قراءات نقدية

وفاء كمال الخشن: شلال عنوز والصدق الفني والأخلاقي في القصيدة

وأنا أقف على عتبة ديوان " حي ابن سكران" للشاعر "شلال عنوز" أول مالفتني وأثار فضولي هو ذلك العنوان الساخر والغريب الذي يوحي بالحياة من جهة، لكنه يدخل القارئ في متاهة من جهة أخرى. ويجعله يتساءل: هل هو اسم حقيقي لحي في مدينة، أم هو رمز لواقع متأرجح ومجتمع ثمل فاقد للبصيرة. أم أنه رمز للشاعر نفسه وهو يحاول أن يكون ساخراً حينما يتسلل الألم إلى أوصاله. أم أنه وصف لشعب يعيش غفلة، أم صورة مصغرة لوطن مأزوم .

هذا العنوان ينقل مزاج الشاعر الساخر والحزين، ويكشف عبثية الواقع من خلال الصور المليئة ب"السكر، الظمأ، البكاء،  عطش الروح، غلق نوافذ الأمل، تسمم نسغ البشارات، متاريس التلوث".

معظم القصائد تندرج في أجواء متشابهة من الغربة، وتبين كيف تتواصل الإرادة بالإلهام حين تنبثق عن احتدامات داخلية يخلع فيها الشاعر الأغطية ويزيح الركام. ليكشف بصرخات حقيقية الأصوات المتكسرة والتائهة في الغربة، ويهين غباء العالم مستقطباً في قصائده الحياة كلها. وكأن ديوانه قصيدة واحدة تلاحق الحقائق. لذا سأجتزئ بعض المقاطع معظمها من قصيدة تذكرتُ أمي الآن التي سأدرجها في نهاية المقال.

هذه القصيدة_ التي تبرز حنين الشاعر لأمه رغم مأساة الوطن الذي يترنح بين البقاء والفناء - تربط بين السيرة الذاتية للشاعر والذاكرة الجمعية. فعبارة تذكرت أمي الآن. تبدو كطقس استغاثة يقاوم به الشاعر النسيان. فالحنين أمر مثير للأعصاب وخاصة الحنين للأم، لأنها ليست مجرد كلمة. بل رمزاً للخصب والعطاء يقاوم به الشاعر الجفاف والقحط، فهي النخلة والنهر والغيث.

ومن الأم ينتقل الشاعر إلى وقاحة المهرجين، وفيالق الدمى.

"المدن الموبوءة بالجهل"

هذا النص يكشف بجلاء سخط الشاعر على الأنظمة والمجتمعات التي تنتج القهر والوجع، وقد اصطدم فيها عنف الواقع ببراءة الطفولة.

النص يتمتع ببنية تشبه الدائرة تبدأ بالحنين إلى الأم ودفئها وتنتهي بالوفاء. فالأم هي العمود الفقري للنص.

وبلاغياً تشكل هذه القصيدة انعكاساً لمعظم قصائد الديوان من حيث غناه بالصور البصرية المتحركة التي تنقل شعور الحنين والفقد العميق والعطش والجفاف العاطفي. حيث "شرب الماء ماءه"

وفي عبارات أخرى نجد الشاعر يحول ألفاظه من مفهوم مجرد إلى عضو متحرك ك "وأنا أحتلب ثدي العقوق"، حيث شبَّه الشاعر العقوق المعنوي بثدي يُحلب. فهذه الاستعارة التصريحية تكثف الألم وتنتج الحقد وباستعارة مكنية أخرى "أمضغ لبان صلف التغرب" يبرز مرارة الغربة ذات الطعم العسير على الإبتلاع

أما قوله "توق طفل تجاوز غسق السنين" فيؤكدأن التوق إلى الأم لا يشيخ لأنها الملاك الوجودي والروحي

وما أكثر الاستعارات في القصيدة وما أروعها!! خصوصاً تلك التي تجعل من صدر الأم كتاب تراتيل يجمع بين الروحي والمقدس

وتستمر استعارات الشاعر بالتصاعد تدريجياً ممتزجة برموز ثقافية وتاريخية تثري النص وتؤطره ضمن حضارة تاريخية إنسانية. "هدهد سليمان وسبأ وعرش بلقيس. ولاتقتصر البلاغة على الاستعارات، بل ينجح الشاعر في المزاوجة بين بهجة الرقص والشفرة القاتلة. في صورة حركية بارعة" أرقص على شفرة سيف الحجاج " معبراً عن معاناته اليومية وإصراره على المواجهة رغم الألم و" جوع البكاء "وكأن البكاء صار غذاء يكشف عن عمق المأساة والتجربة القاسية المليئة بالخذلان.

قصائد الشاعر عموماً غنية بالاستعارات التصريحية والمكنية والتشابيه والصور والرموز والتوظيف المتكرر للمفردات الدالة على الجفاف والقحط وهذه البلاغة تشكل ذاكرة ممزوجة بالحنين الشخصي الذي يتدفق ليمتزج بالذاكرة الجمعية.

خلاصة القول: من يقرأ الشاعر شلال عنوز فإنه يقرأ الصدق في أدائه الشعري والفني الذي يوضح حقيقة هذا الشاعر الذي لم يمزق نفسه وراء منافع عملية محضة لتوفر الحماية المرتبطة بمكنوناته الأخلاقية المليئة بالنقاء والمثل العليا التي تهين غباء العالم لتحتضن الشعر في الماضي والحاضر والمستقبل

***

وفاء كمال الخشن - النجف

.....................

تَذكّرتُ أُمّي الآن

لم أدرِ لماذا

تَذكَّرتُ أُمّي الآن

بعد أن شرب

الماءُ ماءَه

وخَطب الجَدب

على مَنابر

القَحط

تذكّرتُها الآن

أنا الذي امتهن

التذكّر

ككُلّ البائسين

في بلادي

مُذ تفاقم اليباس

في شجر العمر

احتدم العقم

في رحم الأمنيات

وأنا أحتلبُ

ثديَ العقوق

أرقص...

على شفرة

سيف الحَجّاج

أَمضغُ لُبان

صَلف التغرّب

في بلاد

تَسوسُها

وَقاحَةُ المُهرِّجين

تَحرسُها

فَيالق الدمى

يَهزجُ

في نَوافلها

الضَجيج

تَذكَّرتُها ...

و تلك القرية

النائمة على

أُخدود الشقاء

ولدتُ فيها

باكياً

صباح يوم

نازفٍ بالمَطر

حينَها

قال والدي

وهو يلقي (المسحاة) جانباً

ويَضمُّني إلى

صلوات صدرهِ :

عوّضنا الله بهِ

عن أربعةٍ

أكلهم التراب

لم يبلغوا الفطام

***

من المجموعة الشعرية (حي ابن سكران)

 

في المثقف اليوم