قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: قراءة في نص الشاعرة الجزائرية نادية نواصر

ينتمي نص الشاعرة الجزائرية نادية نواصر "كن لباساً لي" إلى فضاءٍ شعريٍّ تتقاطع فيه التجربة الوجودية والروحية والأنثوية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان — وبالأخص الأنثى — بالكون، والذات، والآخر، والقداسة.
في زمنٍ تواطأت فيه العقول على الصمت، وتآلفت الحواس مع الركود، تبدو الحاجة ماسّة إلى استعادة الجنون بوصفه يقظةً عليا لا سقوطاً في العبث. فالمجنون الحقّ، كما رآه نيتشه، هو من يمتلك شجاعة الانفصال عن القطيع، ومن يجرؤ على رؤية الحقيقة بلا أقنعة. إنّ غياب هذا "الجنون الخلّاق" في ثقافتنا ليس سوى علامة على تبلّد الحسّ الجمعي، وضمور القدرة على الاندهاش، وتحوّل الوعي من طاقة حارقة إلى رماد بارد.
تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك فكرة "الجنون" بوصفها استعارة وجودية وثقافية، وإلى الكشف عن علاقتها بالتحرّر والإبداع، في مقابل "العقل المروّض" الذي جعل من الإنسان العربي كائناً متكيّفاً مع القبح، بدلاً من أن يكون شاهداً على الجمال ومتمرّداً على الركود.
في سياق هذه الدراسة النقدية التحليلية الموسّعة، أعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والجمالي والوطني والسيميائي، مع الغوص في البنية النفسية والدينية للنص، وكشف ما تحته من توترٍ وومضٍ وتأويل.
أولًا: العتبة النصية والتأويل الهيرمينوطيقي للعنوان
١- العنوان «كن لباسًا لي» يقوم بوظيفة رمزية عالية ويفتح أفق التأويل على مستويات متداخلة:
٢- دينياً: إحالة إلى الآية القرآنية: «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، فيكون اللباس هنا رمزًا للستر، والأمان، والالتحام الوجودي بين الروحين.
٣- وجودياً: اللباس هو ما يقي العراء الداخلي للذات، أي بحث الإنسان عن معنى يحتضنه في عزلته الكونية.
٤- شعرياً: اللباس استعارة عن الكلمة نفسها، عن اللغة التي تتشكل لتغطي جرح الوعي وتُعيد للذات دفأها في برد العالم.
إذاً، العنوان يُبشّر منذ البدء بنصٍّ يسعى إلى التحامٍ وجوديٍّ بين الذات والآخر، بين الإنسان والمطلق، بين الأنثى والعالم.
ثانياً: فضاء الغربة والبرد — القراءة الهيرمينوطيقية الوجودية:
تفتتح الشاعرة ناديا نواصر نصها بهذه اللوحة، تقول:
- في المدار العامر بالغربة والصقيع
وعلى رصيف العمر المتعب
حيث دقت أجراس الخواء
واعتراني أنين الروح...
يبدو الافتتاح نُقطة انطلاق لتجربة أنطولوجية عميقة، إذ تُشيّد الشاعرة فضاءً سردياً يتقاطع فيه الوجود والعدم، الامتلاء والخواء، الدفء والصقيع.
إنها ترسم مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، حيث تدق أجراس الخواء — وهو تعبير سيميائي عن انقراض المعنى وضياع المقدّس.
- من منظور هيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذا المقطع يُعبّر عن تجربة تأويلية للعالم كغياب، حيث الغربة ليست مجرد حالة شعورية، بل تجسيد لفراغ المعنى في زمن “الزمن الضال”، كما تقول لاحقًا.
ثالثاً: التحليل الأسلوبي — اللغة بوصفها كينونة:
أسلوب نادية نواصر كثيف، متشظٍ، يقوم على المجاز المركّب.
اللغة هنا ليست أداة وصف، بل حالة وجودية تتجسد فيها المعاناة والتحوّل:
١-الجمل تتقاطع في حركة دائرية تحاكي دوران الكائن في "مدار الغربة".
٢- الأفعال تأتي في نسقٍ توتّري: اعتراني، مزّق، لملم، رحت، انزف، ابصر...، ما يمنح النص ديناميكية شعورية تحاكي الانفعال الداخلي.
٣- تتعدد الحقول المعجمية: (الروح، الصقيع، النور، الخفق، الصراع، المحنة، المحراب، المطر...)، وكلّها تُحيل إلى تجربة صوفية–أنثوية تبحث عن المعنى بين الألم والرجاء.
٤- الأسلوب قائم على اقتصاد العبارة وغزارة الإيحاء، وعلى انزياحٍ لغوي يرفع الكلمة من وظيفتها الإخبارية إلى مقام الرمز الشعري.
رابعاً: القراءة الرمزية والسيميائية — المعجم الدلالي للرموز:
القصيدة شبكة رموز متماسكة، تُبنى بعناية لاهوتية وشعرية في آنٍ معاً.
- الرمز دلالته التأويلية وظيفته السيميائية:
الصقيع فراغ الروح، قسوة العالم، موت العاطفة علامة على اغتراب الكائن في عالمٍ بلا دفء
أجراس الخواء صوت العدم تجسيد لصدى داخلي يذكّر بالفراغ المقدّس
الكاهنة الأنثى العارفة، الحارسة للسر تمثيل لعودة الصوت الأنثوي في التاريخ
الصلصال الخلق والضعف الإنساني رمز للتكوين الأول، للإنسان الذي ما زال في طور العجن الإلهي
جب يوسف محنة المعرفة والاصطفاء تجسيد للغور الداخلي حيث يبدأ التحول الروحي
الفراشة الهشاشة والتحول رمز النفس التي تحترق في النور لتولد من رمادها
اليقطين والنرجس والياسمين رموز نباتية روحية إحالات إلى البراءة والمعرفة والجمال المنقذ
اللباس الستر، الحماية، الاندماج الروحي الرمز المركزي: وحدة الكينونة بين الأنا والآخر
من خلال هذا النسق الرمزي، يتضح أن الشاعرة تبني ميتافيزيقا شعرية للأنوثة، تستند إلى تجربة روحية منفتحة على المقدّس والمأساوي في آنٍ معًا.
خامساً: البنية النفسية والدينية — بين الخطيئة والقداسة
يتخلل النص وعيٌ ديني–نفسي متوتر، إذ تتحرك الشاعرة في منطقة ملغّمة بين الإثم والمعرفة، وبين الطهر والتمرد.تقول:
إني من صلصال الإنسان في الزمن الضال،
فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة.
هذا المقطع يلخّص الوعي التراجيدي بالإنسانية الساقطة والمجاهدة في آنٍ واحد.
١- الزمن الضال ← فقدان البوصلة القيمية.
٢- النشيد المر ← الإبداع بوصفه خلاصًا عبر الألم.
٣- المحنة ← امتحان الوجود والروح.
- الخطاب الديني هنا لا يأتي في بعده الطقوسي، بل في بعده الأنطولوجي: إنها صلاة ضدّ الخواء، وعودة إلى “محراب التقوى” لا لطلب الغفران فحسب، بل لاستعادة الإنسان من طينه الأول.
- من منظورٍ نفسيّ، النص يُجسّد صراع الذات الأنثوية بين الاحتراق والنجاة، الانكشاف والستر، الجرح والأمان.
فالقول "كن لباسًا لي" هو طلب للاندماج العلاجي بالآخر الذي يمنحها اتزاناً بعد انفراط المعنى، أشبه بنداءٍ نحو “الأنيموس” في اصطلاح كارل يونغ — المبدأ الذكوري الداخلي في النفس الأنثوية الذي يُعيد توازنها الروحي.
سادساً: المستوى الجمالي والوطني
على المستوى الجمالي، القصيدة لوحة سريالية من الضوء والبرد والنشيد، تجمع بين شفافية الصورة وقوة البنية.
يتجلّى الجمال في:
١- موسيقى داخلية تعتمد على تكرار الأصوات الرخوة (السين، النون، الميم)، ما يمنح النص نغمة روحية شفيفة.
٢- توازٍ إيقاعي بين المقاطع يعيد للقارئ إحساس “التسبيح الشعري”.
٣- بنية الصور تعتمد على التناص مع الأسطورة والرموز الدينية دون انغلاق، مما يمنح النص بعداً إنسانيًا كونياً.
أما البعد الوطني، فيتجلى خافتًا لكنه حاضرٌ من خلال الإحالة إلى "الزمن الضال" و"أجراس الخواء"، وهي إشارات رمزية إلى وطنٍ مثخنٍ بالخذلان، وإلى الذات الجماعية التي تبحث عن خلاصها في فضاء من العراء والتمزق. إن استدعاء "جب يوسف" و"صلصال الإنسان" يُشير ضمنًا إلى الهوية الممزقة للعالم العربي بين المحنة والأمل.
سابعاً: القراءة السيميائية الكلية للنص
النص منظومة علامات متشابكة تعمل وفق دائرة دلالية مغلقة–مفتوحة:
1. الفضاء المكاني: (المدار، الرصيف، المفترق، المحراب، الجب...)
→ تمثل رحلة الداخل والخارج، بين العزلة والانفتاح.
2. الفضاء الزمني: (مواسم المطر، الفصول، الزمن الضال...)
→ يعبّر عن التحوّل والديمومة والتجدّد.
3. الفضاء الصوتي: (أجراس، صلوات، نشيد، أغاني...)
→ يشكل نسيجًا صوتيًا دينيًا–شعريًا، يجعل اللغة أداة خلاص.
4. الذات المخاطِبة والمخاطَبة:
→ “الأنا” الأنثوية في حوارٍ مع “أنت” الغيبي/الرمزي/الإلهي، مما يخلق جدلية الأنوثة والإلهام، الإنسان والمطلق.
في ضوء السيمياء، يتحول النص إلى نظام إشاريّ للبحث عن الالتحام الكوني: الكلمة ← جسد، اللباس ← وعي، المطر ← بعث، الصقيع ← موت، والنداء الأخير "كن لباسًا لي" ← عودة إلى وحدة الوجود.
ثامناً: الخاتمة التأويلية:
قصيدة "كن لباساً لي" هي تجربة روحٍ تبحث عن دفئها في زمنٍ مفقود المعنى.
هي صلاة ضد الصقيع، وأناشيد أنثى تتحدى الخواء بالخلق.
فيها يتعانق الديني بالأسطوري، والأنثوي بالكوني، والجرح بالجمال.
منال نواصر — في هذا النص — لا تكتب عن الحب فحسب، بل عن التحامٍ كونيٍّ يعيد الإنسان إلى فطرته الأولى، ويحوّل الشعر إلى طقس خلاص يعيد للروح لباسها النوراني.
إنها كتابة تمشي على الحافة بين التقديس والجنون، بين الأرض والسماء، لتعلن أن الشعر وحده يملك القدرة على ستر عُرينا الوجودي، وعلى أن يكون “لباساً لنا” في برد هذا العالم.
***
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين
...................
كن لباسا لي
شعر نادية نواصر
في المدار العامر بالغربة والصقيع
وعلى رصيف العمر المتعب
حيث دقت اجراس الخواء
واعتراني انين الروح
في الخطوة المكتظة بلسعة البرد
وفي الذي بين جوانحي
من صخب الرحلة المرفوعة
على اذرع من وهن المجاز
في الذي مزق تلافيف الروح
في مهب الريح
ومفترق الجهات
في مقام الكاهنة وهي تسرد
عصف الرماح
على الظهر المكابر
في كل الذي لملم نثار القلب
وسهوب الخفق
عاينتني في المفترق المسمى
ورحت اتحراني
بين ادغال خطاي
ومعبر اليقين
حافية القلب
عارية الروح
إلا من صراع كينونتي المستميت
يا صوت النور
يا هذا الضوء الشفيف
يا صلوات الله
في محراب التقوى
يا نداء السلام الروحي
إني من صلصال الإنسان
في الزمن الضال
فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة
كي اخرج
من وهج النرجس
وجرأة الياسمين
من قصص اليقطين
أحمل أشلائي واطلع من جب يوسف
مترعة بكؤوس الحياة
وعنب المواسم
في مدار الفصول
وانحناءة المعنى
يا أنت ، ياصدى الأغاني
وهي تنبثق من أرخبيل الروح
كن لباسا لي
في مواسم المطر
وعواء الريح
كن نارا تسكت ارتجاف الصدر
من برد الفصول
إني الفراشة والنشيد الحر
والصهد الطالع
من وهج الأغاني
رغم السقوط المر
في غياهب الغيم
محمولة على وخز الظنون
وخيبة النوايا
مازلت انزف فيك
ومازلت ابصر ان كفك ملاذي
وأن عينيك شدوي وغنائي
وصبابتي وعطش المساء
إلى ينابيع القول