقلوا إلى الغولاغ، أو ما هو أسوأ، وعذبوا وقتلوا. العديد من الشعراء خاطروا بحياتهم، وعائلاتهم، وسعادتهم في سبيل الفن، وليكتبوا القصائد التي يقتنعون بها، ولينطقوا بالحقيقة. كان مصيرهم مقدرا. مرا بلوحة تحمل اسم باولو لاشفيلي، الذي انتحر عام 1937 وهو يتوقع الاعتقال والإعدام، ثم لوحة صديقه المقرب تيسيان تابيدزي، الذي أعدم في نفس العام، بعد إدانته بالتجسس لصالح الولايات المتحدة الأمريكية. وقبل قتله بقليل، أجاب تيسيان بحنكة على طلب المحققين بالكشف عن أسماء شركائه، فقال إنه تعاون مع بيسيكي. ولم يخبر المحققين أن بيسيكي شاعر جورجي من القرن السابع عشر، وآخر صوت فارسي عظيم من عالم يتخلى عن مكانه لعالم آخر بوجه وبيئة ثقافية غربية. نقب المحققون في تبليسي عن الجاسوس الذي سماه الشاعر المتهم، ولكن لم يتمكن أحد من إخبارهم أين يعيش بيسيكي هذا. مات كلا الشاعرين لاشفيلي وتابيدزيه في السنوات التي كتبا فيها أفضل ما لديهم.

سألت تيريزا: "إذا أخطأت ميديا حين ضحت بأبنائها، وأخطأ إراكلي بالتخلي عن بلده، متى يكون الوقت مناسبا للاهتمام بنفسك؟".

أجاب إراكلي: "الوقت المناسب للاهتمام بنفسك حين لا تضر أحدا، وحينما يمكن إلغاء عواقب ما فعلت في اليوم اللاحق". تساءلت تيريزا في سرها، إن كان من الممكن أن تلتحم جسديا بالفيلولوجي مع الالتزام بمعايير إراكلي. وصلا إلى الباحة المشتركة في الشقة التي أقامت فيها تيربزا طيلة الشهر الماضي. كانت أمام بناء في شارع غريبيدوف قرب كونسرفتوار موسيقا تبليسي، وغير بعيد عن الشقة التي عاش فيها تيسيان قبل اعتقاله. وتحول الكونسرفتوار، من مكان إقامة واسع بنته الإدارة الكولونيالية بعد ضم جورجيا لروسيا عام 1801، إلى شقق شعبية تؤوي عشرين عائلة. ويبدو أن لبنائها نفس التاريخ. وبعد مرور عقد ونصف العقد على انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية خطة الإسكان التي وضعها السوفييت، انخفض عدد العائلات المقيمة هناك إلى عشر عائلات. أما بقية سكان البناء فقد ماتوا أو هاجروا إلى أمريكا. دعا إراكلي تيريزا إلى مسكنه في الشقة الشعبية، وكانت على الجانب المقابل لشقتها. كانت بياتريس مسافرة إلى الريف مع ابنة خالتها، ولذلك كانت الشقة جاهزة لهذه الأمسية النادرة، وفارغة من أي إنسان آخر. جلسا معا وهما يشربان الشاي ويتجاذبان أطراف الكلام لعدة دقائق. لم يستغرق الأمر طويلا قبل أن تنتهي المحادثة إلى تقارب من نوع آخر. تسللت يده إلى ركبتها وذكرتها بالطريقة التي قبض بها على ذراعها وهما يشقان طريقهما عبر شوارع تبليسي المنقوعة بالمطر. وخلال تهاود الصوت في المحادثة انحنى قليلا وطبع قبلة على وجنتها. فلم تنفر. وسألته: "هل هذا مسموح؟ ألن تغضب والدتك إذا علمت بالأمر؟".

ابتسم إراكلي قائلا: "سيسعدها ذلك. كانت تقول لي دائما إن كل رجل يحتاج إلى امرأة".

ثم تذكرت تيريزا غمزة بياتريس في ليلة عيد الفصح وهي تلقي باتجاه يدها البيضة الثانية. تساءلت: هل كانت تحاول ترتيب الأمور، ليكون إراكلي بجانبها كما هو الحال الآن، يده في يدي، وشفتاه على صدري؟. حينما التحم جسداهما، كان شعور تيريزا متوقعا كما بدا لها، ولكن على نحو لم تكن تنتظره. من يعتقد أن ممارسة الحب سهل جدا، ويخلو من القلق والتوقعات، ومستقل تماما عن الاحتمال الثاني، ويستغرق بالوقت الحاضر؟. باعتبار أنها لم تقابل الفيلولوجي، كانت بدون أي فكرة دقيقة عن شكله ومظهره. ولذلك كان من السهل أن تتخيل جسمه وكأنه جسم إراكلي النحيل، وهما يستلقيان في السرير معا، ويتنفسان بعمق بعد إنهاك وتوهج الجنس. وتأكدت أن إراكلي رجل طيب، ثرثار قليلا ولكنه ذكي جدا. وقارئ أدب ذكي وحساس. ومع أنه يتكلم كثيرا يحسن الإصغاء. ولكن ليست لديه عبقرية الفيلولوجي في قراءة المخطوطات القديمة، غير أنه يعرف كل الكلاسيكيات السوفييتية: تيسيان ولاشفيلي وحتى الكتاب الروس مثل مندلشتام. وإذا كان لا يلقي الشعر، مع ذلك يصغي له ويفهمه، وهو شيء مهم. ونجح بمقاومة ضغط النفاق الذي يلازم التقدم بالعمر في ظل الأنظمة القمعية. وعلى ما يبدو أنه حافظ على استقامته طيلة الوقت ولم يفقد ميوله وتذوقه للحقيقة. ووقف بوجه الدوغمائية السوفييتية ولم يتورط بكليشيهات التحول الثوري الذي انتشر بعد نهاية الاتحاد السوفياتي. والأهم على الإطلاق أنه يعرف كيف يحب المرأة. وإخلاصه لأمه علامة تؤكد ذلك. كان إراكلي، على خلاف الملك الذي حمل اسمه، لا يخون عائلته ليحمي نفسه. وأنهى علاقاته مع النساء كي لا تكون على حساب مساعدة أمه. وبسبب هذا الكرم المذكور آنفا كانت تيريزا مستعدة للوقوع في حبه لو أنها بظرف مختلف. ولكن الظروف تحكم. ولم يكن مسموحا لها التفكير بما سيأتي بعد اللحظة الراهنة. قبلت تيريزا كل زاوية من جسمه، وكل شق، وطرف، وثقب. كان الشعر يغطي ساقيه كشبكة العنكبوت، ويعكس الأعمدة القرمزية لعروقه الموجودة تحت جلده. أسرت الخطوط خيالها. فلعقتها بلسانها، حتى بلغت أصابع قدميه، فقبلتها برقة. وتساءلت: هل للفيلولوجي شعر أسود، ناعم تحت لمساتها، مثله؟. وعندما لمس إراكلي شفتيها لأول مرة، تخيلت تيريزا أنها تقبل جسم الفيلولوجي، وأن الفيلولوجي يقبلها بالمثل. وكلما زادت حرارة التقبيل، وزادت قوة لمسات يدي إراكلي لها، اختفى الفيلولوجي من وعيها. أصبحت متحدة بجسمها، حتى، فجأة بعد دقائق من ممارسة الحب، أصبح جسمها متحدا بجسم إراكلي. ولخمس دقائق وجيزة، أصبحت تيريزا جزءا متمما لإراكلي ومنفردة به وحدها. اختفى الفيلولوجي. أصبح في كوكب آخر. بسلام. وكان بعيدا مع زوجته ومولوده الجديد. ثم سقطا بالنوم، الأيدي متشابكة، وكل منهما على طرف من السرير.

استيقظت تيريزا باكرا في الصباح التالي. كان موعد رحلة العودة إلى أمريكا قد أزف في ذلك اليوم. ستعود إلى حقول الذرة في آيوا، وتبتعد عن السوفييت وغصات الاتحاد السوفييتي الذي حكم تبليسي. لديها وقت لتحزم أمتعتها. كان إراكلي مستغرقا بالنوم، ولم تود أن توقظه، ولا أن يفكر بنتائج ما قدمه جسد الواحد للآخر. فقد ساعدها على أن تنسى، مؤقتا، الفيلولوجي ومخطوطات التاجر السغيدي. قبلت أصابع قدميه للتعبير عن الامتنان، بنعومة كي لا تقاطع نومه.

كانت تيريزا جاهزة للعودة إلى المخطوطات التي لم تفك ألغازها، حتى لو هذا يعني العودة منفردة. وستنشر نتائج مراسلاتها النهائية، وتشكر الفيلولوجي حيثما يتوجب ذلك، على أن تحترم خروجه السلمي من حياتها. وهذه المنشورات ستضع حجر الأساس لسمعتها ومستقبلها في الفيلولوجيا السغيدية. وبعد ذلك سيكون لها مهنة، مع أنها ليست متأكدة أنها مهتمة بمهنة. وستمتن للفيلولوجي لأنه ساعدها على انطلاقتها العملية، وستتذكر من قلبها الكلمات التي تبادلاها، حتى لو أنها، من حين لآخر، تتمنى لو انتهت الأمور بشكل مختلف، وأنه كان لتقاربهما الافتراضي جانب واقعي. وتذكرت بيت شعر من قصيدة و. ب. ييتس "حينما تكونين مسنة" وطبقتها على نفسها، على حبها الأبدي والتراجيدي الذي لم يهدأ:

أنت تنحنين بجانب

القضبان المتوهجة،

وتهمهمين، بحزن رقيق، كيف هرب

الحب

وسار على الجبال

المرتفعة

وأخفى وجهه بين كواكب

النجوم.

كان إراكلي الآن يشخر، بنومه العميق. قبلته تيريزا للمرة الثانية، على جبينه. وتسللت على رؤوس أصابعها نحو الباب. تابع شخيره. وعندما وصلت المطبخ، فتحت جزدانها وأخرجت الرخامة الذهبية التي سقطت من البرج الذي كان في واجهة حمام تبليسي الأزرق، والتي نصحها إراكلي أن تحتفظ بها لتكون فألا حسنا. الرخامة، كما لاحظت، هشة جدا، ويسهل كسرها. ضربت طرفها على حد كونتور المطبخ، فتحطمت من منتصفها، وقسمت الزهرة الزرقاء والتي لها شكل القلب إلى قسمين. وضعت نصفا في جزدانها، وتركت الثاني وسط الطاولة، وفي مكان فارغ لتتأكد أن إراكلي سيراه. وداعا جورجيا. فكرت بسرها وهي واقفة على العتبة. وداعا جورجيا الأساطير القديمة والحلم السحري. وداعا يا مخطوطات التاجر السغيدي، والتي سأعود إليها فقط بشكل شظايا من ذاتي السابقة، يا بقايا الحضارة الميتة، التي استغرقت بها مع رجل لم يحببني. ثم برشاقة فتحت الباب قليلا وتسللت على رؤوس أصابعها منه. وكان إراكلي يتابع شخيره.

 ***

.....................................

*الترجمة الجورجية لاسم هرقل الإغريقي.

* عنوان القصة: When You Are Old. لريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة لندن، كلية الاستشراق والدراسات الإفريقية. كما أنها عضو في جمعية أصدقاء فلسطين. الترجمة من كتابها Strangers والذي سيصدر في أمريكا في نهاية هذا العام.

 

في نصوص اليوم