قراءات نقدية
فاطمة عبد الله: نفي الشاعرية وإعادة خلق الذات.. قراءة نقدية لنص "أنا لست شاعراً"
للأديب محمد خالد النبالي
يمثل نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز التصنيفات التقليدية تجمع بين النفي والإثبات كاستراتيجية إبداعية تعيد تشكيل الذات والشاعرية. تنطلق الأطروحة الأساسية من العبارة المحورية "أنا لست شاعراً" التي تعكس موقفاً فلسفياً يزاوج بين إنكار الشاعرية وممارستها مما يجعل النص فضاءً مفتوحاً على تعددية التأويلات وفق رؤية دريدا للنص باعتباره "غير مكتمل ومفتوحاً دائماً".
البنية النصية واستراتيجية النفي
يتسم النص ببنية مرنة تمزج بين الشعر والنثر في قالب حداثي، ما يعكس صراع الذات وانفتاحها على احتمالات لا نهائية. العبارة المتكررة "أنا لست شاعراً" تعمل كأداة تفكيكية حيث يتحول النفي إلى فعل يعيد تشكيل معنى الشاعرية.
وفق بول ريكور، "النفي ليس إلغاءً بل وسيلة للعبور نحو الممكن"، وهو ما يظهر في النص عبر استمرارية الكتابة كفعل إبداعي يتجاوز المعايير التقليدية. التكرار هنا لا يستخدم للتأكيد فقط، بل كوسيلة لإبراز انشطار الذات وسعيها المستمر لإعادة تعريف هويتها.
تجربة الذات ورحلتها نحو المعنى
النص يعبر عن تجربة وجودية ذاتية عميقة حيث تمثل الذات محوراً لحوار داخلي بين الانتماء والنفي. العبارة "أنا لست شاعراً" تُستخدم كنافذة لفهم صراع الكاتب بين رغبته في التعبير والقلق من التصنيفات التقليدية. الصور مثل "الظل الحامل للقلم" و"الغسق" تجسد هذا الصراع بين الحضور والغياب مما يمنح النص طابعاً ذاتياً فريداً يعبر عن قلق الإنسان الحديث وعلاقته بالعالم.
الرمزية والصور الحسية
تعكس الرمزية في النص حالة من التوتر الوجودي بين الذات واللغة. صور مثل "الغسق" تمثل الانتقال بين النور والظلام ما يعكس حالة الذات المتأرجحة بين الوعي واللاوعي، بينما تعبر صور "عطر الكرز" و"الطيور" عن احتمالات مفتوحة رغم قيود التناقضات الداخلية.
وفق رؤية هايدغر، "اللغة هي منزل الكينونة"، وهنا تشكل اللغة في النص فضاءً حياً يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم. الرموز ليست مجرد أدوات زخرفية بل تعبير عن تجربة شعورية عميقة تعكس رحلة الكاتب نحو تحقيق التوازن بين المتناقضات.
تجاوز التصنيفات الأدبية والانفتاح النصي
يمثل النص نموذجاً للأدب الحداثي الذي يكسر القوالب التقليدية حيث يدمج بين التأملات الفلسفية والتجربة الحسية في نسيج إبداعي واحد. الانفتاح النصي يجعل النص أشبه بشبكة من العلاقات المتداخلة كما يرى رولان بارت بأن النص الأدبي هو "نسيج مفتوح على قراءات لا نهائية".
هذا التداخل بين السرد والشعر وبين الذاتي والعام يفتح النص على احتمالات تأويلية متعددة تجعله عملاً أدبياً يعبر عن اغتراب الذات في العالم الحديث.
صراع الذات وقلق الكتابة
النص لا يكتفي بإعادة تشكيل الشاعرية بل يعبر عن صراع داخلي بين رغبة الكاتب في التجاوز وإدراكه لحدود الكتابة. يظهر هذا الصراع من خلال ثنائية "المتفرج والمتورط"، حيث تعلن الذات رفضها للشاعرية لكنها تمارسها بأسلوب واعٍ.
وفق رؤية جاك لاكان، الذات كيان غير مكتمل يسعى لاكتشاف نفسه عبر الآخر. النص يعكس هذا الصراع الداخلي في صور رمزية مثل "الظل الحامل للقلم"، الذي يجسد توتر الذات بين الحضور والغياب وبين الرغبة في الإبداع والخوف من التصنيف.
وهكذا نجد أن النص كتجربة إبداعية مفتوحة
في المجمل، يقدم نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز حدود التصنيفات التقليدية حيث يمزج بين الشاعرية والنفي لإعادة تشكيل الذات واللغة. النص يعكس قلقاً وجودياً عميقاً ويبرز صراع الذات مع القيود الداخلية والخارجية مما يجعله عملاً حداثياً يعيد صياغة مفهوم الإبداع.
بهذا، يحقق النص انسجاماً داخلياً وسط تناقضاته محولاً اللايقين إلى فضاء للخلق المستمر وفق رؤية تودوروف للأدب كإعادة صياغة مستمرة للوجود. النص إذن هو دعوة للتأمل في الذات والعالم، وفضاء مفتوح على تعددية التأويلات ورحلة دائمة نحو المعنى.
***
قراءة نقدية إنجاز فاطمة عبد الله
...................
"أنا لست شاعرًا"
في زوايا هذا العالم البعيد، حيث تلتقي الأشباح بالذكريات، أجد نفسي محاطًا بكتابات لا تعبر عني، ومع ذلك تشبهني. أنا لست شاعرًا، لكنني أتجول في أروقة الشعر، أستنطق الكلمات التي تخبئ في طياتها سرًّا لم يُكتشف بعد.
تتلاشى الصورة في الأفق، وتمتد الأعداد بلا حدود، كما تمتد المسافات بيننا وبين ما نريد أن نكون. أرى الناس، كل منهم يحمل حكاية، ورقة مهترئة من كتاب مفتوح. أتساءل: ماذا لو كانت تلك الحكايات تختبئ وراء ضباب العواطف كالنجوم التي تخفت في سماء ملبدة بالغيوم؟
في الزاوية، هناك ظلٌّ يحمل قلمًا، وقد كُتب عليه "أنا لست شاعرًا". لكنه يكتب، يشمخ بجمل ملتوية، كأغصان شجرة عتيقة تتمايل في مهب الريح. أرى في عينيه تجاعيد الزمن، ملامح مشاعر هاربة، كرامة الوجود التي تكاد تُنسى بين ضجيج الحياة.
أوّلستُ جزءًا من هذا النسيج؟ أأنا فقط المتفرّج على العواصف، بينما الكلمات تتراقص في دمي؟ الضحك الذي ينبعث من داخلي، يخلط بين الفرحة والحزن، يشبه رقصات قناديل مصنوعة من الفضة تضيء ليالي الشتاء الحالمة. في قلب كل كلمة وقلم، تنبض الحياة، رغم أنني أقول: أنا لست شاعرًا.
الألوان تتداخل كأنها مشاعر متشابكة، فالأسود يتزاوج مع الأبيض ليخلق ظلالًا جديدة، تعكس عواصف أفكاري. أحيانًا، أتمنى لو أستطيع احتواء تلك الألوان، لكنني أكتفي بانتشال الرمز من فراغ لا نهائي. صور الذكرى تتراقص في عقلي، بعضٌ منها مرعب، وآخر جذاب كعطر الكرز في أوائل الربيع.
الليل، له شفافية تعكس ما لم يُقل، والأماني المنسية تتسلل كالجرحى إلى أعماق القلب. مشاعر رهينة، تواجه الأفق المجهول، وخلف كل جملة نطق بها لسان، تمشي الأحلام بصمت. هل أستطيع حتى أن أفكر فيها؟ هل أستطيع أن أكون صوتًا من بين الأصوات الضائعة؟
أنا لست شاعرًا، لكنني روحٌ تتنقل في ملكوت الكلمات، تتخبط بين المعاني، تبحث عن معنى، وتضيع في دروبها، كعصفور في سماء مفتوحة بلا حدود. أتحسس القلم بين أصابعي، أدرك أن الشاعر فيني محبوسٌ، ينتظر زيارتي مرةً أخرى. وككل زائر متخوف، يسأل: هل تقبلني يا صاحبي؟
مع كل همسة في الهواء، يتردد صدى تلك العبارة: "أنا لست شاعرًا." ولكن، ماذا لو أصبحت في أحد الأيام؟ ماذا لو كانت كل تعبيراتي خيوطًا تنسج حكاية، تتسلل إلى قلوب الآخرين، تلامس أوداجهم؟ حينها، قد أقول: أنا لست شاعرًا، لكنني أستطيع أن أكون.
وهنا، تنتهي كلماتي في أفق من السراب، حيث تتراقص الأحلام وسط الكلمات، في انتظار أن يلامسها قلمي مرة أخرى.
***
محمد خالد النبالي