قراءات نقدية
بهيج حسن مسعود: قراءة في قصيدة "في بابل" للشاعر السوري صقر عليشي
مقدمة تعريفية بالشاعر: صقر عليشي
صقر عليشي هو شاعر سوري معاصر، ينتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري، تميزت تجربته بالبحث الدائم عن جماليات جديدة وانزياحات عن المألوف. عُرف بلغته الشعرية المكثفة والحافلة بالرموز الميثولوجية والتاريخية، والتي يستحضرها لإضاءة هموم الواقع المعاصر وإشكالياته. يأتي اسمه ضمن كوكبة من الشعراء السوريين الذين سعوا إلى تجديد اللغة الشعرية وفتحها على عوالم أسطورية ووجودية، مما جعل قصيدته حقلاً خصباً للتأويل والدراسة.
في بابل
أخذت القصيدة الى بابل
كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة
في فواصلها
وعلامات الترقيم الأخرى
*
غافل رقتها البرد
في رؤوس الجبال
أثناء الجمال
*
قلت آخذها في نزهة
أعرفها على الأساطير
ولعلها تلم ببعض الأسرار
عن السحر الأبيض
لعلها توفق بلقاء مع الجن الأحمر
*
هذا يرفدها بالأفق
ويفيدها بامتحان الرشاقة
*
ثم نعرج في جولة
نحو الحدائق المعلقة
عسى يساعد هذا
في بث النشاط
في دورتها الشعرية
ويشحذ خيالها المثلم
فربما تزين المنحدرات بقفزة جمالية فائقة.
*
لكنها أزعجت الهواء اللطيف
وتجاهلت رغبتي .
حملت سلتها من المشمش
والمجاز الطازج
المقطوف من غوطة دمشق
وأدارت دفة الزمن
نحو "هاروت وماروت"
اللذين افتتنا بها من أول مشمشة
واختلفا في تفسير سحرها المغاير
ووصل صياحهما
الى مسامع الفلسفة.
*
أسرا لها قليلا من الغيب المنيع
وأهدياها اكسيرا..
وأقراطا تأرجحت في أذنيها
وتركت الدهشة معلقة !!
***
القراءة التحليلية: تشريح الرموز وطبقات المعنى في "في بابل"
لا تُقرأ هذه القصيدة كوصف لنزهة، بل كرحلة استكشافية عميقة داخل مختبر الشعر نفسه. إنها قصيدة "ميتاشعرية*" تتأمل ذاتها وتتحدث عن عملية الخلق الشعري، مُجسدةً في رحلة إلى بابل، رمز المعرفة والسحر والأساطير الأولى.
الطبقة الأولى: القصيدة ككائن حي
منذ البداية، يقدم الشاعر "القصيدة" ليس كنص جامد، بل ككائن حي يعاني من "وعكة عابرة". هذا الانزياح الجميل (تشخيص القصيدة) يُخرجها من حيز التجريد إلى حيز الوجود المادي والمرضى.
- "تشكو من وعكة عابرة في فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى": الوعكة هي أزمة إبداعية، أو عدم توازن في البنية الداخلية للنص. الفواصل وعلامات الترقيم هي أنفاس القصيدة ونبضها، واضطرابها يعني أن إيقاعها الداخلي معتل.
الطبقة الثانية: بابل كفضاء أسطوري للعلاج
لا يختار الشاعر أي مكان للعلاج، بل يختار "بابل"، التي ترمز إلى:
1- منبع الحضارة والسحر: حيث كانت مركزاً للعلم والسحر في المخيال الجمعي.
2- الجن الأحمر وهاروت وماروت: يشيران إلى عالم الغيب والقوى الخارقة والسحر. "الجن الأحمر" قد يكون رمزاً للشهوة أو الطاقة البدائية، بينما يمثل "هاروت وماروت*" الملاكين اللذين علّما الناس السحر في بابل بأمر من الله، كاختبار لهم (كما ورد في القرآن الكريم والمرويات الإسلامية). هذا الانزياح يجعل من لقاء القصيدة بهما لقاءً مع أسرار اللغة والسحر الذي يتجاوز المألوف.
الرحلة العلاجية مقصودة بدقة:
1- "هذا يرفدها بالأفق ويفيدها بامتحان الرشاقة": الرشاقة هنا هي رشاقة التعبير وخفة اللفظ وبراعة الصورة.
2- "يشحذ خيالها المثلم": الخيال "المثلم" هو الخيال المجروح، المتعب، أو المنقوص. والشحذ يعني إعادته إلى حدة وقدرة على الاختراق.
3- "الحدائق المعلقة": رمز الجمال المعجز والهندسة الفائقة، وهي جرعة جمالية تهدف إلى "بث النشاط في دورتها الشعرية".
الطبقة الثالثة: تمرد القصيدة واستقلاليتها
هنا تكمن المفارقة الجميلة والانزياح الأهم. القصيدة، هذا الكائن الحي، لا تستجيب للعلاج المُخطط له.
1- "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي": تعلن القصيدة استقلاليتها عن شاعرها. هي كائن متمرد لا يمكن ترويضه أو توجيهه حسب خطة مسبقة.
2- "الهواء اللطيف" قد يكون رمزاً للأجواء الأسطورية الهادئة التي أراد الشاعر خلقها، لكن القصيدة أزعجتها بحيوتها غير المتوقعة.
3- "حملت سلتها من المشمش والمجاز الطازج المقطوف من غوطة دمشق": هذه هي الانزياحات الأكثر إشراقاً.
أ- المشمش: هو الفاكهة الدمشقية بامتياز. إنها تحمل رائحة الواقع المحلي والأرضي.
ب- المجاز الطازج: هنا يخلط الشاعر بين الحسي (المشمش) والمجرد (المجاز). فسلتها تحتوي على عناصر من الواقع الملموس (المشمش) وعناصر من الخيال الشعري (المجاز الطازج)، وكليهما "مقطوف من غوطة دمشق". هذه إشارة واضحة إلى أن منابع الشعر الحقيقية ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع المباشر والتربة المحلية (دمشق)، ولكن بشرط أن تُقطف كـ "مجاز طازج"، أي برؤية شعرية متجددة.
الطبقة الرابعة: الحوار مع قوى المعرفة والغرابة
بدلًا من الانصياع للشاعر، تتجه القصيدة مباشرة إلى "هاروت وماروت".
1- "اللذين افتتنا بها من أول مشمشة": الانزياح هنا رائع. "مشمشة" هي مرة أخرى الجمع بين الدمشقي (المشمش) والبابلي (هاروت وماروت). لقد افتتن ملاكا السحر بالقصيدة منذ أول عنصر دمشقي حملته معها.
2- "واختلفا في تفسير سحرها المغاير": القصيدة ليست فقط مسحورة، بل سحرها "مغاير"، مختلف، لا يمكن تفسيره بسهولة حتى من قبل أعظم السحرة. هذا يرفع من قيمة القصيدة ويؤكد تفردها.
3- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة": الانزياح العبقري. الخلاف على تفسير سحر القصيدة ليس هامشياً، بل هو صياح (صراخ جدلي) يصل إلى أعلى مراتب الفكر (الفلسفة). الشعر يثير إشكاليات وجودية ومعرفية تصل إلى قلب الفلسفة وتجبرها على الإنصات.
الطبقة الخامسة: الخاتمة المعلقة (دهشة الشعر)
الهدية التي تقدمها القصيدة من هاروت وماروت هي خلاصة الرحلة:
1- "قليلاً من الغيب المنيع": لمحة من المعرفة المستعصية.
2- "أكسيراً": قد يكون إكسير الحياة، أو جوهر الشعر الخالد.
3- "أقراطاً تأرجحت في أذنيها": الأقراط تزيين، لكن تأرجحها في "أذني" القصيدة (ككائن حي) يخلق صورة بصرية-سمعية رنانة، ترمز إلى الجمال والإيقاع والزينة التي اكتسبتها.
4- "وتركت الدهشة معلقة !!": هذه هي الخلاصة. النهاية ليست حكمة محددة أو رسالة مباشرة، بل "دهشة معلقة". الدهشة هي أعلى درجات التأثير الشعري. وهي "معلقة" كالحدائق المعلقة في بابل، وكالقصيدة نفسها التي تبقى في فضاء التأويل. الشعر لا يحل الألغاز، بل يخلق دهشة دائمة أمام العالم.
الخاتمة:
قصيدة "في بابل" لصقر عليشي هي نص مركب ومتعدد الطبقات، يحفر في علاقة الشاعر بنصه المتمرد، ويبحث عن منابع الإبداع بين الأسطورة (بابل) والواقع (غوطة دمشق). من خلال استخدام الانزياحات المبتكرة (تشخيص القصيدة، خلط المشمش بالمجاز، حوار القصيدة مع هاروت وماروت)، تنجح القصيدة في تقديم رؤية للشعر كقوة حية مستقلة، قادرة على إثارة الجدل حتى بين ملكتي السحر والفلسفة نفسها، لتختتم بإعلان أن غاية الشعر ليست الإجابة، بل خلق "دهشة معلقة" تظل تتأرجح في ذهن القارئ كأقراط من نور.
مظاهر الميتاشعرية في قصيدة "في بابل"
في قصيدة عليشي، لا نرى حدثاً خارجياً ، بل نرى الحدث الداخلي لخلق القصيدة. كل عنصر في الرحلة البابلية هو استعارة لعملية الإبداع:
1- تشخيص القصيدة:
أ- "أخذت القصيدة الى بابل" – ليست مجرد ورقة، بل كائن يُؤخذ في رحلة.
ب- "كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة" – القصيدة مريضة، أي أن عملية الكتابة تعاني من عائق إبداعي.
ج- هذا التشخيص هو فعل ميتاشعري بحت، يجعل من النص كياناً مستقلاً عن خالقه.
2- الرحلة كاستعارة للعملية الإبداعية :
أ- الرحلة إلى بابل ليست حقيقية، بل هي رحلة في مخيلة الشاعر لـ "علاج" نصه. الشاعر هنا لا يكتب عن بابل، بل يستخدم بابل كفضاء استعاري لإنقاذ قصيدته.
ب- الأساطير، السحر الأبيض، الجن الأحمر، الحدائق المعلقة: كلها ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أدوات وأدوية يقترحها "الطبيب" (الشاعر) لـ "المريض" (القصيدة) ليشحذ خيالها ويرفدها بالأفق.
3- الانزياح اللغوي كموضوع :
أ- الحديث عن "فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى" و "دورتها الشعرية" هو حديث مباشر عن البنية الفيزيائية والفيزيولوجية للنص الشعري. الشاعر يتأمل جسد قصيدته من الداخل.
4- تمرد الموضوع على الخالق:
أ- هذه هي اللحظة الأكثر ميتاشعرية: "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي".
ب- هنا، تعلن القصيدة استقلاليتها عن خالقها. الشاعر يفقد السيطرة على مخلوقه. هذه فكرة وجودية عميقة عن الإبداع: في لحظة ما، تصبح القصيدة كائناً له إرادته الخاصة، ويقود الشاعر إلى حيث لا يتوقع. العمل الفني يفرض مساره على الفنان.
5. المشمش والمجاز: خلط الواقعي بالشعري:
أ- "سلتها من المشمش و المجاز الطازج" – هذا الانزياح الرائع هو خلط متعمد للمستويات:
أ- المشمش: واقع ملموس، محلي، دمشقي.
ب- المجاز الطازج: مفهوم مجرد (المجاز) يُعامل معاملة الشيء الملموس (طازج، مقطوف).
ج- هذه الجملة هي بيان شعري: مصادر الإلهام ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع اليومي، ولكن برؤية شعرية تجعله "مجازاً طازجاً ". القصيدة تتحدث عن مادتها الخام (الواقع والمجاز) بشكل صريح.
6. الحوار مع هاروت وماروت: النقد الذاتي:
أ- عندما "تختلف" شخصيات الأسطورة في "تفسير سحرها المغاير"، فإن هذا يمثل حواراً داخلياً للشاعر حول تفسير قصيدته الخاصة. حتى هو، كخالق، قد يختلف مع نفسه حول معنى ما كتبه.
ب- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة" – القصيدة ترفع مستوى التأويل من التفسير السحري البسيط إلى مستوى النقاش الفلسفي. هي تتحدث عن قدرة الشعر على إثارة أسئلة وجودية وفلسفية.
الخلاصة:
باختصار، "في بابل" هي قصيدة ميتاشعرية بامتياز لأنها:
1- لا تحكي قصة، بل تحكي عن "كيفية ولادة القصيدة".
2- تتخذ من عملية الإبداع نفسها موضوعاً رئيسياً لها.
3- تتعامل مع القصيدة ككائن حي مستقل له رغباته ومساره.
4- تستخدم الانزياحات (كخلط المشمش بالمجاز) لتسليط الضوء على طبيعة المادة الشعرية نفسها.
الرحلة إلى بابل، بكل رموزها، هي مجاز كبير لعملية الخلق الشعري بكل إحباطاتها ومفاجآتها واستقلالية نتاجها النهائي. الشاعر لا يكتب عن بابل، بل يُجري عملية جراحية لقصيدته في مستشفى بابل الأسطوري.
***
بهيج حسن مسعود
***
هامش:
1-هاروت وماروت* هما شخصيتان ذكرتا في القرآن الكريم في سورة البقرة (الآية 102)، وهما ملكان أنزلهما الله إلى الأرض في بابل كاختبار للناس، حيث كانا يعلمان الناس السحر، ولكن ينبهانهم في نفس الوقت إلى أن هذا السحر هو فتنة وكفر، وأنه لا ضرر ولا خير إلا بمشيئة الله.
2- "الميتاشعرية*" (Meta-poetry)؟
الميتاشعر هو "شعر عن الشعر نفسه". إنه نوع من الكتابة الأدبية التي يكون موضوعها الرئيسي هو عملية الكتابة الشعرية ذاتها، أو طبيعة اللغة الشعرية، أو دور الشاعر، أو علاقة القصيدة بالعالم. بمعنى آخر، هي قصيدة تُخرج نفسها كموضوع للتأمل.
يمكن تشبيهها بفيلم سينمائي يدور حول صناعة الأفلام، أو لوحة ترسم فيها الرسامة نفسها وهي ترسم اللوحة. إنه وعي ذاتي بالنص بذاته ككائن لغوي وفني.







