أقلام ثقافية
صابر مولاي أحمد: حفيف النخيل (4): بائعو التمور
تعود بك الذاكرة إلى مختلف أشكال جداول الحقوق المتقاطعة فيما بينها، وأنت تمشي بين زحام صفوف النخيل، وعراجينه تطل عليك من الأعلى وهي تناديك وتجذبك إليها بلونها الأحمر والاصفر والبني... موسم جني التمور في الواحة يبدأ مع مطلع شهر شتنبر الشهر التاسع من كل سنة، ويمتد حتى آخر أيام شهر نونبر الشهر الحادي عشر من كل سنة، تدبير جني التمور يحتاج إلى جهد وتنظيم وتقديم وتأخير بين أنواع التمور المعلقة على أعناق النخيل، فالأولوية تكون لنوعية التمور التي توجه إلى الأسواق الأسبوعية... بعض التمور يفضل جنيها في الصباح الباكر، لأنها من النوع اللين واللزج، والبعض الآخر بالإمكان جنيه في أي وقت لكونه من النوع المتماسك، فحرارة الشمس لا تأثر في طبيعة تماسكه.
على طول أيام الأسبوع باستثناء يوم الخميس والجمعة، تتدفق على مختلف الأسواق وسط مختلف أرجاء الواحة، بعد شروق الشمس، مختلف الدواب المحملة بشتى أنواع التمور، المعبأة في مختلف سلال القصب الكبيرة والصغيرة الحجم، وتتحول الواحة إلى محج طيلة أيام الخريف لكل الباعة والمقبلين على تجارة التمور، وهم يقايضونها بمختلف السلع والبضائع.
أسواق بيع التمور تحكمها عادات ولغة تواصلية بين البائع والمشتري... يعرض المنتوج المعبأ في السلال أو في صناديق خشبية، في ساحة تسمى برحبة التمر، بدءا من طلوع الفجر إلى المنتصف الأخير من النهار، فالمزايدة والمناقصة على طول هذا الوقت بين التجار سارية المفعول... هناك من التجار من يكون سخيا في الرفع من قيمة الثمن ومنهم من يتصف بالبخل ويعرض أثمان بخسة ويبادر للحط من قيمة المنتوج ويصفه بأوصاف عديدة... والغريب أن البائع يستمع له ويعرض عنه بقوله (هذا ما أعطاه الله) وتكون هذه الكلمة خاتمة الكلام.
وقد تتعالى الأصوات عندما يقبل على البائع مشتر يلح كثيرا على شراء ما يرغب فيه، لكن البائع لا يرضى بالسعر المقدم له، حينها يتدخل رجال آخرون من جهة البائع أو من جهة المشتري من أجل خلق فرصة التراضي بين الطرفين، وهي عملية اقناع للطرفين بثمن معقول حتى لا تضيع فرصة البيع أو الشراء. وعند التراضي يتصافح الطرفين بشكل علني وتستبدل حبات التمر بالأوراق النقدية مصحوبة بعبارة، (الله يربحك) عند الثانية بعد الزوال يكون مجمل بائعي التمور قد استبدلوا سلالهم وصناديقهم بأوراق نقدية، وبعدها تجدهم في ازدحام داخل جنبات مجزرة السوق لشراء لحم الخروف أو الماعز أو البقر، الكل يرغب في استبدال أوراقه النقدية بكتل من اللحم، وقد يتجه آخرون لشراء انواع من الشاي والسكر والزيت والفواكه والخضروات ويتجه البعض الآخر عند بائعي قطع الثوب ومنهم من يتجه لشراء التبغ ومختلف مستلزمات الطبخ من أواني وغيرها...
داخل السوق يجلس البائعة جلسة القرفصاء أو واقفين، أما المشتري فهو يسير ذهابا وإيابا يترصد المدخل الرئيسي الذي يأخذ بائعي التمور إلى وسط مكان البيع لعله يجد فرصة ثمينة... الجالسين القرفصاء وصناديق تمورهم تنظر إليهم ولعلها تعاتبهم أو تبتسم إليهم، تقرأ في وجوهم ولحاهم الكثة وعمائمهم تعلوا رؤوسهم وجلاليبهم... محن الزمن وصعابه واحتياجاته... بعض الشباب منهم من هجر الجلباب والعمامة واستبدلها بلباس عصري ... السوق الأسبوعي في الواحة، فرصة للتواصل بين مختلف الباعة القادمين من كل الجهات، يجددون فيه العهد فيمنا بينهم، وقد يبدأ التعارف فيما بينهم، ويمتد مع طول الأيام لتترتب عنه زيارات متبادلة في الأعراس والأفراح والأحزان، وأحيانا تثمر مختلف تلك العلاقات مصاهرة بين الطرفين، في جنبات السوق يتم تداول مختلف أخبار ومستجدات الواحة، يتعرفون عن قرارات المخزن وأعوانه، ويتحققون أكثر من أخبار المقاومة ضد المحتل الفرنسي الذي ضيق عليهم الخناق حينها...السوق هو النافذة التي يطل من خلالها أهل الواحة على العالم من حولهم، بفضل القادمين من مختلف الأماكن البعيدة وبفضل الذين التقوا بهم...
بعد الزوال تجد بائعي التمور خاصة من كان مستعجل في قضاء كل متطلباته من السوق الاسبوعي. متجهين نحو فندق الدواب الذي يتمركز حوله أصحاب حدادة الصفائح الحديدية التي يتم تركيبها على حوافر الحمير والبغال بواسطة مسامير خاصة لتحمي الحوافر من صلابة وخشونة الأحجار على الأرض... فالمختص في تركيب الصفائح الحديدية على حوافر الدواب في مقام بيطري يفهم جيدا في أمراض الحمير والبغال فمنها ما يداويه بالكي والنار ومنها ما يداويه بوصفات أعشاب خاصة.
وأنت في عين المكان يبدوا لك وهو يعج بالحركة، وبائعي التمور يساعد بعضهم البعض الآخر، من أجل رفع حمولاتهم على ظهور البغال والحمير وينطلقون جماعات في العودة إلى قراهم، وعلى طول الطريق يتبادلون الاخبار فيما بينهم ويتمنون غدا أفضل وقد تطول الرحلة إلى ساعتين وأكثر، وقد تطول لنصف يوم أو أكثر، وهو وقت كافي لمن يجيد متعة الكلام ونقل مختلف الأخبار، التي يتعلق الكثير منها بوقائع وأحداث أهل القرية، من قبيل فلان أقبل على الزواج وفلان طلق زوجته، وفلان دخل في خصام مع أهله، وفلان خسرت تجارته... ومتعة في الوقت ذاته لمن يجيدون الاستماع، ويلقون بين الحين والآخر بكلمة أو بضعة كلمات، بهدف إثراء الحديث و اتساع مساحة الكلام. وفي طريقهم لا يغفلون تبادل مختلف الأخبار التي سمعوا بها عن المخزن وأعوانه، عن فرنسا وأعوانها واندحارها ورجوعها إلى الوراء، وعن الذين سافروا دون رجعة.
عند وصولهم إلى مختلف مداشرهم، فهم عرضة لمختلف الأسئلة، بقصد معرفة ما جدَّ واستجد من أخبار قادمة من السوق، تتعلق بأثمنة مختلف المواد الأساسية من قبيل الحبوب والقطاني، وأثمنة الأبقار والغنم... وذلك مؤشر لمن يرغب في بيع أو شراء في الأسابيع القادمة، أحيانا يجلب المتسوق معه خبرا حزينا، بأن فلان ابن فلان من قبيلة كذا...قد التحق بربه... وبأن القبيلة الفلانية دخلت في مناوشة مع جارتها نتيجة الخلاف القديم بين الطرفين حول حدود أراضي الرعي... فالسوق نقطة إذاعة مختلف الأخبار، منها ما يرتبط بأفراد بعينهم، ومنها ما يرتبط بعامة الناس والقوم وحالتهم، إنه فرصة تجعل الفرد يخرج من دائرة محيط قبيلته، إلى محيط أوسع، يصافح فيه ومن خلاله أناس آخرين، يختلفون عنه من حيث تقاليدهم وأعرافهم من حيث انتمائهم القبلي... ببساطة السوق نقطة تلاحم وتقارب بين مختلف القبائل، وكثيرة هي الحروب بين القبائل التي وجدت لها حلا، من تحت خيام الأسواق، وكثيرة هي محاولات التحريض ضد طرد المعمرين التي بدأت من الأسواق...السوق صلة وصل بين مختلف أرجاء الواحة عبر سرمدية الزمن، فكل شيء ذو منفعة يساق نحوه بما في ذلك الأخبار والأقوال والحكم والحكايات، فالسوق لا يخلوا من الحكائين ولا يخلوا من ذوي الفرجة من مروضي الحيوانات والطيور...
بائعي التمور لا يعرفون الادخار، إلا فيما هو نادر، ففي الأعم ما يجلبونه من بيع التمور، لا يغطي مختلف حاجياتهم اليومية، ولهذا فالتقشف عندهم ليس عيبا من عيوب الحياة، ما يخشاه رجال الواحة على طول حياتهم، وقد يعدون العدة من أجله، لأن الزمن علمهم بأنه سيحل بينهم دون إذن منهم وهم في غفلة من أمرهم، إنه قدر الزيارة المحتومة والتي لا مهرب منها، فالزيارة لزائر غير مرغوب فيه وغير مرحب به إنه الجفاف. فأهل الواحة استيقنوا بأن الجفاف قد يحل لسبعة أعوام ويرحل، أليست هذه تأويلية يوسف لرؤية الملك1. إنه القدر المحتوم، القانون الذي يعم كل فيافي الصحراء عبر الزمن، ولهذا من الطبيعي أن يفكر رجل الصحراء في الواحة وخارجها في الماء قبل التفكير في الطعام.
***
بقلم: د. صابر مولاي أحمد
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
..........................
1- قال تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"(يوسف) قال تعالى: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِ ي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)"(يوسف)