قراءات نقدية

فاطمة عبد الله: "أمطار الحزن" بين الحداد والتجدد.. قراءة نقدية جمالية ودلالية

يقول هانز جورج غادامير، أحد أبرز المنظرين في التأويلية الفلسفية (الهرمنيوطيقا) حيث يقول في كتابه "الحقيقة والمنهج" (1960):

"إن فهم النصوص ليس مجرد إعادة بناء لمعناها الأصلي، بل هو حوار مستمر بين القارئ والنص، حيث تتجدد الدلالات وفقاً لأفق توقعات القارئ وسياقه الثقافي."

يأتي نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد بوصفه نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالإيحاءات الرمزية والاستعارات الكثيفة حيث يوظف الكاتب ثيمة المطر بوصفها عنصراً دلالياً يعكس الحزن الجمعي والتجربة الوجودية للذات في علاقتها بالتاريخ والثقافة. في هذه القراءة محاولة للكشف عن البنية الجمالية والدلالية للنص. و السعي إلى استقصاء جدلية الحزن والأمل التي تشكل جوهر الرؤية الشعرية من خلال تحليل التكرار الإيقاعي الصور الاستعارية والتفاعل النصي مع "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب.

البنية الجمالية والتقنيات الأسلوبية

يتسم النص ببنية متقطعة تعكس التوتر الشعوري حيث يعتمد الكاتب على الجمل القصيرة المشحونة عاطفياً مما يعزز الإحساس بالتدفق الوجداني المتصاعد. يتجلى ذلك في استخدام التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات المركزية مثل:

"مطر، حزن، نحن"

حيث يؤدي هذا التكرار دوراً نفسياً وجمالياً.إذ لا يقتصر على الإيقاع الداخلي بل يسهم في ترسيخ الحالة الرثائية للنص.

على مستوى الأسلوب يوظف الكاتب المفارقة في تصوير المطر، إذ يتحول من كونه عنصراً طبيعياً إلى رمز مزدوج يعكس الألم والتجدد في آنٍ واحد مما يعمّق البعد التأويلي للنص ويمنحه قابلية للقراءة المتعددة. فالمطر في هذا السياق لا يغسل الأحزان بل يستدعيها ليصبح جزءًا من دورة الذاكرة والحنين.

التوظيف الرمزي والاستعاري في النص

نجد أن المطر بوصفه استعارة للحزن والتاريخ الجمعي، يُحمل المطر في النص معاني تتجاوز كونه ظاهرة طبيعية ليصبح رمزاً للحزن الممتد عبر الزمن إذ يعكس التجربة الجمعية للمعاناة. وفقاً لغاستون باشلار، فإن المطر في الأدب "يغسل الأحزان لكنه يستدعي الذاكرة العميقة للإنسان"، وهذا ما يتجلى في النص حيث يربط المطر بين الفقدان والتذكر بدلًا من أن يكون مجرد علامة على التطهير أو البدايات الجديدة.

العلاقة الجدلية بين الحزن والأمل

في فلسفة هيغل عن الجدل، يُنظر إلى التناقضات بوصفها ضرورية لنشوء تحولات جديدة حيث "لا يمكن للأمل أن يوجد دون معاناة تماماً كما يولد النور من قلب الظلام". هذه الجدلية تنعكس في النص حيث لا يُقدم الحزن كحالة ثابتة. بل كشرط ضروري لتحقق الأمل. ففي السطر الأخير من النص نجد:

"فالمطر وعد الحياة، وقصيدة العشق الأولى."

وهذا يعزز الرؤية الفلسفية التي ترى في الألم نواةً لإمكانية التجدد والبعث.

 استدعاء العصفور كرمز للأمل والتجدد

يظهر العصفور في النص كرمز للحياة والحرية لكنه محاصر في سياق شعري يجعل منه عنصراً هشاً أمام قسوة الواقع. هذه المفارقة تخلق توتراً بين التطلع إلى الأمل والشعور بالعجز، مما يعكس بنية وجدانية تتقاطع مع التجربة الإنسانية الأوسع.

التناص مع "أنشودة المطر" للسيّاب

يرى رولان بارت أن "كل نص هو نسيج من التناصات"، أي أنه لا يوجد نص مستقل تماماً عن غيره. في "أمطار الحزن"، يظهر التناص بشكل واضح مع "أنشودة المطر" للسيّاب، لكن النص لا يعيد إنتاجها بل يعيد تشكيلها وفق رؤية حداثية تتجاوز البنية الكلاسيكية.

التقاطعات والاختلافات بين النصين

في "أنشودة المطر"، يرتبط المطر بأسطورة الخلاص بينما في "أمطار الحزن"، يصبح المطر حاملًا لذاكرة الحزن والتناقضات الوجودية.

النص الجديد ينهل من روح السيّاب لكنه لا يكررها بل يعيد إنتاجها برؤية ذاتية أكثر ارتباطاً بالراهن.

هذا التفاعل النصي يمنح القراءة أبعاداً متعددة الطبقات حيث يتحرك النص بين الاستلهام والتجاوز مما يعكس مرونة الخطاب الشعري الحديث.

البعد الثقافي والسياقي للنص

ينتمي النص إلى تيار الحداثة الأدبية الذي يدمج بين النثري والشعري، حيث تتماهى الحدود بين التعبير الذاتي والرؤية الجمعية. كما أن البعد الثقافي العراقي حاضر بقوة، إذ يتقاطع مع التجربة الشعرية العراقية الحديثة التي طالما عكست أزمات الإنسان العربي والعراقي على وجه الخصوص.

النص يستحضر الذاكرة الثقافية للحزن بوصفها مكوناً أساسياً للهوية مما يجعله مفتوحاً على تأويلات تتجاوز البعد الذاتي وصولاً إلى البعد الاجتماعي والسياسي. هذا التداخل بين الفردي والجمعي و بين الحزن والتجدد و بين الماضي والمستقبل، يعكس رؤية فلسفية عميقة حول طبيعة الوجود والتاريخ.

يقدم نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد تجربة شعرية حداثية تتسم بالكثافة الرمزية والاستعارية حيث يوظف المطر بوصفه عنصراً جدليًا يجمع بين الحزن العميق وإمكانية الأمل. من خلال بنيته المتقطعة إيقاعه الداخلي وتوظيفه للذاكرة الثقافية يعكس النص رؤية حداثية للحزن لا بوصفه مجرد انفعال وجداني بل كجزء من سيرورة وجودية وثقافية.

***

إنجاز القراءة فاطمة عبد الله

..................

أمطارُ الحُزن

مثلَ دبٍّ قطبيٍّ، كانت غيماتُنا الوارفةُ الظلال، والشتاءُ يعتَمرُها قُبَّعاتٌ ليزيدَ سَحنةَ الظلامِ لونًا بَنَفْسَجيًّا، فَيَحيا قوسُ قُزَحَ حينَ يَهطُلُ المطرُ، لِتَرتَجِفَ أكتافُنا، نَرقُصُ بَردًا، نَدخُلُ البيوتَ ونُشعِلُ أرواحَنا، نُدفِئُ نارَ الموقدِ المُلتَهِبِ فينا منذَ عصرِ الحروبِ والجوعِ يَصولُ في البُطونِ.

نحنُ شَعبٌ توالَتْ عليهِ أمطارُ الحُزنِ لِتَستَخلِصَ مِنهُ كلَّ ما هو فَرَح. يا عُصفورَ المطرِ، حُطَّ على أكتافِنا وابْنِ عُشَّكَ، نحنُ شَجَرٌ تَحَمَّلْنا العَطَش، رُبَّما تُعيدُ لنا عِيدانُ عُشِّكَ الرُّوحَ المُمتلِئَةَ بالنُّثِّ الأبيضِ، فَنَنحَني تَحتَكَ لِنَهطِلَ مَعَكَ زَرعًا نَحلِفُ بهِ مِن كلِّ شرٍّ قادِم.

مَطرٌ... لا تَنتَظِرْ أوامِرَ الهُطول، لا تَنتَظِرْ حَبَّاتِكَ تَكبَرْنَ، انزِلْ مِثلَ الحُبِّ ماءً زُلالًا نُصَفِّي بهِ قلوبَنا المضروبةَ بالجُنون. انزِلْ لِنَحتَمِيَ بكَ ونَحتَفِلَ بكَ، سَنَزرَعُ أرواحَنا نَخيلًا وعَنبَرًا وعِطرًا وتُرابًا.

يا مَطرُ، ما زالَ السَّيَّابُ يَهطُلُ مَعَكَ شِعرًا، والكُتُبُ بَلَّلَها القُرَّاءُ وأنتَ تَمرُّ على جَبينِها لِتُعيدَ الخِطابَ الأبديَّ: أُنشودةُ المطر .

فانهمِرْ يا مَطرُ، اغسِلْ وُجوهَ الأزقَّةِ الحزينةِ، واخضَرَّ في قلوبِ العابرينَ، وامتَزِجْ بنَبضِ الأرضِ لِتُزهِرَ مِن جديدٍ، فالمَطرُ وِعدَةُ الحياةِ، وقَصِيدَةُ العِشقِ الأولى!

***

فاضل ضامد - العراق

2025

في المثقف اليوم