قراءات نقدية
إنعام كمونة: شعرية التناص الروحي وصوفية التعبير.. أنموذجا الباحث ماجد الغرباوي
يقول الإمام علي بن أبي طالب: (لَوْلاَ أنَّ الْكَلاَمَ يعُادُ لَنَفِدَ)
وهو في غمرة البحث والتفكير حاملا شعلة التنوير في دروب العتمة ليضئ من استظل بمفاهيم خاطئة لتمزيق أشلاء الأمة الاسلامية، نراه يواصل النشر، يطرح آراء جريئة، لا يتهيب الممنوع والمحرم، بل يقتحم كل الفضاءات المعرفية الممكنة، كل ذلك من أجل حياة إنسانية، وعيش مشترك، لا تعكر صفوته اختلاف العقائد والأفكار البالية.
ورغم انشغالاته المعرفية، فتح باب الحوار المباشر مع النخبة الأكاديمية والمثقف، أجاب فيه على مختلف الأسئلة، وكانت جميع أسئلته تنتظم في سياق مشروع التنوير، الذي هو مشروعه الأساس، ومن أجله ضحى كثيرا بصحته وعافيته، وتعرض لحصار اجتماعي، وابتعاد الاصدقاء. فليس كل شخص يطيع النقد، ولا كل مثقف يقبل الرأي الآخر، والباحث ماجد الغرباوي معروف بآرائه النقدية الصارمة، وطروحاته التجديدة الطموحه. وبالفعل حقق نجاحات واسعة، وانتشرت أفكاره سريعا، من خلال كتبه التي حملت عناوين جديدة، تجذب القارئ الباحث عن الحقيقة. خاصة وهو يمارس النقد باقصى مدياته، فتناول بالنقد العقل التراثي، والنسق العقدي المتداول كما يسميه في كتبه ومؤلفاته، وتحرش باالممنوع الديني، والعادات والتقاليد، كل ذلك من أجل بيان حجم الزيف الذي مارسه رجل الدين والسياسية، عندما قدموا مصالحهم على مصالح الدين.
ورغم اجتهاداته الفكرية وبحوثه النقدية، إلا أنه متذوق للأدب كتب قصائد شعرية، وقصص قصيرة، لفتت نظر القراء والنقاد فكتبوا عنها مقالات عدة، ولولا قلة وقته على ما أعتقد لنبغ بروعة وتميز كما في بحوثه. فمن يطلع على نصوصه الشعرية وقصصه الخيالية يثبت انه أديب محترف، وكاتب متنوع بمقدرة أدبية وخبرة رائعة رغم قلة كتاباته الأدبية التي تغني عن الكم بروعة التنوع والإبداع. نصوص زاخرة بالحكمة والموعظة، وآراء صوفية وتناصات تراثية.
Introduction:
It has been taken from Sufi literature as one of the means of formation in modern poems and as elements of their artistic structure, especially in contemporary literary texts, with the modernity of thought and the opening up of human sciences. Sufi poetry springs from the devotions of the soul with a pure conscience, not merely through imitation and quotation but as a result of refined emotion and deep personal feeling. The impact of an experience that has settled in the depths of the soul emerges through a spiritual labor that transcends all boundaries of passionate feelings. It has become, in the course of pure love poetry, an expression of emotion, which led us in this research to quote from Sufi heritage and the Quranic allusions that suggest symbolic meanings in the poet's language of majed al gharbawi, with a poetic structure that accumulates in the subconscious as a researcher in religious beliefs and a widely knowledgeable literary scholar in human, scientific, literary, and social sciences, as required by his humanistic research.
تمهيد
يتجلى في الرؤية الشعرية للباحث ماجد الغرباوي، والتي هي من وحي مسارات افكاره الفلسفية وتأملاته العقلية في دروب الذات الواعية باستشعارات الفكر الصوفي، تعكسها سيميائية النص عبر مصطلح اسلوبي في النصوص الحديثة، ألا وهو عنصر التناص القرآني، ورغم تضارب الآراء حول تعريف محدد للتناص في الأدب الغربي وما أثار من جدال واسع، لكن لا اعتراض عليه كعنصر من عناصر النص الحديث لإثراء القصيد، لما يختزنه من بعد دلالي لفكرة النص، يغني تأويل القارئ. وما أن نذكر التناص حتى يمر بأذهاننا الباحثة البلغارية جوليا كريستيفيا والتي أول من اقترح تسمية التناص كمصطلح بمفهومه النقدي في النص الحديث. يشير جينيت أن هذا النوع من العلاقات قد اكتشف من قبل كريستيفا في كتابها (sémiotique)، ويعرفه بأنه: " علاقة حضور مشترك بين نصين أو عدة نصوص " وهو اقتباس أو تلميح أو انتحال"، أما في الموروث العربي يطلقون عليه التضمين، التلميح، الأستعانة، الإقتباس، السرقة وغيرها.
إن نزوح بنية التناص الصوفي، بالإقتباس أو التناص، صيغة أسلوبية مستحدثة لسيميائية النص المعاصر. لذ يستعير الشاعر بعض من معجميات، ومصطلحات، أو رموز من التراث الصوفي، يضمنها فضاء رؤاه بخصوصية لغة رامزة تعبر بالمحسوس عن أللا محسوس. وللتناص عدة تعاريف عربية وأجنبية منها ما عبرت عنه جوليا كريستيفا بقولها (أنه ترحال للنصوص وتداخل نصي في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص اخرى)، وليس بالضرورة ان يكون الشاعر ذو نزعة صوفية أو تجربة صوفية، بل يستمدها من الهام معرفته بميتافيزيقية التراث وتاريخ عقائد، فيروض لغته الشعرية لفلسفة صوفية التناص، واستعارات تقنية فنية مغايرة التشكيل، تتراسل مع واقعنا الفكري والأدبي بصيغة حداثة عصرية الإبتكار، وذلك استدعاء رؤيوي بتلميح أو تصريح، وخوض روحانية الذات بقدرة إبداعية، غير مقيد التأويل بابعاد الظاهر والباطن فيكون الموضوع أكثر أثرا لتجلي البعد الدلالي في ذهن القارئ بفك شفرات النص.
نستخلص برؤانا أن التناص الاستعاري حصيلة حوار ضمني متبادل بين النصوص وما تشَرَب في فكر الشاعر من مشاعر وجدانية وأفكار فلسفية تختلط باصداء ذاته وتترسب في اللاوعي من عمق المعرفة، والتي لا تخلو من الطابع الحسي لإيحاء دلالي بذرى المعنى، تتمنهج ذهنيا باحداثيات التأثر الفردي أو التفاعل العام، من روافد واعية ولا واعية بكينونة أفق التأمل من ذات الشاعر، فكيف أن كان الأديب باحث في علوم الأديان والعقائد، وملم بأيات القرآن الكريم وتراثه الزمني، وله مؤلفات كثيرة بنقاشات وقراءات تزيح ضبابية المعنى، وتتوافق ذات الوعي برؤى تحليلية للنصوص التراثية، تطرح بُعد القصد لتغييرات الأجيال وتغيرات الزمن، بحداثة تناسب زمنية العصر، والتي لها دعائم اجتماعية وميول نفسية واتجاهات أدبية وعلمية لفنون معرفية كثيرة بتراكمات سببية تتقصاها شفافية الذات لتقطف ما يثري المعنى وتنضج روح الفكرة بتقنية اسلوبية عبر إشارة أو علامة أو رمز، والتي أشار لها في كتاب الفقيه والعقل التراثي1.
وقد أُخذ من أدب التصوف كأحدى وسائل التشكيل في القصائد الحديثة ومن عناصربنيتها الفنية خاصة في نصوص الأدب المعاصر بحداثة الفكر وفتح آفاق العلوم الإنسانية، ولأن الشعر الصوفي ينبع من بتلات الروح بوجدان نقاء، وليس عن طريق الإقتباس والتقليد والتناص فقط وإنما نتيجة رهافة العاطفة وعمق الإحساس الذاتي، فنبثق أثر تجربة ترسبت في باطن الروح بمخاض روحاني التعلق يتجاوز كل حدود مشاعر العشق، فاضحت بمطاف الغزل العذري في التعبير الشعوري ولنستقرئ النص يتهادى حُلما:
يتهادى حُلما
العنوان:
العنوان ثريا النص وأول ما يلفت ذهنية التلقي، فهو العتبة الموازية لهوية النص ومرآة الفكرة، يستبصره القارئ ليقطف منه لُب الرؤى جزئيا أو كليا. هو النسق الأول الذي يحفز بصيرة القارئ لاكتشاف جوهر النص فيرسو للبحث والتمحيص والاستمرار، ومنه نتطرق لعدة مستويات اجرائية في اللغة الشعرية، وقد يكون أحد مفردات النص، أو بعيد كل البعد عن أي جملة للنص، لكن الإبداع أن يحمل كينونة النص بتكثيفٍ عميق وعبارة تضئ ذهن المتلقي للتذوق بشغف.
توهجَ عنوان النص (يتهادى حلما) جملة شعرية مختزلة التعبير، أنيقة التركيب، شفيفة القوام، يتجلى عبر تركيبها الدلالي تموج إيحائي من العنوان بالفعل المضارع (يتهادى)، ليوحي بحسية دينامية مستمرة الحركة، وقد أردفها برمز(الحُلم) بما يتوارى خلفه من سيميائية غائرة يختزنها من تموج معنى يتماه بمرونة دلالات عدة بين الحقيقة والخيال، والممكن والمستحيل، محفزة رؤى القارئ لاكتشاف فحوى النص، ويفتح شهية التأمل الصوفي بمديات رؤيوية بتدفق إيقاعي يخلق تداولية متنوعة الحواس، منسجمة مع مستويات مفاصل النص.
استهل الشاعر أولى العتبات جملة فعلية بتركيبة فنية رقيقة النسجة، وتشكيل بنيوي فني رائع التماهي، تتجلى من الفعل المضارع (يتهادى) بمعنى التراخي..التأني.. الدلال..والتمهل، توحي بدلالة التقدم والمسير في مكان ما، ربما تشي لدلالة التمرد على صيغة الوصول لحلم الواقع الفكري.. الحسي ..والنفسي، نستشعرها مادية حواس ومعنوية شعور، تتراءى لنا تكرار الحركة ببطئ مقصود ولربما غير مقصود بتأثير عوامل أخرى، وقد تشي بتشبيه التسلسل الحركي الفيزيائي الدلالة، ك(مد وجزر)، وما ضمر من غائر دلالي يوحي بانتظار أمنية عصية الحضور، برغبة ملحة من آنٍ لآن بوجدان الأنا المتلهفة، نستخلص منها بما تتفتح لديه من خواطر ذهنية مشبعة من ثقافته الفلسفية.
وحين نعرج لطوبوغرافية الحُلم نستلهم منه روحانية رؤى تنبثق بؤرة دلالات لرحلة مبهمة عبر متاهات زمن غير معلوم بللا وعي، مما خلق اقتران زمني بتضاد الحواس بين الاستمرار والتوقف على مستوى الحركة والسكون، بتداخل متآلف بين الماضي والآني والماضي والمستمر، ما يؤول في ذهن المتلقي سيرورة زمن لحدث معين برؤى التأمل، كي يمنح مشهد شعوري حيوي التأثير.
وظف الشاعر رمزية الحلم برؤى صوفية مستوحاة من لغز فضائه الواسع، ومرجعيته المعجمية الملهمة الإيحاء من دلالات انثروبولوجيا عقائدية ممتدة عبر تفسيرات الحُلم من سوسيولوجيا التراث الديني والحكايات الملهمة التناص بروحانية الإشارة، متجذرة عرفانيا بالشعور واللا شعور من تلقائية التأمل، وبما تستحوذ ثيمة الحلم من سيميائية خصبة الخيال غامضة التفسير محببة للنفس البشرية، وأهوائه المكبوتة، مما يطلق عنان التفكر للتأويل من غياهب الذات المتسائلة عن عمقه الفلسفي.
ولنعوم بتفاصيل دلالية أدق، لنتقصى الفعل (يتهادى)، فعل متعدي له نبرة صوتية لينة بحروفه الألف .. الياء.. والهاء، وبما يتضمن تكوينه من تآلف صوتي، ينساب على مسامع القارئ بإيقاع لفظي مموسق مع مفردة الحلم، وبما لها من لحن شفيف الخيال، يشحن سمات التذوق بدلالات عامة وخاصة التلقي، تتشظى بجمالية إيقاع محبب على مسامع الذات، مما أعطى بعدا دلاليا أوسع للتأويل من لحظات حلم بتردد متداخل متماوج المعنى بواقع متآلف الروعة، فتجانست موسيقى تناغم بلسانية تواصل معبرة عن تراسل مفعم بدينامية إيقاع تشي بمعاناة الانتظار، يثري تأويل التلقي على مهل تدفق رؤياه.
ومن الإدراك الحضوري للمجهول بالفعل (يتهادى) والذي يعود على الضمير (هو) مرتبط بعالم الذات الشاعرة والمرتبطة روحيا بمعجمية (الحلم) يجعل العلاقة بين الحقيقة والوهم واقع إدراكي نفسي لمحنة المعاناة، وهو الترابط الروحي والمادي بتخيل ابداعي وقطفة شعورية رائعة لتحيين الآني باستمرارية تحيل القارئ لتحديد نقطة التوقف في نقطة ذهنية الاختيار.
نستنتج أن عتبة العنوان بينية الإيحاء، مستترة خلف رحلة متآلفة الاختلاف، متداخلة ما بين زمن مجهول بفعل (يتهادى)د لالة غير منتهية الوقت (غير معلوم)، وزمن معلوم (الحلم) لأنه ينتهي بزمن اليقظة، فنستقرأ مما يبدو مستوى مقاربة بتوازن مذهل، مما يحث المتلقي للتساؤل بشغف أدبي من هو الذي يتهادى حلما؟، وهل سيبقى يتمايل ما بين القبول والرفض؟، ليبقى الحلم بين دفتي التهادي بدلالة التشويق؟، أو يبقى التهادي حلم متصوف بايمان متجذر أوشكَ الوصول الى صورة الحقيقة؟ ربما!!، لكن من حيثية التساؤل لماذا، ومتى؟، نلتقط من بعده الغائر مدارك أُخرى تسترعي استمراره أو التغاضي عنه بتطويع ثقافة رؤى التلقي.
نلاحظ البنية الثنائية التضاد من العنوان بالفعل يتهادى دلالة إداء بارادة النفس لغرض معين، أما الحُلم غيبة روحية معنويا لا إرادية، فنستبصر تمازج العناصر رغم تغاير الصفات للمفردتين، فنقرأ من خصائصهم المنصهرة سويا بتوازن كُلي، بعض التناقضات الحياتية الخفية بميتافيزيقية الوجود، من خلال دلائل صوفية مثل (الموت والحياة، الجسد والروح، العقل والقلب، الوعي اللاوعي، حسي وغير حسي) وغيرها.
النص:
إن لجمالية التناص الصوفي في اللغة الشعرية أثر على شهية التلقي في الشعر والنثر على حد سواء، وفي جميع الأجناس الأدبية، وهذه تقنية الشاعر إذ يطوع لغته الشعرية بفلسفة حداثة رؤاه وينتقي من ذاكرة التراث ما يغني مضمون الفكرة وفنية التنسيق إذ يفتح للقارئ بابا لتاريخية التراث والكثير من المفاهيم الصوفية التي تُثري التأويل الدلالي بإيحاء فسيح التأمل.
لنقتطف بعض من عتبات النص وقراءة بعض الصور الشعرية، ومنه ننحو لصوفية التناص من النسق التالي:
نافرةً هوتْ زنابقُ البحر
توقاً إلى رَعشةِ اندهاشٍ
سَرَقَتها آلهةُ النارِ
فَطافَتْ بها سبعةً ..
مشدودٍ لذلك الفجر
لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ
تُشاكسُ دَمدَمات المَطر
وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً
لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير
باستعارات رقيقة تهفو بعذوبة البوح نستمتع بجمال التضاد الغائر من العتبة الأولى (نافرةً هوتْ زنابقُ البحر) نلاحظ بلاغة التعبير في الصورة الشعرية ما بين النفور، وهو الهروب والابتعاد بصدمة وذهول، فتتجلى حركة المعنى تصاعديا، وما توحي دلالة الهبوط تنازليا في (هوت) وهو السقوط المفاجئ، اختلاف الاتجاهين بين ارتفاع وهبوط يقترن ببيان مؤتلف رائع الحركة بتأثر نفسي للحدث، أحالة تأويلية عن الصدمات القاسية مواربة لقسرية الهجرة الفجائية والتشتت الجمعي.
ومع محاكاة استعارية من رموز الطبيعة في (زنابقُ البحر)، فرمزية الزنابق تتجلى سيميائية استعارية لتشبيه أنوثة المرأة بإشارة صوفية الدلائل عن جمال ورِقة المرأة، وكذلك رمزية البحر أحد رموز الصوفية لأن الماء دال على الحياة والنقاء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)2، وأسرار ربانية أخرى عن كنه حيوية الماء فالبحر عالم يلفه الكثير من الغموض المفعم بغرابة كائنات حية، وبهذا رسم الشاعر تعبير مجازي بصورة فنية المبنى بانزياح تركيبي دلالي التأويل، نستنتج منه إحالة استعارية جمعي لمعادل موضوعي عن تناقضات الحياة لعموم الوجود وعدم الاستقرارللرجل والمرأة.
عمد الشاعر تقنية التناص الصوفي بستراتيجية نصية مستوحاة من رمز ميثولوجي ديني، ينتمي لأسطورة يونانية من أساطير حضارات قديمة هي (آلهة النار)، كما ذكر البعض أنها اسطورة هندية بحكاية تراثية معروفة عند الهندوس لها جذور دينية واعتقاداتهم وفي كلتا الحكايتين لها بعد فلكلوري صوفي ومسحة روحانية لتزكية أعماق النفس بمظهرها الشعوري، وكيانها الانساني بقوة مكابدة فكرية، تغري الفضول الأدبي القارئ وتجذبه للمتابعة الشيقة.
وظف الشاعر مشهد حسي جميل بصورة شعرية فنية الانزياح في النسق التالي (سَرَقَتها آلهةُ النارِ)، صياغة رائعة بكثافة دلالية صوفية.. روحانية بحتة، تتعالق بين الذات الشاعرة والتلقي، يتبادر لذهن القارئ تساؤلات عقائدية متعددة، هل يحق للآلهة أن تسرق وهى رمز عبادة؟، وبأي شرعية يحق لها أن تسرق؟، أي مبررات توحي سلوك وتصرف إنساني، يستدعي السرقة؟، إحالة دلالية التأويل ازدواجية الأنا بسيكولوجية الصراع المادي والنفسي في واقع ميول البشر، تتجلى التستر خلف ستار الدين من تهتك مبادئ، وهذا ما يسترعي انتباهنا الى الشاعر الغرباوي وجهوده المكرسة بهوية باحث عقائدي، وما اشار اليه عن أسباب التباس المفاهيم وتزوير الوعي خاصة التباس المقدس بالمدنس، والتشريع الديني بالرغبات البشرية مشيرا لها بتفصيل في كتاب منجزه الفكري (النص وسؤال الحقيقة نقد مرجعيات التفكير الديني)، فنرى في نصهِ بصمة بحثية لا تخلو من توجهه الفكري التنويري وانعكاسه على خياله الأدبي فانزاح من تأمله الثقافي باضافة النسق المقصود.
نلاحظ سيميائية التناص الصوفي البحت من الصورة الشعرية (فَطافَتْ بها سبعةً)، بخلق تواصلية استكشاف لذهن القارئ، فهل تحل شرعية السرقة بسلطة الأطماع؟، نتقصى مكنونات عميقة الدلالات متناقضة الإيحاء نظرا لاستكمال طقوس العبادة لإثبات شرعية السرقة باتمام الطواف!!، فنستبصر مدى دلالي يذكرنا بمقولة (كلام حق يراد به باطلا)، تتراءى إحالة سيكولوجية غائرة الإشارة بروحانية الشعور تغوص بعدة دلالات تضاد منها، (الجريمة والعقاب، الإثم والبراءة، الأخذ والعطاء الكذب والصدق، الشك واليقين).
من تقنيات النص الحديث الاستعانة بالرمز الأسطوري لحضارة ما، يستمد منه مقاربات لدلالاته الضمنية باختزال جوهر الفكرة، فيسعى الشاعر للغة الرمز لربط دلالاته الحسية بملامح واقع تأثره النفسي، نابعا من محيط معاناته الإنسانية ببعد اجتماعي وتاريخي، فتعالق الذات بالموضوع مسار البعد التخييلي من اللاوعي، ليستمد من رمز الأسطورة طاقة إيحاءات لإيفاء المعنى وتكثيف الدلالة بإحالة جديدة من الخيال بما يلائم أتساقه ضمن النسق يضفي طابعا غير مألوف يثير شهية الشك الرؤيوي، ويحرر يقين تأمله بفتح أبواب الإلهام في ذهن المتلقي بحيويات دلالية عدة، منها تسترسل ملامح من قصدية الفكرة لإعادة خلقه برؤية ما في ذهن القارئ ليحيى ببعده الأسطوري نوافذ تأويل دلالي تستسقى من معرفة القارئ.
نلاحظ دلالة التأكيد لإتمام طقوس الدوران المغلق بالرقم سبعة، وهو رقم صوفي بتأثير طبوغرافية التصوف، لتكتمل كينونة الانعتاق الروحي بخلع الأنا، وارتداء معنى النقاء باصرار الذات المتعبدة، ثم التوحد المطلق مع الخالق عرفانية مناجاة باشتغال كافة الحواس، وعلى ما يبدو يترك لنا الشاعر أفق تأويلي مفتوح الدلالات بمغزاها المبطن يستنتجه شغف قارئ ليستشف المعنى الدلالي القريب لتفسيره التذوقي.
اعتمد الشاعر على توظيف رمز العدد (سبعة) بما له من إشارات توحي بتناص ديني في كثير من الآيات القرآنية بتعدد دلالاته الكونية ومنها على سبيل المثال لا الحصر لتعددها (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)3، ورمز متكرر في العديد من التقاليد الاجتماعية التراثية، ودلالات ميتافيزيقا الكون، فالتيمن باليوم السابع عقائدية وجود كما في تضادات مختلفة في اليوم السابع للولادة والموت.
وهناك الكثير من ظواهر كونية فيزيائية للرقم سبعة كالطيف الضوئي وغيرها، فليكن للقارئ الشغوف وجهة نظر تنبثق من ذهنيته المتأملة ومنطق صوفيته ليغني إحالات التأويل بإدراك عوالم صوفية، تتحفز بفلسفة رؤياه ونطاق تذوقهز أو فيما يتشظى لديه من روحانية تفوح من عمق الباطن من الدلالات حين تنغمس النفس البشرية في رحاب تجليات العبادة تغرق في الانعتاق الروحي بحرم قدسي التعبد، والاعتراف بشتى العبودية للتحرر من دنس الذنوب والخطايا، تتشكل في طواف الانتماء للآلهة بجرس صوفي الإيقاع تهتز له المشاعر يبدو من العتبات التاليةك
تَتَهجد...
تُرتّـلُ قداساً مكتومةً أنفاسهُ
وتَطوفُ حولَ مَدارٍ
فنلاحظ مفارقة حسية مكثفة الإيقاع بكيان شعوري متنوعة منفصل عن الذات، بتشكيل صوتي لحركة الأداء من الأفعال المضارعة (تَتَهجد، تُرتّـلُ، تَطوفُ) باستمرارية متخمة الشعور في صوفية اللاوعي، ومن التغاير الحسي في تكثيف الجمال الذي أبدعه الأديب الغرباوي باستعارة تضاد دلالية غائرة الرمزية في (مكتومةً أنفاسهُ) نستخلصها بين دينامية تردد الأنفاس وقسرية السكون الروحاني، إحالة تأويلية دلالية عن هوية صوتية عميقة صوفية التناص لهاجس نفسي منها ترددات الخوف من المعبود.
نلاحظ دلالات التنوع الزمني في العتبات التالية ببيان التأويل رؤى حسية ببنية استعارية لرموز الطبيعة
مشدود لذلك الفجر
لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ
تُشاكسُ دَمدَمات المَطر
وتُدندنُ أغنياتٍ مهمَلةً
لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير
استخدم الشاعر سيميائيات نسبية.. بينية مبهمة التوقيت (مشدودٍ لذلك الفجر)، (لأولَ يومٍ تَمايلتْ فيه الريحُ) توحي لفترات زمنية غير مرتبطة بكينونة زمنية محددة، تشي لزمن ماضٍ، وباستخدام الشاعر معادل موضوعي لمشاعره الوجدانية من خلال رموز الطبيعة (فجر، مطر، عصافير) معبرا خلالها عن عاطفة شعورية تتوسد لاوعيه بصيغة صوفية الأحاسيس، لها ايقاع صوتي من الذكريات وطاقة حركية بفاعلية الواقع من الأفعال الحسية التالية: (تمايلت، تشاكس، تدندن، تداعب)، نستقرئ زمنية احاسيس مؤثرة بذات الشاعر مكثفة التأويل الدلالي تنُم عن تناص صوفي.
كما نستقرئ دلالة الإحباط النفسي من عتبات خاتمة الفقرة الآولى (أغنيات مهملة، لا تُداعبُ زَغبَ العَصافير) تشبيه رائع بايقاع صوتي لمشاعر الوجع عبر إيحاء الرموز الصوتية، بعمق حسي وفكري التأمل، عما يجول بحياة لا قيمة للأنسان فيها بتواتر الزمن ومن ابسط متطلباته إحالة تأويلية للإحباط النفسي.
لنتابع الفقرة الثانية من النص نقرأ مناورة شفيفة المناجاة، وانثيالات حسية بصور شعرية رومانسية التعبير، رقيقة الوصف، لا تخلو من سيميائية تصوف
نلاحظ من الصورة الشعرية المركبة الانزياح (أَغدو وأنا المُتَيمُ ... شفقاً)، نرى دلالة صوت الأنا العاشقة برؤى صوفية رقيقة، بسيميائية زمن مستمر المعاناة، ثم يترك الشاعرلنا فسحة توقف بعدة نقاط لتصورات تستفز تذوق القارئ، لنسميه بياض تأملي، فدعانا لتشبيه جميل للزمن متمثلة بهذا الهيام كحالة وسطية بين انتهاء بقايا ملامح الليل، وبداية شروق نور لفجر جديد تمهلنا التفكر في رمز من الطبيعة شفيف المعنى صوفي التأمل، ورغم أن الشفق علامة زمنية وقت قصير المكوث، إلا أنه وقت جميل المنظر بانبثاقه في السماء كما نعرف في اختيار المفردة ليس عبثا من أديب مبدع بفرضية التشكيل الفني لنصه بتناص شعوري، وكمفكر إسلامي وباحث عقائدي دقيق الإختيار لتوظيف رمزية معجمية. الشفق يرنو لسيميائية دلالة إحياء طقوس الدعاء بانجذاب روحي شفيف بالتوحد مع طيف العاشق المدلل التهادي، نستبصر منه سيميائية تضاد غائرة تشي عمومية الدلالة، إحالة دلالية التأويل صوفية ..روحانية لتحقيق أمنية مضنية لحلم الشعور.
ونتابع سمة ترددات التهادي في نسجة الأنساق المتوالية من الصور الشعرية البارقة بجمال رومانسي المناجاة، (حينما يُغازلُ دفؤكِ لهاثَ أنفاسي)، وصف وجداني أنيق التعبير بمشاعر حميمية التوله بسيمائية دلالة زمنية عامة، إذ وظف مجمل الحواس بتكثيف منطقي ملتهب بغزارة حسية، في صورة شعرية رائعة بليغة التعبير تفوح بطاقة شعور صوتي الترنم لمناجاة الأنا، وتتجسد بروعة صياغة تركيب الإنزياح الدلالي وتقنية التشكيل، أجادها الشاعر الغرباوي للتعبير عن تهادي الحلم لظرفية ذكرى، فأراق الزمن برغبة صوفية تحث التلقي عن كشف المعادل الموضوعي لعاطفة تجتاح هنيهات روحه.
ونقطف روحانية أحاسيس من الصورة الشعرية التالية (فَتُراودُ أَحلامي جَمراتُ شَوقٍ)، نرى رمزية الحلم دلالة صوفية التناص لقوة الإنفعال من خلال هذا التعبير البسيط والعميق الإيحاء يتدفق زخم عاطفي للأنا المغرمة بضمير التملك، وسيمائية توحي يوتوبيا تكرار حُلم دلالة الإصرار فيما تكثف في اللاوعي، ومنها نسترجع ملامح العنوان بقوة انسيابه مع كل نسق، إحالة دلالية صوفية التجلي عن تهادي ذلك الحلم بانتظار اللقاء بلا زمنية ممكنة .
وبتأكيد استمرار الحلم وتكراره، من واو العطف للصورة الشعرية التالية، (وحَفنةُ آهاتٍ تُطاردُ ظِلاً)، نستمتع بنغمات حسية الإيقاع وصدى سيكولوجية المشاعر بلهاث اشواق الحبيب وزفرات الوله خلف الحُلم، نستنتج من استعارة رمز الظل صوفية دلالة للشعور المعنوي لخيال عاشق، ويبقى اشراق طيف الحبيب متواري خلف تمني المحب وحلم يتهادى رقة وعذوبة مفعمة الاشواق بتأكيد ذلك الحُلم.
ونلاحظ بلاغة الصورة الشفيفة الرومانسية من وحي الطبيعة، بسيمائية تشبيه يشي بالتكثيف الدلالي لرمز البنفسج وعطره عن المرأة الحبيبة في بلاغة صوفية غائرة الإيحاء من التعبير الآتي (يُسابقُ البَنَفسَجَ عطرُهُ)، فنستبصر الشعور النفسي في اللاوعي يحتل كل مدارات التذوق الحسي، ويشغل كيان الأحاسيس للشاعر بخصوصية روحانية التناص تندمج بذاكرة أدبية تأخذنا لأغنية ليل البنفسج بصوت ياس خضر وشعر مظفر النواب، معبرا عن سباق لهفته للحبيب بنعومة التشكيل، إحالة تأويلية تجسد حنين العاشق لكيان حبيبته الغائبة بصوفية تعلق، بدلالة نفسية تشي باستنشاق العطر عن حسية ذكرى راسخة التأثير في روح الذات، فاللمرأة خاصية صوفية الرمز، تدل التعلق الراقي في مصافي الحب كالتعلق الروحي عند الصوفيين بتشبيه استعاري بليغ .
ولننحو للفقرة الثالثة من النص والذي يتميز بها استهلال العتبات باستمرار الحلم بمخيال رائع، ففي النسق التالي
ضاحكةً عيونُ المَها
تُلامسُ شغافَ قلبٍ
يَسهو في مِحرابهِ
ما زال الشاعر برحلته الروحسية (الروح والحسية) وذاتية الحلم يتهادى ليلامس شغاف حواسه السارية في محراب عشقه معتكف بمناجاة مشاعره الطليقة والمتيمة، فيتغزل بصفات حبيبته باستعارة رمز أنثوي التشبيه هو رمز عيون المها المتمثلة بجمال الوصف للمرأة، ومن سيمائية الأنساق استخدام توبغرافية الحواس بحسية التعبد والدعاء في محراب الحب تشبيه استعاري عميق يستفز فكر القارئ ورؤاه التأويلية الدلائل بتساؤل فهل يسهو العابد في محراب عشقه.. ومتى؟، سيمائية سمو عرفاني عبر المحسوس منعتق التأمل، فهو في حضرة انسجام شعوري مع أنا الحواس لربما الغياب عن العالم الحقيقي بخيال سارح يغيبه عن الواقع بعناق الحُلم.
ونتابع تكثيف صوفي آخر
يتبتلُ ساعةً وأخرى
يَعكفُ
يُرتّلُ آياتٍ.
نلاحظ من الأفعال الموحية الاستمرارية بحضور روحاني فاعل من (يتبتل، يعكف، يرتل)، سيميائية صوفية الإيقاع نستبصر منه مجاهدة النفس بجرس وجداني الأحاسيس، فيبدو من دلالة الاعتكاف تشبيه رائع للاتصال الروحي بالمحبوب آسر التناص، وهي درجة من مقامات العبادة الخالصة في الإنعتاق للمعشوق، كمقام الورع، ومنها يتعدد تأويل القارئ ورؤاه بمنتهى التذوق الأدبي وتخمينه الرؤيوي.
لنتذوق جمال مناجاة لِطَيف ذكرى الحبيبة بنزعة صوفية عرفانية من العتبات التالية:
مرَ بِها طيفُكِ ساعةَ سحرٍ
فظلّتْ مَركونَةً في زوايا ذكرياتٍ
يبدو قدرة التخيل الصوفي للغرباوي في تجلي الذكريات، رغم ما تشير الدلالة لبينية قصيرة برمز (ساعة السحر) زمن محدد ببعده الماضي، إلا أن من باطن الإيحاء تبدو سيميائية رمز السهر مستمرة في خاطر الشاعر بدلالة شدة التوق، ونرى الشاعر يوظف التناص المحبب والقريب لعشق التلقي وتذوق الكلمات، اذ استعار بتمكين تقني فاستجلب الزمن من قصيدة الشاعر السياب نستذكر منها (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر)، فنقرأها سيميائية تناص أدبي معشق بصوفية معتقة التوشح الفكري.
نستكمل الوجد الروحي في الصور الشعرية البسيطة التالية
وبقايا أُمنياتٍ تَسربلتْ
حُزناً سَرمدياً
نستبصره لمحات من سيميائية الوجع الأبدي في تعبيره الصوفي، يتراءى بمنولوج الهيام الروحي الذي سكن النفس فتداخل الشعور بين الروح والجسد وانحدر دواخل اللاوعي فتشرب فلسفة ميتافيزيقية الوجود وتسامت في رؤى العاشق وتوق ناسك فنلاحظ مفردات التناص من التراث الديني (تسربل، سرمد).
ولِننحو لرمز تناص آخر تاريخي من تراث حضارة (تموز) في الأنساق التالية:
جادَ به تَموز
فما عادَ لنا فرحٌ
وبما يشفع للقارئ أن يستمد طاقة رؤى من سيميائية رمز أسطورة تموز لموروث شعبي بمرونة إيحاء، وهو أحد ملوك سومر والذي يدعى ب (ديموزي)، استدعاء رمزي مفعم بخيال عميق الأثر ينضوي بمدار دلالي رحب لامتداد زمني من تراث اسطوري لماضي الأنسان (تموز)، ومازال ملتصقا بحاضره المؤثر، وقد برع الشاعر بتوليفها معا لتراث مرادف لأزمنة الحياة، وبإشارات متباينة الاعتقاد والتصور، يشحذ الإيحاء بتكثيف دلالي عن سيرة حدث ما يستذكرها الشاعر يوجع حزين، تحز في اعماق نفسيته يشابه حزن تموز حين سرقته الآلهة الى العالم السفلي وسلبته حريته قسرا، بذلك أوحى دليلا غائرا، مرمز الإستعارة والتشبيه عن اغتصاب الحريات من الشعوب العربية على وجه الخصوص، وأثرى المضمون ببعده الدلالي عبر توحده مع ذاتية الرمز، وكذلك منحه تواصلية فكرية التناص بتداولية التأويل لإلهام المتلقي ليتزود من تناصية التراث، ويبحث عن معرفة اسطورة أو حقيقة من حضارات قديمة، بدلائل الحزن الطاغي في الأنا المستشرية بذات حزن يلغي كل الأفراح.
ونستنتج هذا الحدث من الأنساق الموحية بصوفية بمنولوج نفسي
والموتُ يَنشرُ راياتَهُ السود
فوقَ سحابات بلدٍ خانتْ به
نفوسٌ أدمنتْ الغدر
نستخلص ما لرمزية الموت من سيمائية رهبة نفسية مؤلمة ميتافيزيقية الوجود، أشار لها الشاعر بتكثيف انزياحي وتشكيل جمعي للدلالة عن انتشار أشكال الموت، وتعدد اساليبه، وتنوع طرقه، بأسبابه الواهية (وأن تعددت الأسباب فالموت واحد)، ليوحي للتلقي سبب وجع التشتت بازدياد العنف والقتل والغدر الغير مبررمن عناصر مغتصبة البلاد والعباد، وشبهها بسحابات مظلمة ظللت أرض الوطن، واشار بوضوح التعبير وبساطة لغة لمن اتقن لعبة الخيانة، إحالة دلالية التأويل عن سيميائية الأعتداء على حقوق الإنسان وحريته الشخصية بسلبه حياته واستباح أفكاره وآراءه بتدميره فكريا وعقائديا.
خاتمة:
نلاحظ عتبة الانتقال الفجائي والتي تطير بالمتلقي على أطراف استغرابه بما يصدمه بخاتمة تمتشق حزن معتق عن وجع الوطن، وهي تورية عن حب مؤرخ بعمر يسترجعه الشاعر بكيان حلم يؤرقه دوما ألا وهو حب الوطن، وما يشي لأي حبيب بعيد غائب، فتتراكم من رواسب الغربه آهات الألم لشتات أحبة ما لبثوا ان تباعدت اماكنهم، يستعيدها الشاعر طواف عمر بفضاء الأسى، فاستبدال الحبيب بالوطن لا يلغي أي دلالة من السياق بل يوقرها جمالا، وبهذا سنرى ان ثيمة الحلم تستحوذ على صياغة دلالات سطوع الخاتمة بانفعال مقترن الشعور المتراكم الانتظار، وأن فعل التهادى يفترش وجع المسافات المطعونة بالفراق توحي بتجربة الشاعر الموجعة.
نستخلص بما تشي هذه الأنساق المتوائمة مع عتبة العنوان بانساق مترابطة كلما أوغلنا في تلابيب النص ووفقا لما استحدث من هذا التناظر الأدبي المتداول لمنطوق سيمائية النص أن خلق العلاقات مع وحدات النص بتشكيلة التركيبي تُحمله قيمة دلالية تتناسب مع مضمون سياقات النص بتشكيله الفني وبنائه التعبيري. وتضيف سينمائية المعنى الدلالي خصائص دينامية تتضمن ضوء الفكرة برؤى شعرية تنسجها لغة الشاعر، وهذا ما يؤكّده محمد مفتاح لأهمية التناص للشاعر وعدم استغنائه عنه فهو بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونهما ولا عيشة له خارجهما4. فالتناص أحد العناصر المهمة لقصيدة النثر الحديثة باستعارته اللغوية وتوظيفاته الرمزية لتكثيف الاثر الخفي للنص لاستباحة الحركة الذهنية للقارئ.
نصوص تثير ذهن القارئ ليعاود القراءة بتفقد الألم من بداية العتبات للخاتمة، بتفقد صوفية الرموز ووالتنقيب عن دلالات التناص المتنوعة الآفاق، ليرتع من دلالات الرموز بتأويلها ويستمد الرؤى من تراث الماضي ويغور بأزمنة استكشافه، وما يؤول على مدى مستحدث من تقنية العنونة ليُغني تساؤلهُ، فيبحث عما هو مستتر من إشارة، ورموز وعناصر تسري به لدفقات الخاتمة، يسترجع وظيفته التفسيرية ووجهته التحليلية وما يتوالد منه من تأويلات اخرى، وبهذا خلق الأديب ماجد الغرباوي تداولية رائعة بالتفاعل والتواصل الموضوعي من الخصوصية للتعميم بترابط متين، ينتقيها القارئ بلذة استكشاف المكنون بما توحى له رؤى تأمله، كما ويتقصاها الناقد بمنهجية إضاءات على مستوى إجرائي بما تتيحه دلالات رؤاه وانطباعاته الفكرية.
لا ابالغ أن أقول عن الباحث الغرباوي لكثرة ما نشر من قضايا فكرية تنويرية وما كتبته عن التسامح بين العقائد والأديان بعلمية باحث فذ، معتدل الآراء ببساطة الطروحات، يعد مشروعه المعتدل والخصب في تجليات العقل الواعي ذو فكر حضاري بمنهج أخلاقي وحرية قيم مسؤولة عن معالجة الكثير من إشكاليات قضايا عقائدية مبهمة مقيدة بتراث فكري تقليدي في المجتمع دون وعي بتطبيقها أو فهمها، وسعيه جاهدا ليفتح آفاق حرة للعقل العربي بتواصل الآراء من مفكرين وأدباء وقراء للاستفادة من فكره الثقافي وسماحة رؤياه العقائدية، وما أنجز من بحوث عصرية بحاجة لها الأمة الإسلامية خاصة، ومن خلال ما أنجز من بحوث ونتاجات أدبية من قصص وأشعار وإنجاز منهجه في النقد الأدبي والنقد الثقافي بعطاء يفيض حكمة وعقلانية، تعد تراثا متجددا تاريخيا وحضاريا لكثير من مصادر الثقافة وآفاق المعرفة لمكتبة العصور.
إذ الأبحار في أي نتاج للباحث القدير والإطلاع على رؤاه الفلسفية يتيح لنا سعة التماهي بعدة دلالات فكرية. ويفتح لنا آفاقا معرفيتا أخرى للتذوق الأدبي، اضافة لما ما نتوجسه من صوفية التلامس بين الفكرة والموضوع، والفرد والمجتمع، والخاص والعام، فيعطي بعدا آخر لتنفس القارئ، بما يفيض تصوره واختيار نقطة إنطلاقته الذهنية بتفكر مجزي، وتلك ميزة حاذقة في مضمون الجنس الأدبي تجلب المتعة للقارئ / الناقد والباحث عن التجديد الفكري.
***
أنعام كمونة – شاعرة وناقدة عراقية
...........................
* الدراسة منشورة ضمن كتاب تكريم ماجد الغرباوي، بعنوان: ماجد الغرباوي أنسنة التراث وعقلنة النص الديني، ج2، ص 589
هوامش
1 - الغرباوي، ماجد، الفقيه والعقل التراثي، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2020م
2 - سورة الأنبياء، الآية: 30.
3 - سورة الطلاق، الآية: 12.
4 - محمد مفتاح، الخطاب الشعري إستراتيجية التناص، صفحة 125.