قراءات نقدية

ميلود لقاح: جدلية الوطن والمنفى في قصيدة (ثلاثية البقاء أو الدموع أو السفر)

للشاعر الفلسطيني فواز طوقان

تقوم قصيدة الشاعر الفلسطيني/ الأردني فواز طوقان (ثلاثية البقاء أو الدموع أو السفر) على مجموعة من الثنائيات المهمة التي يمكن عَدُّها عتباتٍ مضيئةً أغوارَ النّص، تقودنا إلى الوقوف على عمق القضية التي تشغل الشاعر وموقفه منها.

تحضر الثنائيات Dichotomies، وهي مجموعة من المسائل المتعارضة، بشكل مكثف في القصيدة بدءا من العنوان: البقاء/ السفر، الأشواق/ ملتقى، الشرود/ الرجوع، الأصول/ الفروع، الرحيل/ اللقاء، سرية/ معلنة، مضى/ سيأتي، أتى/ مضى، الحزين/ السعيد، نبدأ/ سينتهي.. ويمكن اعتبار هذه الثنائيات ناتجة عن ثنائية بارزة ورئيسَة في متن القصيدة هي: موطني/ المنفى ؛ وقبلها ثنائية مضيئة  للقصيدة هي (الوصل/ القطيعة) في بيتين استفتح بهما الشاعر فواز طوقان قصيدته للشاعر العباسي ابن زريق البغدادي، الذي عاش حزينا وانتهى به ترحاله الطويل إلى خيبة كبيرة، وكأن الشاعر يُسقط شخصية ابن زريق  على الإنسان الفلسطيني الذي قُدِّرَ له أن يعيش مرتحلا من منفى إلى منفى ومن خيبة إلى خيبة؛ فالوطن محتلٌّ والشاعر/الإنسان الفلسطيني، مُخيَّـرٌ بين البقاء ذليلا في موطنه، لأن الوصل بوطنه المحتل يكلفه الضجر، و"طحن الرجال والعمر"، والدموع والنحيب والنشيج، والبؤس واليأس... لكن المنفى الذي يختاره الفلسطيني أو يُفْرَض عليه ليس أفضل حالا من البقاء في الوطن فهما متساويان لديه وهذا ما يجعله مقيدا بتَكرار التساؤل المحير: ما الفرق بين البقاء والسفر؟:

أتساءل...

"ترى هو الرحيل؟"

أتساءل:

"ترى هو اللقاءْ؟"

في غمرة العناق للرحيل واللقاءْ،

وهجمة الدموع والنحيب والنشيجْ

يخطر لي سؤال:

"ما الفرق بين بين لحظة الرحيلْ ..

... وبين لحظة اللقاءْ؟"

" ما الفرق... عندما تلوح في الآفاقْ

علائم الفراقْ؟

إن جدلية الوطن والمنفى هي القضية الأساس في القصيدة، وهي جدلية أوقعت الإنسان الفلسطيني في حيرة بين الصمود على أرضه وإقامة مشروع وطنيٍّ تحرُّري يسعى إلى مقاومة الاحتلال، وتقديم التضحيات الجِسام، وبين العيش في منفى ببلدان لها خصوصياتُ لجوءٍ ترْهِق الإنسان الفلسطيني الذي يعاني فيها مشكلاتٍ اجتماعية، وسياسية واقتصادية، تجعله يحمل وزرا مضاعفا يُشعره أن "القمح مُرّ في حقول الآخرين" كما قال محمود درويش.

والإنسان الفلسطيني فاقدُ الأرضِ، أضحى التّشردُ موطنَه، تتقاذفه "هوجُ الرياح" فلا استقرار له وهو "دائمُ الأشواق والضجـر" وأقسى ما يؤلمه أن يعاني في منفاه العربي الذي يُفترض فيه أن يكون الملجأ الآمن، إنه محاصر ومراقب، فهل ضاق المنفى العربي بِلاجئيه وكاد يلفظهم؟ وهل حُكِمَ على اللاجئ الفلسطيني أن يكون دائمَ السّفر بسبب (ظلم ذوي القربي)، فالوطن محتل والمنفى العربي لا يستوعبه، (فعلى أي الجانبين يميل؟).

هذا هو المنفى العربي حيث الجلاوزة يحيطون بالفرد الفلسطيني، يحاصرونه ويراقبونه ويدبِّجون عنه تقاريرَهم، فهو مصدر قلق، وهو عبء يتحيّنون فرصة الخلاص منه. لذا كان البقاء في هذا المنفى ذلا لا يطيقه الفلسطيني وعليه أن يركب "الرياح الهوج" من جديد ويختارَ له وجهة أخرى ليظل محكوما بالرحيل والخيبة باستمرار.

" أنا بائس من جند هذي الدرب... أو تلك الطريقْ

أنا يائس مستضعفٌ..

أنا فيكمُ الجسد الغريقْ

أنا من ضحايا خطة التلفيقِ

والمنفى السحيقْ

ومن جلاوزةِ السلاطينِ الذينَ تحجّروا: خشبا مسندةً

وأحلاما مفندةً

وأياما تضيقْ.

حتى مَ أنتابُ المدائنَ والسفارْ؟

هكذا يصبح اللاجئ الفلسطيني مخيرا بين ثلاثٍ: ذل البقاء، أو الدموع أو السفر، وهي (أمورٌ أحلاها مـرٌ)، لأنه يَشعر بالصَّغار والخذلان وانعدام النصير وتجاهل القضية:

ما أنتَ إلا نادلٌ في حانهمْ

متهادنٌ

متهاونٌ

متشاغلٌ بالشغلِ.. تقذفكَ القفارُ إلى القفارْ !

يا بؤس ما غنى المغني، لا استمالَ ولا استثارْ !

وكان محمود درويش قد قبض، بحدسه الشعري، على تلك الجدلية، جدلية الوطن والمنفى، حين قال بُعَيد رحيل قوات الثورة الفلسطينية عن لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، إحدى محطات رحلة اللجوء الفلسطيني المتعثر باستمرار: "ليس لي منفى، لأقول لي وطنُ..الله يا زمنُ".

والحديث عن المنفى يستدعي بالضرورة الحديث عن الوطن، بحسب قانون التداعي، ومقولة أن النقيض يستدعي نقيضَه، ففي غمرة الإحساس بالتيه والضياع في المنفى العربي يحضر الوطن "الراحل البعيد الذي مضى ولن يعود" وليس من باب التشاؤم والانهزامية أن يُقِــرَّ الشاعر بأن الوطن لن يعود، لكن قراءته للواقع العربي المتآمر على الإنسان الفلسطيني تجعله يرى ذلك الرأي، كما يرى أن قضاءَ وقدرَ الفلسطينيين أن يعيشوا في الشتات "صدى لوطنهــم":

فكلنا صدى

للراحل البعيدْ

ذاك الذي مضى ولن يعود من غدي..

خلاصة القول إن الإنسان الفلسطيني ضحية خطة وصفها الشاعر بـــ (خطة التلفيق) ويعني بذلك أن هناك إعلاما خادعا مورس على  اللاجئين الفلسطينيين من قِبل الخطاب الرسمي العربي حين وصفهم بالمهاجرين والنازحين؛ حتى لا يقال إنهم يعيشون في منافٍ، لأن النظام الرسمي يُشيعُ أن بلاده تمثل الوطن الثاني للفلسطينيين، وأنها أرض الضيافة تحتضنهم إلى أن تنتهي حالة العدوان وتتحقق العودة؛ لكن الواقع أنها ليست كذلك إنما هي - كما وصفها الشاعر-  (المنفى السحيق)،  لأن النفي دال على القهر والحرمان من المكان والمواطنة والحرية وهـو في بعض القوانين الوضعية عقوبة؛ لذلك تبنى الشاعر فواز طوقان مصطلح المنفى بوصفه الأنسب في تشخيص الحالة الفلسطينية، وأصر على هذا الاختيار، وانحاز إلى وصف الواقع فجاء خطابه مسكونا بالألم والحنين والخيبة والغضب ونقد الأنظمة ومشحونا بحب الوطن "الراحل البعيد".

***

بقلم: ميلود لقاح

في المثقف اليوم