قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: التمزق في عتبة الحنين

قراءة تحليلية في قصيدة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب" للشاعر سعد الأبطح
في مشهد شعري مكثف يعانق تخوم المعاناة الوجدانية والخذلان العاطفي، يُطلّ الشاعر الفلسطيني سعد الأبطح عبر قصيدته المعنونة "كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"، ليبوح بانكسارات القلب، لا من جهة الغواية، بل من جهة التأمل العميق في عطب العاطفة وانهيار المعنى داخل تجربة الحب. القصيدة لا تحتكم إلى المباشرة، بل تتوسل بتراتيل الأسى، وتتوسل بلغة مبطّنة بأحمال رمزية ونفسية وفكرية كثيفة، تجعل من قراءتها عملاً تأويلياً ومساءلة مستمرة لما تحت النص، لا لما يظهر فقط على السطح.
تجمع هذه الدراسة بين أربعة مناهج تحليلية: الأسلوبي الذي يعاين البنية اللغوية والصور، والنفسي الذي ينفذ إلى لاوعي الشاعر الأبطح، والرمزي الذي يحلل الشفرات والدوال المتراكبة، والهرمينوطيقي الذي يمنح النص تأويلاً وجودياً عميقاً.
ففي سياق الغوص في البنية الأسلوبية والصور الشعرية. يفتتح الشاعر الأبطح النص بتكرار استفهامي شجنـي ينهض بوظيفة تفكيك المعنى وتوليد القلق الشعري، يقول:
"كيف لهذا التحرّقِ في الترقب
هذا النشوبُ إثر الملامسات
وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات".
نحن أمام تكرار بنية "كيف" التي تمارس اشتغالا معرفياً لا يروم الجواب، بل يؤسّس لعجز الفهم، وللذهول أمام الظاهرة الشعورية المسماة حباً. فالتحرّق، النشوب، الاضطرام، كلها أفعال نفسية/جسدية تشي باشتعال داخلي لا يمكن استيعابه بالعقل المحض، بل بالوجدان المرتبك.
يتسم هذا المقطع باستخدام أفعال حسيّة كثيفة ودوال توترية (تحرّق، نشوب، اضطرام)، ما يمنح اللغة إيقاعاً داخلياً متسارعاً يُماثل خفقان القلق، وهو إيقاع نفسي أكثر منه موسيقي، إذ يعكس حالة تصاعدية للعاطفة المشحونة حتى الانفجار.
أما في سياق التحليل النفسي – وهم الحب ولاوعي الخسارة
يصرّح الشاعر دون تردّد قائلاً :
"كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حباً
والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي".
هنا نبلغ لبّ التمويه النفسي للحب ونسغه الداخلي، بوصفه حالة مضلّلة للذات، تجترح لها أوهام الخلود ("بلانهائيتها")، ثم تتهاوى فجأة إلى العدم. من منظور تحليل نفسي، يشتبك هذا المقطع مع مفاهيم كارل يونغ حول الظلّ والإسقاط، إذ يبدو الحب هنا كإسقاط لمثالية الذات على الآخر، وحين ينهار ذلك البناء الإسقاطي، تنهار معه صورة النفس نفسها.
ثم يأتي الانحدار واضحا وصريحاً حين يقول:"ليبقى فقط
هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً".
الرجاء الخافت هنا ليس أملاً، بل هو فضلة شعورية، أشبه برماد الحريق. الغضب المتقطّع إشارة إلى مرحلة المقاومة الداخلية لفقدان الوهم، حيث يتداخل الحزن مع الرفض، وتُكابد الذات عملية الحداد النفسي لا على شخص، بل على صورة مثالية سقطت.
- في سياق الرمزية والتمثيلات الدلالية. نجد من أبرز الرموز في النص: "القنديل"، يقول الشاعر سعد الأبطح:
"ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً"
القنديل رمز للوعي أو الاكتشاف أو الانتباه العاطفي، و"إيقاده" يعادل يقظة القلب. لكن المفارقة أن الشاعر يتمنى ألا يُضاء هذا القلب أبداً، لأنها إضاءة مدمّرة. يشير هنا إلى رفض المعرفة التي تجلب الألم، كما لو أن الجهل العاطفي نعمة، في مقابل انكشاف القلب الذي قاد إلى الحزن.
"الصقيع – الوحدة – الفراغ"، يقول:
"فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدة".
الوحدة هنا أقلّ ألماً من الانسحاب العاطفي البارد، الذي يبدو أشبه بانطفاء النفس. يشكّل هذا التدرج الرمزي تراتبية بين ألوان الفقد: من فتور الحماس، إلى الوحدة، إلى الفراغ الكوني الذي "يصير ثقيلاً" إلى أن "يتمزّق". هنا تتجلى مجازات الانهيار الكامل للكينونة، حيث يتلاشى معنى الحب ومعه وجود الذات.
- في مجال التأويل الوجودي (المنهج الهيرمينوطيقي)
تشير القصيدة إلى جدلية الحضور والغياب، النور والعتمة، الامتلاء والفراغ، ضمن بناء هيرمينوطيقي يشي بأن الحب ليس تجربة شعورية عابرة، بل هو حدث وجودي يقلب كينونة الإنسان رأساً على عقب.
البيت الأخير:
"الفراغ الذي يصير ثقيلاً ......
ثقيلاً
إلى
أن
تتمزق".
يأخذ طابع الانهيار الدرامي التدريجي، ويُكتب كأنه تفكك زمني/لغوي متزامن مع التفكك الداخلي. هذا الشكل الأسلوبي (التقطيع البصري والطباعي) يعكس التمزق لا كمجاز فقط، بل كفعل وجودي. إنها لحظة موت رمزي. أشبه بما يسميه هايدغر السقوط في العدم، حين يصبح الإنسان مكشوفاً على لاشيئيته بعد انهيار المعنى.
- الإيقاع والموسيقى الداخلية في قصيدة " كيف لهذا التحرّقِ في الترقب"
من اللافت غياب الوزن التقليدي في القصيدة، مع حضور إيقاع داخلي متوتر، ناتج عن:
التكرار (كيف، ليت، ثقيلاً)
الجناس: "الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ"
الانزياحات اللفظية والعبارات المنكسرة.
كل ذلك يعزز موسيقى الحزن المترجرجة، ويضفي على النص هالة من الشجن المنضبط، كما لو أن الشاعر يُمسك بالحزن كي لا ينفلت، ولكنه يُظهره في صوته اللغوي.
خاتمة: النص بوصفه مرآة للشروخ النفسية العميقة
في هذه القصيدة لا نقرأ تجربة حب، بل نقرأ أصداء التلاشي العاطفي وما يخلّفه من فراغ وجودي. الشاعر الأبطح يمضي من الحب إلى تأمل فقدان الحب، من الوهج إلى العتمة، ومن الرغبة إلى الحداد. لا خطاب في النص سوى خطاب الذات لنفسها، بوصفها الساردة والشاهدة والضحية في آن واحد.
إنها قصيدة تكتب انكسار الكينونة أكثر من انكسار القلب، ويُحسَب للشاعر قدرته على تحويل التجربة الذاتية إلى نص رمزي كثيف، مفتوح على تأويلات فلسفية وعاطفية ونفسية متشابكة.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
........................
نص القصيدة:
كيف لهذا التحرّقِ في الترقب
هذا النشوبُ إثر الملامسات
وهذا الاضطرامُ خلال الإبتسامات
كيف لكل هذا التأججِ المبهمِ المسمى حبا
والذي أوهمَ النفسَ بلانهائيتها أن ينتهي،
ليبقى فقط
هذا الرجاءُ الخافتُ، والغاضبُ تارةً: ليت ماكان ظلَّ محاولةً
ليت هذا القنديلُ لم يُوقَد أبداً وبقيتَ متآلفاً وعتمتَكَ بعدما، تعلمت كيف تسيرُ فيها متدبراً مايسلّيكَ ويسعفكْ، أما أن يُضاءَ قلبٌ ثم يخبو رويداً رويداُ لحزنٌ يمسي اليأسُ أمامَهُ مجردَ صداعٍ خفيف، قد أكون كعادتي مخطئا، لكن شموسا كبرى لم تنجو من هكذا مصير،
ولتكتشِفْ: أنّ فتورَ الحماسِ أبردُ من صقيعِ الوحدةِ التي بذاتها أكثرُ رأفةً من خسارة من تحب، ثم الفراغ، الفراغ الذي يصير ثقيلا ......
ثقيلاً
إلى
أن
تتمزق .
***
سعد الأبطح